إذا كانت الذاكرة الفردية هي، من جهة، مجموعة من الخبرات ومن التجارب والانطباعات التي يكتسبها الإنسان في حياته عن طريق الحواس في اتصاله بالعالم الخارجي، وهي، من جهة أخرى، مستودع لكل تلك التجارب والخبرات وكل الأحاسيس والمشاعر السارة وغير السارة المرتبطة بها، فإن الذاكرة الجماعية، باعتبارها كذلك، هي ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية ما بهويتها الحضارية؛ وهي، بهذا المعنى، سجل وتسجيل للحظات التاريخية الأساسية في حياتها. وبما أن السياسة، في كنهها وفي طبيعتها، هي عمل جماعي بامتياز، باعتبارها ممارسة ديمقراطية بين أفراد متساوين في المواطنة، فإن الذاكرة السياسية هي، بقوة الأشياء ذاكرة جماعية وجمعية، مما يستوجب الحفاظ عليها وصيانتها، ليس باعتبارها جزءا منسيا في عتمات الماضي، ولكن لأنها استحضار لذلك الماضي، من جهة، واستشراف للمستقبل، من جهة ثانية. ولعل المتتبع لخطابات الكثير ممن يحلو لهم أن ينعتوا بالفاعلين السياسيين، يجدها حافلة بالدعوة إلى نسيان الماضي والاتجاه مباشرة إلى المستقبل، بدعوى «حنا ولاد اليوم»، وكأننا «طايحين من الطيارة»، بدون أصل ولا فصل؛ وتكتسي هذه الدعوة، في نظري، خطورة كبيرة، لكونها إعلان لحرب على الذاكرة بسلاح قد يبدو للبعض مشروعا ومقبولا، لأن التطلع إلى مستقبل زاهر والحلم بتغيير مأمول، هو أعز ما يطلب في هذه المرحلة التي اختلط فيها ربيعنا العربي الزاهي، بغموض مواقف من أحس بانفضاح أمره وفقدان امتيازاته. لذلك، فإن الحذر واجب تجاه هذه الدعوات المشبوهة التي تأتي من بعض الجهات.. فشعار «حنا ولاد اليوم» الذي تجندت لرفعه جهات وأطراف لم يعد لها من هم سوى وأد الذاكرة وإلغائها، أي الإجهاز على كل ما هو جميل فيك، وفي، ومبعث فخر في حياتنا الحزبية والسياسية. وهي دعوات تريد أن تنسينا أعطابنا وخيباتنا التي تسببت فيها أيادي المخزن من خلال حكومات الأقلية التي كانت الدولة تضمن لها الأغلبية البرلمانية بالتزوير العلني؛ ويتستر دعاة الحرب على الذاكرة وراء شعار التجديد، وكأن التجديد (المفترى عليه)، لا حظ له في التحقق إلا بإعدام الذاكرة ، بينما للذاكرة، في السياسة كما في الفن، دورا أساسيا في كل عملية تجديد، كما يقول الفنان «لحسن زينون»: «لن نستطيع أن نجدد، إن كنا بلا ذاكرة». «حنا ولاد اليوم»، هي عبارة، قد يواجهك بها مخاطبك، في أي حوار ثنائي أو نقاش جماعي، لأن هؤلاء لا يريدون أن يعرفوا بأن ما تحقق من هوامش للحرية والكرامة، ما كان له أن يتحقق لولا التضحيات الجسام التي قدمها مناضلون مخلصون لأفكارهم ومبادئهم ... بل هم يريدون بكل صفاقة وقلة حياء إلغاء الماضي بما له وما عليه. بالطبع، من السهل، فهم دواعي هذا التجني على الذاكرة، كما أنه من السهل تصنيف أصحابه الذين نعرف لهم خبرا دون أن نعرف لهم مبتدأ. وبما أن الهدف الواضح من ذلك، هو طمس الحقيقة وإشاعة الخلط، حتى لا يتم التمييز بين الأحزاب، صنيعة الإدارة، وبين تلك التي تأسست استجابة لحاجات مجتمعية، وهو أيضا، إيهام للأجيال الجديدة (وحتى القديمة) بأنهم أصحاب مشروع حداثي وأصحاب أفكار جديدة قادرة على إحداث التغيير وإخراج البلاد من المشكلات التي تتخبط فيها، فإنه أصبح من الضروري التصدي لهذا الزيف بالوقوف على المشهد السياسي الذي يتحرك فيه دعاة و›منظرو› هذا الخطاب، واستنادا