للفينومينولوجيا كفلسفة تركز اهتمامها على التأمل في الظواهر من حيث النشأة والتكوين، اراء مهمة في مجال الحقل الأدبي، فهي ترى أن النص هو معطى له وجوده الماهوي شأنه شأن باقي الظواهر الأخرى، لكن آليات إدراك معناه تختلف عن تلك التي ندرك بها الظواهر الأخرى، وهذا ما يدفعنا ألى إعادة التأمل في هذه الفلسفة من جديد الفينومينولوجيا و الفهم الأدبي ترى الفينومينولوجيا أن «المعنى» الأدبي لا يتكون في التجربة أو من خلال المعطيات الخارجية و القيم السابقة، بل يتكون من خلال شعورنا القصدي اتجاهه، ويقتضي ذلك أن المعنى الأدبي الذي تساهم في بنائه مختلف السياقات السابقة بحسب تصور مناهج النقد الحديث، هو معطى مستقل عن الوعي، بل و يوجد في مسافات بعيدة عنه . لكن القول بذلك لا يعني أن المعنى الذي ندركه هو شيء مستقل تماما عنا، بقدر ما يعني فقط أن « المعنى» يوجد في وضع مستقل عن ذواتنا، بالشكل الذي يجعله في معزل عن إسقاطات الذات، أو تأثير الواقع .. لهذا فإن القول بوجود موضوع مستقل عن وعينا لا يعني أنه كائن في وجود ماهوي بعيد عن مجالنا، لأن المعنى شيء يتكون داخل وعي الذات المدركة، عبر اللغة و بطريقة حدسية و لا ينشأ إلا بعد تكْون الظاهرة، وتبعا لذلك فإن المعنى النصي لا ينشأ بسبب السياق الخارجي، أو الذاتي/النفسي أو اللغوي، بل ينشأ تبعا لعلاقة شعورية خالصة لا تتدخل في تثبيتها معطيات خارجة عن راهنية اللحظة الآنية، بحيث يكون المعنى المدرك غير قابل للتغيير لأنه «دوما فعل مقصدي، يأتيه فرد معين في لحظة زمنية محددة ..»(1) لكن السؤال المطروح حاليا هو: كيف يمكن للقارئ أن يفهم النص بعيدا عن السياق الذي أفرزه؟ وماهي آلياته المنهجية في ركوب هذا الفهم المغاير و البعيد عن نمطية المنهج النقدي؟ يبدو أن إدراك المعنى في النص الأدبي لا يخرج عن سياق عمل الوعي أثناء إدراكه لموضوع الظاهرة والتي قلنا بصددها أنها توجد في وضع ماهوي مستقل عن إسقاطاتنا الذاتية أو الواقعية : فالناقد الفينومينولوجي يضع المعنى الأدبي بين قوسين انطلاقا من تقنية «الرد والتعليق» التي ينهجها كل ناقد ظاهراتي يروم إلى فهم موضوع ما، وتبعا لذلك فإن الوعي المدرك/ قارئ النص، يقوم بتعليق كافة الأنشطة القبلية التي قد تورطه في اكتساب وعي موجه « أو خاضع لتأثير سياق خارجي أو ذاتي . انطلاقا من هذا يتبين لنا أن وضع النص الأدبي بين قوسين يقوم إجرائيا على تجاهل السياق التاريخي الفعلي للعمل الأدبي من خلال استبعاد مؤلفه و ظروف إنتاجه و قراءته، كما يتم تعليق كافة المقاربات السابقة حتى يتم تلقيه من زاوية «الوعي الخالص» الذي يتجه صوبه أثناء فعل قراءته . و مما يدل على ذلك كون «النقد الفينومينولوجي يهدف إلى قراءة» محايثة « تماما للنص لا تتأثر مطلقا بأي شيء خارجه «(2). إن القيمة البالغة للمقاربة النقدية الفينومينولوجية للنص الأدبي تكمن في التوقف عن الحكم على النص الأدبي باعتباره وليد سياق ما أو ظروف معينة، أو باعتباره حالة اجتماعية أو نفسية أو كونه نتاج إرهاصات ذاتية، بل النظر إليه إليه على أساس كونه «وحدات معنى» وبالتالي يتم « اختزال النص نفسه إلى تجسيد خالص لوعي المؤلف: فكل جوانبه الأسلوبية والسيمانطيقية تدرك على أنها أجزاء عضوية في كل مركب، الجوهر الموحِّد له هو عقل المؤلف.. » (3) على أن معرفة عقل هذا المؤلف لا تتم إلا من خلال « فهمنا « لأشكال تجلياته داخل النص... من هذا المنطلق يتم الاستغناء عن كل ما له علاقة بالمؤلف خارج المعطيات