إذا وطئت قدمك أية مقهى سوف تجد نفسك قد اعتدت منظرا مألوفا ورتيبا، رغم ما يبطنه من حماس. ألا وهو مشاهدة مقابلة في كرة القدم، أعين تلهث وراء الهدف، تتتبع بجنون الكرة، وهي تتراكض من رجل إلى رجل أو رأس إلى رأس، لن تنعم بلحظة سلام مع رشفات كوب قهوة ذات مساء، وحولك أناس هربوا أحلامهم ومشاريعهم في مقابلات الدوري الاسباني أو الانجليزي، فستضطر إلى شفط قهوتك بسرعة البرق كي تترك مقعدك لأحدهم كان يرمقك بتقزز وكأنك قادم من كوكب أخر لأنك لم تعر المقابلة أي اهتمام، ثم سينقض على كرسيك كالنمر وكأنه حصل على صيد نادر . الكرة أصبحت سيدة المكان والزمان، وغدت البارصا أو الريال مهوى العقول والقلوب، الكثير من الرجال يتركون بيوتهم ونساءهم وأطفالهم في البيت لكي يحملقوا في قناة الجزيرة الرياضية، والأكيد أن هؤلاء يفرون إلى الكرة لأن لا شيء يثير شهيتهم في البيت حسب تكهنهم، فيفرون إلى الملاعب عفوا المقاهي ليدفنوا كوابيسهم فيها ويشاركون بعضهم البعض حلاوة انتصارات صنعتها أمم أخرى وشعوب لا تمت لهم بصلة، فتجد الرجل يسب ويلعن السابقين واللاحقين لمجرد أن البارصا خسرت اللقاء، وكأن مدرب الفريق سيدق عليه الباب ليلا ويشبعه شتما لتسببه في هاته الخسارة، والأدهى أنك ستجد رجلا يجلس بقربه منتشيا بالفريق الذي ألحق بالبارصا الهزيمة، وكأن اللاعبين سيجمعون له ثمن أضحية العيد أو يؤدون عنه سومة الكراء. إن من سخرية الأقدار أن تجد غالبية المقبلين على مشاهدة كرة القدم من الفئات الاجتماعية المسحوقة والتي تعيش ظروفا اجتماعية صعبة، في ظل سوء الخدمات المقدمة وانسداد الأفق أمام الشباب، في حين أن من أولى الأولويات هو استغلال الوقت في المعرفة والتعلم والاطلاع وقضاء متسع من الوقت مع الأولاد حتى لا يركنوا إلى الشارع، والإنصات إلى أنين الزوجة حتى لا ينقلب إلى بوق يضج بالشكوى . إن الرياضة عمل مفيد للعقل والجسم ولكن لمن يمارسها، أما الاكتفاء بوضع المؤخرات أمام قنوات رياضية فهو يزيد الجسد خمولا وترهلا وضعفا ويؤجل الأفكار والمشاريع التي نضعها في الرأس، ويضمر تقاسيم الوجه . لقد كانت دور الشباب والسينما والمسارح تضطلع بدور التثقيف وتربية الذوق للإنسان المغربي، ففتحنا أعيننا على جيل من الكتاب والمبدعين والفنانين في كافة المجالات فكانوا قدوة قل نظيرها، لقد ساهم جيل السبعينيات في النهضة المغربية وفي ظهور الكثير من الأعمال الخالدة وفي توجيه الشباب نحو ضروب الفن والثقافة والأدب وحتى الرياضة .لقد نجحت القنوات الرياضية في استبلاد العقل العربي وتعطيل نموه وتطوره وترسيخ ثقافة فرجوية هشة بعيدة كل البعد عن الواقع، تحت ذريعة تقديم فرجة مشوقة، ولكن الحقيقة أن هاته القنوات همها الأول هو الأرباح الخيالية التي تحصدها من النقل التلفزي . أصبحت الرياضة تجارة ، وحتى في المقابلات الوطنية التي تعتبر شرف البلد وكرامته دخلت سوسة البيع والشراء، فأصبح الوطن مضطرا إلى شراء صورته في المحافل الدولية. لقد أفسد رجال الفيفا حلاوة كرة القدم وحولوها إلى سوق يراكمون فيها الثروة، ففاحت رائحتهم وانفضح سوقهم، ولكنهم ما استطاعوا إلى زحزحة رئيسهم سبيلا . لقد أثرت الصورة الرياضية في الإعلام العربي على الأجيال الصاعدة، وقدمت لهم حلم الثراء السريع عبر ممارسة الكرة، مع أننا جميعا نعرف أن الوصول إلى فريق من الدرجة الأولى يحتاج الواسطة بعد الموهبة، وأن القليلين محظوظون في اللعب في الفرق الوطنية من الدرجة الأولى، فيتركون بذلك كتبهم وأقسامهم ويلهثون وراء أوهام، إن المكان الحقيقي للأطفال هو المدرسة وفي أوقات فراغهم يمكن أن يمارسوا هواياتهم بانخراطهم في الأندية والجمعيات التي تصفر في مقراتها الريح أين ذاك الجيل الذي كان يتراكض في الملاعب المتربة وكان الكثير منهم يجد له مكانا في الأندية الكبيرة، كم أنجبت لنا الشوارع لاعبين كبارا، لكن ماذا تنجب لنا المقاهي ومحلات البلاي ستايشن ؟ مجرد جيل مترهل متكاسل. من جهة أخرى عملت هذه القنوات على مصادرة انشغالاتنا الحقيقية التي يجب أن نوليها أهمية قصوى، في ظل الظروف التي تعيشها بلادنا، فانصرف الناس إلى تتبع أخبار الفرق وبورصة اللاعبين ومحافل الكرة مقابل المشاركة السياسية، والسعي إلى محو الأمية السياسية التي تعانيها فئة كبيرة من الشعب المغربي. لقد جعلتنا القنوات الرياضية كخرفان تلهث وراء سراب الماء، وتضيع الوقت في اقتناص متعة زائفة، تزول مع صافرة الحكم ليبدأ شوط الحياة المر الذي ينتظر منا الهمة والنشاط من أجل تغييره . إن المشاهد المغربي تجده يبحث عن الإثارة والفرجة أينما كانت : في الحروب أو في الملاعب، في الجرائم المروعة، وهذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة سيكولوجية وسوسيولوجية، نظرا للإقبال الشديد على مشاهدة نوعية خاصة من الفرجة .