إلى بعض الوقائع والمعطيات التي يقدمها لنا الواقع الملموس، يبدو أن المشكل المطروح لدى هؤلاء يتلخص في البحث عن الشرعية. فحتى يستوي الماء والخشب، يجتهد من لا شرعية له (أو من شرعيته موضع تساؤل) في طمس شرعية غيره. ونقصد، هنا، الشرعية السياسية التي نقترح مقاربتها من خلال ثلاثة جوانب محددة لثلاث شرعيات: تاريخية ونضالية وديمقراطية. وأعترف، بداية، أنه من الصعب فصل هذه الشرعيات عن بعضها البعض، لوجود ترابط جدلي وواقعي بينها. لكن، بغير قليل من التعسف المنهجي، يمكن أن نقيم - قسرا- تمييزا بينها، مما يسمح لنا باستعراض بعض الحقائق المرتبطة بالماضي، قبل التطرق لبعض سمات الوضع الحالي. 1 في الشرعية التاريخية تجدر الإشارة إلى أن هذه الشرعية تشكل عقدة حقيقة ومزمنة عند الأحزاب حديثة التأسيس (أو التي تأسيسها، حتى وإن كان قديما، فإن فيه ‹إن›). وكل حزب من هذه الأحزاب ينظر إلى هذه الشرعية من منطلق تكوينه وظروف نشأته. فإذا كانت الأحزاب التي خرجت من رحم بعضها في حقبة الستينيات والسبعينيات قد جاء ميلادها تلبية لحاجات مجتمعية وضرورة إيديولوجية، واستجابة لديناميكية سياسية وحزبية، وبالتالي، ساهم خلقها في إضافة نوعية لمشهدنا السياسي والحزبي، فإن ميلاد أحزاب نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، لم يكن إلا تشويها للمشهد السياسي، لكون ميلادها لم يكن لا ضرورة سياسية ولا حاجة مجتمعية، اللهم من التطلع إلى إشباع الذوات المريضة بالعظمة أو البحث عن الاسترزاق السياسي عن طريق دعم الدولة، وإلا كيف نفك لغز أحدهم الذي بوأه حزبه ذو التاريخ النضالي الحافل كل فرص الظهور والنجومية، وفي ظرف زمني قياسي... «وبلا سبة وبلا فتيل لحبل»، يترك حزبه ليجعل من نفسه «زعيما سياسيا» في حزب بلا لون ولا طعم ولا رائحة، حتى إذا حل زمن التزكيات، نط ليأخذ له مكانا بالقرب من زعيم ج8 الذي حوله إلى ما يشبه الغراب الذي فرط في مشيته ولم يعرف كيف يسترجعها يوم الحنين إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه الأحزاب المستحدثة، فضلا عن الأحزاب الإدارية التقليدية، هي التي يدعي أصحابها أنهم لم يلجأوا لتأسيسها إلا لكون المشروع المجتمعي الذي تدافع عنه الأحزاب الوطنية، لا ينسجم مع تطلعات المواطنين ولا يلبي رغباتهم، ولا يقدم حلولا لمعضلات المغرب، وكأن هذه الأحزاب، لكونها أحزابا تاريخية، هي التي عطلت البناء الديمقراطي الحداثي المنظور، وليس المخزن الذي كان يحارب، بشتى الوسائل، كل تطلع ديمقراطي حقيقي. ولذلك، فإن الحديث عن الرصيد التاريخي وعن الذاكرة الوطنية، وكذا عن الشرعية التاريخية والشرعية النضالية، وغير ذلك من شهادات الاعتراف، يستفز هذه الكائنات ويجعلها تثور في وجه كل من يحاول، ولو من باب التناول التاريخي الموضوعي، أن يرد بعض الجميل إلى أصحابه. فيكفي أن تشاهد برنامجا حواريا في التلفزيون يتناول موضوعا سياسيا، لترى كيف أن من لا تاريخ له أو له تاريخ غير مشرف، يعمل بشتى الوسائل على تغييب التاريخ من كل نقاش، بدعوى أننا «حنا ولاد اليوم»، وكأني به يستعجل دفن الماضي، ليجد لنفسه شرعية سياسية، يعرف أن لا حظ له فيها، إن أصبح الوضع واضحا والتنافس على العطاء شريفا ونزيها. لذا، فشرعيته لن تقوم إلا على التنكر لفضل الغير ومجهوده؛ إنه، بشعاره السالف الذكر، يريد أن يساوي بين