النصية. «فالنقد البيوغرافي ممنوع، بل نرجع، فقط، إلى تلك الجوانب من وعيه أو وعيها التي تبتدئ في العمل ذاته، وفضلا عن ذلك، فنحن مهتمون «بالبنيات العميقة» لعقله، والتي يمكن أن نجدها في التيمات المتكررة ومنظومات الخيال، وبإدراك هذه الأشياء فإننا ندرك الطريقة التي «عاش» بها الكاتب عالمه...» (4) الفهم وعلاقته بالسياق في مناهج النقد الحديثة أولت مناهج النقد الحديثة اهتماما كبيرا بالسياق و دلالاته، لما يشكله من دور مهم في المساعدة على فهم دلالات النص الأدبي و فتح مغاليقه. فقد وجدت هذه المناهج أن إدراك ما يقوله النص أو ما يسكت عن قوله، رهين بتمثل السياق الذي قيل فيه، لهذا كان السياق هو مفتاح الدلالة الذي ينبغي أن يلم به كل ناقد رام إلى تحليل بنياته الدلالية. وليس أدل على أهمية السياق في مقاربة هذه البنيات من كونه يضطلع بأفعال تترجم بعمق أهميته البالغة في تحديد الدلالة، وتوضيح المعنى. فمن هذه الأفعال «الاحتضان»،و «الإنجاز»،و»الولادة» بحيث تطالع الدارس في مستهل بحثه في دلالات النص المدروس، أسئلة من قبيل: ما هو السياق الذي أنتج هذا النص؟ أو ماهو السياق الذي احتضن النص؟ أو ما هو السياق الذي ولد هذه الدلالات؟ إذن فللسياق فضل تحديد دلالة النص وفهم معناه، وإنتاج نوع من الفهم له نابع من القناعات المنهجية التي تؤطر عمله النقدي. فالناقد الاجتماعي يولي عناية أولية بالظروف الاجتماعية و السياسية التي أثرت في توجيه المعنى. فيبحث في هذه الظروف عن الأصول الاجتماعية الكامنة وراء المعاني و عن الدلالات السياسية الكامنة فيها . أما الناقد النفساني فيهتم بالسياق الشخصي لمنتج النص من حيث المؤثرات النفسية و العقلية التي أثرت في كتابته ، فوراء كل معنى تقبع مجموعة من الرواسب النفسية و العصبية التي لا تكون دائما وليدة لحظة كتابة النص. بل قد تمتد بعيدا إلى مراحل متقدمة من عمر منتجه ، كالطفولة مثلا، التي يولي لها هذا المنهج أهمية بالغة. أما الناقد البنيوي ، فيرى أن سياق النص لا يخرج عن إطار بنيته المغلقة، وبالتالي ففهمه يستدعي أولا فهم دلالات السياق اللغوي بما ينطوي عليه من تعقيد وتداخل بين مكوناته التركيبية و البلاغية و الصوتية الجزئية ، ثم تفكيك هذه المكونات و إدراك دلالاتها في سياق بنية النص الكبرى و النهائية. هكذا نلاحظ أن السياق و دلالاته يخضعان لتلوينات المنهج النقدي الذي يتبناه قارئ النص، لكن الذي نسجله هنا هو عدم استقرار دلالة السياق على منحى تعريفي واحد ، فهو تارة ، الإطار الحاضن لولادة المعنى، وهو تارة أخرى مجموع العوامل الاجتماعية و النفسية واللغوية التي أدت إلى بروز نوع من المعاني الدالة على فكرة ما، دون أخرى، ف»...السياق هو الذي يكشف عن الرؤية من خلال منهج معين ، فالناقد يستطيع من خلال تبنيه منهجا اجتماعيا أو نفسيا أو تاريخيا ? أن يتتبع درجات تشكل الفكرة ، من خلال السياق ، فنمو الفكرة رهن بما يضيفه السياق إليها بحيث يصبح هذا السياق نشاطا من نشاطات الفكرة أو إفرازا لها ، وفي الوقت نفسه مشكلا لها «.