نُشرت بمجلة علم الفكر العدد رقم 1 من المجلد 39 (يوليو – سبتمبر 2010 ) دراسة بعنوان: “جمالية التلقي وتجديد تاريخ الأدب” للدكتور سعيد الفراع. هذا الموضوع أثار انتباهي لأنه يندرج في صلب تخصصي، تصفحته واتجهت مباشرة إلى القضايا الشائكة لعلي أجد فيها حلولا مغايرة لما انتهيت إليه في أطروحتي لنيل الدكتوراه، لكنني فوجئت بعبارات وأفكار ونصوص مأخوذة، بدون أية إحالة، من أطروحتي حرفيا حينا، وبتغييرات طفيفة أحيانا أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأطروحة نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سنة 2000، ( وتوجد نسخة منها بخزانتها)، وحصلت على ميزة مشرف جدا مع توصية بنشرها. وبالفعل فقد نشرت جامعة سيدي محمد بن عبد الله جزءا منها تحت عنوان “تاريخ تلقي الشعر العربي القديم: نماذج من تلقي شعر أبي نواس”، وصدر هذا الكتاب سنة 2005 ضمن منشورات “مشروع البحث النقدي ونظرية الترجمة، وحدة النقد الأدبي الحديث والمعاصر”، الذي كان يشرف عليه الدكتور حميد لحمداني في إطار البرنامج الموضوعاتي لدعم البحث العلمي بروتارس 3 سنة 2005. وبما أن الدراسة التي نشرها سعيد الفراع بمجلة عالم الفكر قد خرجت عن بعض مما تصبو إليها المجلة من “معرفة أصيلة وفكر راق”، كما ورد في التقديم الذي خص به الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب هذا العدد، فقد قمت بقراءة هذه الدراسة قراءة متأنية حاولت من خلالها استخلاص أبرز النصوص، والأفكار، والعبارات المترجمة التي أخذها سعيد الفراع دون مراعاة للأصالة المعرفية والرقي الفكري الذي رسمته المجلة لنفسها منذ نشأتها. وقد حرصت على تسجيل ما ورد في بحثي وتحته ما ورد في بحث سعيد الفراع تيسيرا للمقارنة، وذيلت هذه المقارنات بتعليقات تبرز بوضوح أن سعيد الفراع يفتقر للأسف للحد الأدنى من أخلاق الباحث. كما أنني اكتفيت بالنماذج الواضحة، وصرفت النظر عن نماذج أخرى كثيرة قد تستغرق منى وقتا أطول ومجهودا أكثر. تجدر الإشارة إلى اعتمدت في هذه المقارنة على كتابي : ” تاريخ تلقي الشعر العربي القديم: نماذج من تلقي شعر أبي نواس”، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله، “مشروع البحث النقدي ونظرية الترجمة، ضمن البرنامج الموضوعاتي لدعم البحث العلمي بروتارس 3، مطبعة انفو برانت، الليدو فاس، الطبعة الأولى، 2005، مع العلم أن بعض ما أورده سعيد الفراع في دراسته مختلف اختلافا طفيفا من حيث الصياغة عما ورد في كتابي، لكنه مطابق تماما لما ورد في أطرحتي قبل تعديلها وتقديمها للنشر، مما يوحي بأنه أخذ هذه النصوص والأفكار من نسخة الأطروحة الموجودة بمكتبة كلية الآداب ظهر المهراز فاس. * * * 1 (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 61 ولئن كان ياوس صاحب الفضل في استخدام “أفق التوقع” في هذا السياق، فإنه ركز بالخصوص على إبراز طريقة اشتغاله، فوصفه بأنه نسق من الإحالات قابل للتحديد الموضوعي يسمح بقياس استعدادات القارئ لتلقي عمل جديد بعيدا عن عوائق النزعة النفسية، (Jauss, ”Pour une esthétique de la réception”, p : 49.) لذلك نجده يتحدث عن وجود وسائل تجريبية لم يفكر فيها أحد من قبل تمكننا من استخلاص الحالات الخاصة التي يكون عليها الجمهور أثناء إقدامه على تلقي نص معين والتي تكون سابقة حتى على الاستجابة السيكولوجية للقارئ المفرد، وعن التصور الذاتي الذي يحمله عن النص، إيمانا منه بأن كل نص أدبي يتضمن معرفة مسبقة يستحيل بدونها التحقق تجريبيا من مدى جدته.