المناضل وغير المناضل، بين الصامد والمتخاذل، كمن يساوي بين الرفيع والوضيع وبين الشهم والرعديد وبين الشرعي واللقيط وبين الصالح والطالح، وبين الأعمى والبصير، وغير ذلك من الثنائيات (تجدر الإشارة إلى أن هذا القول يصدق كذلك على كل من يحاول أن يبيض سيرته أو سيرة غيره بدفوعات تساوي بين المناضل الحقيقي وبين المناضل المزيف داخل التنظيم الواحد، كما تساوي بين الزاهد في المنافع والمسؤوليات وبين الانتهازي والانتفاعي الذي لا يتورع في استعمال أساليب دنيئة للوصل إلى هدفه؛ لكن هذا ليس موضوعنا الآن). إن هذا النوع من السياسيين «للي قطر بهم السقف»، كما يقول المثل المغربي، يذكرني بذلك الأعمى الذي لا يكل من ترديد دعائه المفضل، وهو يحرك عصاه في كل الاتجاهات: «الله يكادها»، ويعني بها أن يصبح الناس كلهم عميانا، لأن المصيبة، كما يقول المثل، إذا عمت هانت. ومنطق كل فاسد، لا يختلف عن منطق هذا الأعمى، حتى لا يبقى لأحد ما يتميز به عن الآخرين. بالطبع، مقولة «حنا ولاد اليوم» لا تختلف كثيرا، في مرجعيتها وفي أهدافها، عن مقولة «أولاد عبد الواحد كلهم واحد»، التي تم الترويج لها بشكل كبير من قبل جهات متعددة لتمييع الحياة السياسية والتشويش على الأحزاب الحقيقية، بوضعها في سلة واحدة مع أحزاب صورية ومصطنعة، مما أشاع كثيرا من الخلط والغموض في الساحة السياسية، الشيء الذي ساهم بقسط وافر في تخاصم المواطنين مع صناديق الاقتراع، لكونهم فقدوا الثقة في كل المؤسسات (الدولة، الأحزاب، المؤسسات المنتخبة، الخ). فدعاة «حنا ولاد اليوم»، يجتهدون في طمس الذاكرة وجعل الماضي قطعة متحفية لا تأثير لها على الواقع الحالي، بينما هم يعرفون، حق المعرفة، أن ما تحقق لبلادنا من تقدم في مجال الحريات وحقوق الإنسان، ما كان ليتحقق لولا تضحيات مناضلي ومناضلات الصف الوطني الديمقراطي التقدمي، الذين أدوا الثمن غاليا في سبيل مبادئهم وقناعاتهم. فتلك النضالات هي التي عبدت لنا الطريق نحو ما ننعم به اليوم من حرية وهي التي أنارت لنا السبيل في سعينا المتواصل لبناء نظام ديمقراطي، قوامه ملكية برلمانية ومؤسسات قوية وفعالة، تستمد شرعيتها من السيادة الشعبية. لكن، هل يمكن أن ننتظر من الذي يفتقد الشرعية التاريخية ويعمل على سحبها من الآخرين بسبب ماضيه غير المشرف، أن يتوفر على الشجاعة الكافية ليعترف لهم بالشرعية النضالية. 2 في الشرعية النضالية يتمتع بهذه الشرعية، كل من ثبت على مبادئه ودافع عنها، سواء بانخراطه في عمل سياسي معارض لأصحاب النفوذ أو في عمل جمعوي يصارع من خلاله كل المثبطات من أجل توفير شروط إمكانية تصريف قناعاته وتنزيل مبادئه على أرض الواقع، أو من خلال وسائل أخرى يمكن أن يقدم بها خدمة لفائدة الغير. وبهذه الصفة يصبح فاعلا في محيطه ومؤثرا فيه، ويستحق أن يحمل صفة مناضل. وهذه الصفة تطلق على السياسي والنقابي والحقوقي وغيرهم ممن يتواجدون في الساحة، دفاعا عن أفكارهم وانتصارا لحقوق غيرهم. فالمناضل والمناضلة، إذن، هم من يقرنون القول والفعل. والمناضل الذي يهمنا، هنا، هو من يقاوم الاستبداد ويحارب الفساد، السياسي منه وغير السياسي. فمواقفه، التي تحتاج إلى جرعة «زيادة» من الجرأة والشجاعة، هي التي تمنحه الشرعية النضالية التي نتحدث عنها. لو أردنا أن نقارن بين الأمس واليوم، لوجدنا أن النضال قد أصبح سهلا في أيامنا