( 5) آليات إدراك المعنى في النقد الفينومينولوجي الحديث إذا كان فهم النص رهينا بإدراك السياق الذي أنجز فيه عند مختلف المناهج النقدية الحديثة، فإن الأمر يختلف كثيرا في تصور النقد الفينومينولوجي للخطاب الأدبي، ولعل مرد ذلك يعود بالأساس إلى التميز الفكري الذي يحظى به هذا النقد مقارنة بباقي المناهج الأخرى، فإذا كانت هذه المناهج تنطلق من هاجس فهم النص الأدبي انطلاقا من وعي منهجي قار و محدد، يسعى إلى امتلاك تلابيب المعنى بواسطة ميكانيزمات معينة و آليات محددة، وفي سياق واضح، فإن النقد الفينومينولوجي ينطلق من وعي مغاير يضع في أولوياته المنهجية مساءلة وعي القارئ نفسه قبل مساءلة وعي النص. لهذا يمكن القول إن السياق في التصور الفينومينولوجي للنص الأدبي هو السياق المؤسس لوعي القارئ في علاقته بالمقروء، وبعبارة أخرى، إنه الوعي الخالص الذي تحمله الذات القارئة بعيدة عن تقاطعات المعطيات الخارجية أو الذاتية أو الشخصية.. إذن فبالنسبة للنقد الفينومينولوجي فإن استدعاء السياق لاستقصاء عوالم النص الداخلية هي دعوة غير ذات جدوى ولا يمكن أن تنتج أي فائدة، لأن النفاذ إلى عالم النص لفهمه وإدراك مغليقه هو بمعنى آخر نفاذ إليه من جهة كونه جزئية من جزئيات وعي صاحبه. ولعل هذا ما دفع النقد الفينومينولوجي إلى مناشدة الموضوعية والنزاهة الكاملتين. فلابد للناقد أن يطهر نفسه من ميولاته الخاصة، وأن ينظر إلى النص بعيدا عن عاطفته بحيث يستطيع إعادة إنتاجه بأكبر ما يمكن من الدقة وعدم التميز، « فإن القارئ يضع من ضمن اهتمامه أن يصدر أحكام قيمة على هذه النظرة الخاصة للعالم، بل أن وضع ما كان يعنيه للكاتب أن « يعيش» هذه النظرة..»، (6) فهل يمكن القول تبعا لذلك أن المنهج الظاهراتي يتأسس وفق نظرة استبطانية للنص- ما دام أنه يستبعد كل المعطيات الملتفة حوله وحول صاحبه- الحقيقة أن فرضية استبعاد التوصيف الاستنباطي وحتى التجريبي تظل قائمة ما دام أن النزعتين تظلان في موقع بعيد جدا عن أي مقاربة ظاهراتية، إن الرؤية هنا تنهض على فعل « الكشف» عما هو معطى، وإلقاء الأضواء على هذا المعطى . « فهذا المنهج لا يصطنع طريقة التفسير بالالتجاء إلى بعض القوانين، كما أنه لا يقوم بأي استنباط ابتداء من بعض المبادئ ، بل هو ينظر مباشرة إلى ما هو في متناول الوعي، ألا وهو الموضوع ...» (7) نستطيع أن نقول بعد استعراضنا لنشاط القارئ الفينومينولوجي وطرق إدراكه للمعنى الأدبي، أن السياق لا يحظى بالأهمية المعرفية التي يحظى بها في باقي التلقيات المنهجية الأخرى، فإذا كانت هذه الأخيرة تعتبره مؤشرا على فهم موضوعي مؤسس على معطيات نصية لغوية أو خارج نصية واقعية وشخصية فان النقد الفينومينولوجي يتجاوز هذه المعطيات ويركز جهده المعرفي على تحليل تجليات المعنى في وعي منتجه باعتباره الكائن الوحيد القادر على احتضان النص كموضوع يتجسد في أجزاء عضوية تحمل معاني محددة..لهذا لا يستغرب القارئ إذا وجد أن بعض محددات السياق فى التصور النقدي الفينومينولوجي قد تشوش أفق انتظاره ومنها : الكلمات .. بؤر النص وأنظمته المفتوحة.. يرى الناقد الفينومينولوجي أن النص يمارس حضوره من خلال نشاطه اللغوي لكن ليس من خلال كونها نظاما مغلقا أو نسقا تركيبيا ، بل من خلال كونها تمارس فعلا مغايرا إذ إن النص لا يكون إلا من خلال اعتبار لغته مستودعا لخبرات واسعة، أي اعتبارها كتاب الإنسانية المفتوح الذي يستوعب كافة الطاقات والقدرات التعبيرية وأن انفتاحه رهين بمدى القدرة على استيعاب طاقته اللغوية، هكذا فللخروج بفهم قار للنص ولإدراك تام لدلالته لا بد للقارئ الفينومينولوجي أن يعيد النظر في فكرة الكلمات وتصحيح ما يبدو لنا الآن بديهيا حولها. لقد أَلِفَ الدارسون أن الكلمة هي مفردة تدخل مع سلسلة من المفردات في سياق يشكل الجسد التركيبي للنص. لكن الناقد الفينومينولوجي - عكس ذلك - يعتبر الكلمة بمفردها سياقا، بل بؤرة لسياق. والنص تبعا