( Ibid, p: 50) 1 (عالم الفكر) ص:18 – 19 ... وهو ما يبدو من خلال تعريفه هذا المفهوم بأنه “نسق من الإحالات قابل للتحديد الموضوعي يسمح بقياس استعدادات القارئ لتلقي عمل جديد بعيدا عن عوائق النزعة النفسية” (نفسه: ص: 49)، من هنا يأتي حديث ياوس عن أدوات ومعطيات تجريبية، تسمح باستخلاص السنن الجمالي الذي يتحكم في تلقي جمهور ما لنص محدد، وهي مقاييس سابقة عن العوامل النفسية التي يحملها القارئ المفرد ، وعن التصور الذاتي الذي يحمله عن النص، هذه المعايير الجمالية تسهم الخبرة التي تتشكل لدى جمهور معين في تكوينها، انطلاقا من قراءاته لنصوص تندرج ضمن الجنس الذي ينتمي إليه النص المتلقى، فياوس يؤكد أن النص لا يأتي من فراغ، بل إن كل مبدع ينطلق من خبرة أو أفق فكري جمالي ... تعليق: لقد وضع الفراع القول التالي “نسق من الإحالات قابل للتحديد الموضوعي يسمح بقياس استعدادات القارئ لتلقي عمل جديد بعيدا عن عوائق النزعة النفسية” بين مزدوجتين وكأنه نص لياوس، والحال أن هذا القول فكرة لياوس تصرفت في صياغتها وأحلت القارئ على الصفحة التي وردت فيها. وهذا دليل واضح على أنه لم يكتف بالإغارة على أقوال غيره شكلا ومضمونا، وإنما افترى على ياوس حين نسب له صياغة ليست له. إضافة إلى ذلك فإن الفراع لم يرجع إلى الأصل للتأكد من صحة ما اعتبره نصا، ولما كان الأمر كذلك، فإن الأفكار الواردة بعد هذا القول تعدو أن يكون إعادة صياغته للأفكار الموجودة في بحثي بشكل لم يتمكن معه من إخفاء بصمات أسلوبي وطريقة صياغتي وتنظيمي لهذه الأفكار. 2- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص:60
يكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن هذا المفهوم ارتبط عند هوسرل بتصوره “للزمان الظاهراتي”، الذي لا يكتسب وجوده في ذاته بل من خلال ارتباطه بالمعيش، هكذا نجده يتحدث عن “الأفق الثلاثي للمعيش” :اي أفق الحاضر الذي يعد، في الآن نفسه، امتدادا لأفق سابق كان بدوره حاضرا، وبداية لأفق لاحق قادم نحو الحضور. ( E. Husserl, ”Idées directrice pour une Phénoménologie” p : 277) فالأفق إذن يتحرك على الدوام ويتسع مداه باستمرار. أما كادامر فقد عرفه بقوله: “الأفق هو نطاق الرؤية الذي يحتضن كل ما يمكن رؤيته انطلاقا من موقع محدد” ( Gadamer, “Vérité et méthode”, p: 143.) إنه بالأحرى، ذلك الشيء الذي نقتحمه تدريجيا ويتحرك معنا. (Ibid p: 145.) وقد عمل هذا الفيلسوف على توسيع نطاق هذا المفهوم فاستعمله بطرق متباينة لإبراز الكيفية التي تتم بها عملية الفهم في العلوم الإنسانية، ومن ثمة توضيح طريقة اشتغال الأداة التأويلية: منطق السؤال والجواب في مجال “التأويلية التاريخية” على الخصوص، هكذا نجده يوسع فكرة هوسرل عن “الأفق الثلاثي للمعيش” باعتماده على مفهوم “اندماج الآفاق” الذي حدده بقوله: “إن أفق الحاضر لا يمكنه إطلاقا، أن يتشكل دون استدعاء الماضي، إذ ليس هناك أبدا أفق حاضر يمكنه أن يوجد منفصلا عن الآفاق الأخرى، ولا آفاق تاريخية يمكننا عزلها. إن الفهم يكمن على الدوام، في عملية اندماج هذه الآفاق التي ندعي انفصال بعضها عن بعض.” (Gadamer, “Vérité et méthode”, p : 147.) 2- (عالم الفكر) ص: 19