هذه، لدرجة أن البعض، من كثرة ما يحسه من مرارة بسبب سيادة الانتهازية، أصبح يتمنى عودة القمع ليعود الناشطون المزيفون إلى مواقعهم الخلفية ويتركوا الساحة للمناضلين الحقيقيين. فالتطورات الإيجابية - التي حصلت، خلال العشرية الأخيرة، في مجال الحريات وحقوق الإنسان، جعلت البعض ينسى (أو يتناسى) أن المغرب مر من فترات حالكة تميزت بأشرس أنواع القمع وأفظع أساليب القهر والاضطهاد والحرمان، أطلق عليها اسم سنوات الجمر والرصاص- لم يكن لها آنئذ إلا المناضلات والمناضلون الذين زج بالمئات، بل بآلاف منهم في غياهب المعتقلات السرية والمنافي، بل منهم من قضى تحت التعذيب... ومن كان مماريا في حجم التضحيات التي قدمها أشراف هذا الوطن، وعلى رأسهم مناضلات ومناضلو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، فما عليه إلا الرجوع الى ملفات هيئة الإنصاف والمصالحة. فالشرعية النضالية والتاريخية تطلبت، من صانعيها، كثيرا من الشجاعة ومن الصبر ومن المعاناة، ليكون لنا اليوم حق في إبداء الرأي، وحق في المشاركة في الحكم، وحق في كرامة مصونة... وعلى سبيل المثال لا الحصر، نسوق مطلب الملكية البرلمانية الذي أصبحت تلوكه كل الأفواه ويجري على كل لسان اليوم، بينما كان بالأمس يؤدي بصاحبة إلى ما وراء الشمس وإلى كل أشكال القمع والاضطهاد، لأنه مطلب أزعج الحاكمين كثيرا لما ينطوي عليه من المطالبة بالإقرار بالسيادة الشعبية، التي لن تتحقق إلا عن طريق انتخابات شفافة ونزيهة، أي بواسطة الديمقراطية الحقيقية التي كانت، في الماضي، مطلبا عزيزا، وكان لها ثمن باهظ. 3 في الشرعية الديمقراطية يتبين من خلال ما سبق، أن مطلب الديمقراطية كان حاضرا في كل النضالات التي خاضتها القوى التقدمية ضد الحكم الفردي وضد الاستبداد بكل مظاهره. فالشرعية التاريخية والنضالية أسست للشرعية الديمقراطية التي يحاول المغرب، اليوم، أن يجعل منها، نظريا على الأقل، شرعية الشرعيات. فالدستور الجديد يعطي للمؤسسات مهاما واضحة وواسعة تستند إلى الدعم الشعبي الذي ستوفره صناديق الاقتراع في انتخابات شفافة ونزيهة، قادرة على إحداث التغيير المطلوب لبناء الملكية البرلمانية، وإن كنا نرى أن هذه الانتخابات يتهددها شبح العزوف وخطر الإفساد من قبل تجار وسماسرة الانتخابات، خصوصا وأن التقطيع الانتخابي لا يساعد على حبط مناوراتهم ومخططاتهم. إن ما عاشته التجربة الديمقراطية، منذ انطلاقها في أواسط السبعينيات، من صنوف الغش والتلاعب، حيث كانت الدولة، في شخص وزارة الداخلية، تفبرك الأحزاب (الأحزاب الإدارية، نقصد) وتزور الانتخابات وتصنع الأغلبيات ، الخ، ما كان له أن يكون لو أن الأحزاب الوطنية الديمقراطية والتقدمية قد أحجمت عن المشاركة في تلك الانتخابات ؛ لكن مشاركتها الفعالة فيها دفعت الدولة، التي كانت لا ترغب إلا في ديمقراطية صورية (ديمقراطية الواجهة)، إلى الكشف عن بشاعة وجهها الحقيقي، وذلك باعتمادها التزوير المفضوح والمكشوف أسلوبا ومنهجا، جعل البلاد، في نهاية التسعينيات، «قاب قوسين أو أدنى» من السكتة القلبية الشهيرة. إن مشاركة الأحزاب الوطنية الديمقراطية والتقدمية في كل الاستحقاقات التي عرفتها بلادنا، رغم قناعتها بأنها لن تكون نزيهة، عززت الشرعية التاريخية لهذه الأحزاب وكرست شرعيتها النضالية، لكونها ناهضت، وقاومت وفضحت... الأساليب المخلة