لهذا ينشأ من أجل مواجهة هذه الكلمات، يقول أحد رواد الفينومينولوجيا والتأويل في النقد العربي الحديث، الدكتور مصطفى ناصف « ويتضح الأمر على أبشع صورة حين نسمي الكلمات، كما سمعنا، مفردات، وحين نجعل السياق مركبا يتألف من هذه المفردات . إن الكلمة سياق يدخل في سياق. ولو نظرنا إلى الكلمة باعتبارها بؤرة سياق لكان هذا أولى . إن النصوص تنشأ من أجل مواجهة كلمات ..» (8) فالرؤية الفينومينولوجية للسياق ترى أن الأخيرة هي حمولات دلالية متعددة ذات أنظمة خاصة لا يمكن الظفر بها - المدلولات - إلا بالتخلص من الخلفية الفكرية التي نحملها اتجاه مفهوم الكلمة نفسها ... واعتبارها سياقا بذاته ، بل « لو نظرنا إلى الكلمة باعتبارها بؤرة سياق لكان هذا أولى ... « (9) إن عمق الرؤية الفينومينولوجية تقوم على التحرر من الرؤية المعتادة للموضوع، فالكلمات التي تشكل جسد النص و تؤسس بناءه الدلالي وتعلن هويته هي أيضا بؤر دلالية تمارس وجودها باعتبارها أنظمة وعوالم مفتوحة، لكنها ممتنعة البوح عما تحمله من دلالات. ولا يمكن للنص أيا كان جنسه ? أن يؤسس لحضوره في ذهن المتلقي إلا بالإيمان بأن « النصوص تنشأ من أجل مواجهة كلمات ..»وأن كل «نص يحيل بعض الكلمات على الأقل، إلى تساؤل خصب، مبارك.. ومعنى ذلك أن النص يعيد تكوين الكلمات، وإخضاعها لسلطان قوي غريب. ولكننا دأبنا على أن نتصوره كوحدات ينضم بعضها إلى بعض انضماما سطحيا .».(10) لا يجوز تبعا لذلك أن ننظر إلى الكلمات في النص باعتبارها وحدات دلالية مستقل بعضها عن بعض، وإنما الكلمات هي بؤر وسياقات متداخلة تشكل في مجموعها ما نسميه نحن بالنص. إذن هذا ما يفسر التأكيد على ضرورة اعتبار الوجود اللغوي في النص ينطوي على عوالم عميقة أو هو بمثابة مستودع لخبرات واسعة. فالناظر إلى النص الأدبي ينبغي أن يعتبر ما كان يسلم به من بديهيات هو الآن محط شك وارتياب. وعليه أن يغير جهازه المفاهيمي الذي من خلاله يعقلن قراءته أثناء تلقيه للنص. يجب أن يركب العوالم المجهولة التي تحملها الكلمات بل يجب أن ينظر إلى الكلمات على أنها مفاتيح/مغالق النص، إن الكلمات في النص هي أصول ومبادئ أو منابت الأفكار التي يريد الكاتب أن ينقلها للقارئ. وعندما تكون الكلمة كذلك يمكن أن تصبح البؤر الدلالية التي تتمركز حولها كل العناصر الأخرى المساهمة في تشكيل نسيج النص لأن « الكلمات الأساسية إشارات تتحرر من سياقاتها الجزئية التي تخدمها ، فقد كان مالا رميه يقول: إن الشعر يُصْنَعُ من كلمات لا من أفكار ...»(11) نستنتج من خلال ما سبق أن مفهوم السياق في التصور الفينومينولوجي، يحتاج إلى دراسات مستفيضة و وقفات تأملية،لإعادة النظر في مختلف المكتسبات المعرفية، ولبلورة وجهات نظر جديدة تعيد قراءة المفاهيم بشكل مغاير لما هو مألوف في الدراسات النقدية الحديثة. هوامش: 1/ الظاهراتية و الهرمونيوطيقا و نظرية التلقي: تيري انجلتون ص21 مجلة علامات ع3 1995 2/ مقدمة في نظرية الأدب: تيري انجلتون ص/55 . 3/ نفسه. 4/ نفسه ص/56. 5/ السياق الأدبي: دراسة نقدية تطبيقية/ دكتور: محمود محمد عيسى ص40/41 ط1 / 2004 6/ مقدمة في نظرية الأدب: تيري انجلتون ص/55 . 7/ دراسات في الفلسفة المعاصرة : د زكرياء إبراهيم ص327 مكتبة مصر القاهرة. 8/اللغة والتفسير والتواصل: د مصطفى ناصف ص 76/ عالم المعرفة ع193 يناير 1995 . 9/نفسه . 10/ نفسه 11/ صوت الشاعر القديم د مصطفى ناصف،ص/6 الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1992