بالديمقراطية والمضرة بالبلاد. ومما يؤكد صواب اختيارها، حضورها الوازن، الآن، في الساحة السياسية، ليس فقط كقوة اقتراحية، بل وأيضا كقوة فاعلة، إن على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي، بينما، هناك أحزاب، لن يجادلها أحد في شرعيتها التاريخية، لكن شرعيتها الديمقراطية غير مؤكدة، حتى لا أقول غير موجودة، بسبب تفريطها في الحضور الفعال في الساحة الذي، لوحده، يعطي الشرعية النضالية ويؤسس للشرعية الديمقراطية. وأقصد بهذا الكلام حزبين تاريخيين، هما حزب الشورى والاستقلال وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. فلكون هذا الأخير قاطع كل الاستشارات الشعبية التي انطلقت منذ سنة 1976، بحجة عدم توفر شروط تحقيق الديمقراطية الحقيقية، فإن النتيجة كانت هي اختفاء صوت هذا الحزب من الساحة، خصوصا بعد وفاة زعيمه المرحوم عبد الله إبراهيم، بينما أحزاب الكتلة (الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية) حققت الجمع بين الشرعيات الثلاث: فشرعيتها التاريخية ليست موضع تساؤل وشرعيتها النضالية ثابتة بحضورها الفعلي في الساحة وشرعيتها الديمقراطية تؤكدها وضعيتها التمثيلية في مؤسسات الدولة والمجتمع. إننا لا نريد أن ننزع الشرعية عن أحد، لكن من حقنا أن ننازع في الشرعيات المزيفة أو القسرية. فأن يتم استنبات تنظيم سياسي وبفمه ملعقة من ذهب، هو ضرب لكل الشرعيات! وتشجيع لكل التجاوزات! وتثبيط للعزائم والإرادات الحسنة! وإحباط للآمال والطموحات المشروعة في العيش في كنف مجتمع تسود فيه المساواة بين الأفراد والهيئات والمنظمات. وإذا كنا، بالفعل، «حنا ولاد اليوم» (لكن، بالطبع، لسنا «بحال بحال»)، فعلى الجميع، ونحن على أبواب الانتخابات، أن يتعبأ، ليس لكسب المقاعد بكل الوسائل، بل لمحاربة الفساد السياسي والانتخابي، وقطع الطريق أمام الفساد المالي والإداري وغيرهما. فهل للدولة استعداد حقيقي للتجاوب مع مطلب إسقاط الفساد الذي رفعته حركة 20 فبراير، النسخة المغربية للربيع العربي. إننا نسائل الدولة، لأن لديها ما يكفي من الوسائل المادية والبشرية لضبط الغش ومحاربة الفساد الانتخابي الذي تلعب فيه بعض الأحزاب دورا محوريا. والدولة تعرف جيدا هذه الأحزاب التي قامت على الفساد، في عهد الملك الراحل. إننا لا نريد أن نستبق الأحداث، لكن التسخينات التي سبق أن أشرنا إليها في مقالاتنا السابقة، والولائم التي تحدثت عنها الصحافة واحتجت عليها أربعة أحزاب وطنية بمكناس، والتي بطلها قائد الجوقة الثمانية (ج.8) بمساعدة أحد رموز الفساد الانتخابي الممنوع قضائيا من الترشيح منذ 2007، كل ذلك يوحي بأن شيئا ما يطبخ في دهاليز صناع الخرائط السياسية ومحترفي الفساد السياسي الذي يمنح الحماية لباقي أنواع الفساد الأخرى، مما يعني أن جزءا من الطبقة السياسية، وربما الأكبر، لم يستوعب ما يجري حولنا، لأن الربح قد أعماه حتى أفقده حس استشعار الخطر . ففي الوقت الذي يدعو فيه ملك البلاد إلى الارتقاء بالعملية الانتخابية إلى مستوى ما يقتضيه التنزيل الديمقراطي للدستور الجديد، نجد أن بعض الكائنات الانتخابية لا تأبه لما يقال، ربما لكونها لم تلمس بعد من السلطات الحزم المطلوب. فهل تغاضي هذه السلطات هو لحاجة في نفس يعقوب قضاها أم أن الأمور ستعرف بعض الجدية؟ وعلى كل، فما غد لناظره ببعيد!!!