... تجدر الإشارة إلى أن “ياوس” لم يكن الرائد في اكتشاف هذا المفهوم، على الأقل في سياقه الفلسفي، فقد ارتبط هذا المفهوم بالفيلسوف “إدموند هوسرل” خصوصا في تحديده للزمان الظاهراتي، الذي يتأسس انطلاقا من ارتباطه بالمعيش، وبالتالي يتحدث “هوسرل” عن “الأفق الثلاتي للمعيش” ( E. Husserl, ”Idées directrice pour une Phénoménologie” p : 277)، أي امتداد الحاضر في الماضي والمستقبل. هذا التحديد يستثمره (ه. ج.جادامر ) في تعريف مفهوم الأفق وتطويره، والذي يعرفه بأنه : ” نطاق الرؤية الذي يحتضن كل ما يمكن رؤيته انطلاقا من موقع محدد” ( Gadamer, “Vérité et méthode”, p: 143.)، وهو المفهوم الذي استثمره “جادامر” لتحديد الكيفية التي تتم بها عملية الفهم، وبالتالي توضيح طريقة اشتغال الأداة التأويلية: منطق السؤال والجواب في مجال “التأويلية التاريخية” على الخصوص. كما اعتمد “ياوس” تصور “هوسرل” عن “الأفق الثلاثي للمعيش” لبلورة مفهوم “اندماج الآفاق” .... تعليق:
علاقة مفهوم اندماج الآفاق بالزمن الظاهراتي وبمفهوم الحضور عند هيدجر من الخلاصات المهمة التي انتهيت إليها أثناء إعدادي لبحث الدكتوراه بعد مجهودات جبارة من البحث والتنقيب والتمحيص والمقارنة والمناقشة مع أساتذة متخصصين في الفلسفة المعاصرة، وفي مقدمتهم الصديق العزيز الدكتور عز العرب لحكيم بناني. وقد مكنتني هذه الخلاصات من إدراك الخلفيات الفلسفية التي ارتكز عليها تصور ياوس لتاريخ التلقي، وكذا الأبعاد النظرية والإجرائية لمفهوم أفق التوقع. هذه المجهودات ينسبها سعيد الفراع بدون خجل لنفسه ويقتطعها من سياقها فيكتفي بالإشارة إلى هوسرل وبالضبط إلى نفس القولة التي اعتمدت عليها، وكأن كتاب هوسرل الضخم لا يتسع إلا لهذه الفكرة، ولو رجع سعيد الفراع لكتاب هوسرل بالفعل لوجد فيه الشيء الكثير مما قد يغني ما اقتصرت على ذكره في كتابي واكتفي بتكرار أجزاء منه.
كما أن سعيد الفراع لم يرجع أيضا لكتاب جادامر الحقيقة والمنهج، وإنما نسب إلى نفسه حرفيا ترجمتي لأحد نصوصه، وكتاب جادامر بدوره غني بأفكار وتصورات تكشف النقاب عن الأسس الهيرمينوطيقية التي ارتكزت عليها جمالية التلقي. ولو رجع إليها الباحث فعلا لوجد مادة معرفية غزيرة ستفتح بدون شك أمامه آفاقا واسعة للمقارنة واستخلاص النتائج... ولعل سعيد الفراع لم يرجع أيضا لكتاب هيدجر “التقنية الحقيقة الوجود”، ولا إلى نصوص الشكلانيين الروس، ففي الكتاب الأول اكتفى بأخذ النص الذي استشهد به وكذا إحالته من بحثي كما يدل على ذلك التطابق بين النصين حتى في نقط الحذف، وفي الكتاب الثاني جمع بين مقطعين مقتطفين من صفحة واحدة واعتبرهما نصا واحدا كما هو موضح أسفله: 3- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 48 (الهامش)
حدد “هيدكر” التمثل الشائع للزمان القائم على مفهوم “الحضور” بقوله: “إننا عندما نكون ملزمين بتحديد الزمان انطلاقا من الحاضر، فإننا نفهم هذا الأخير على أنه الآن ( الراهن) Le maintenant ، في مقابل ذلك الآن- الذي- لم يعد هناك فأصبح ينتمي للماضي، وذلك الآن الذي-لم- يأت- بعد من المستقبل... من هذا المنظور يتجلى لنا الزمان كتوال للآنات، بحيث ما أن يستقر آن حتى يكون قد تبخر في آن الما قبل، وحل محله آن الما- بعد” (مارتن هيدكر: التقنية الحقيقة – الوجود، ترجمة محمد سبيلا و عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي البيضاء ، ط: 1 ،1995، ص: 107-108). 3- (عالم الفكر) ص: 9
... وهو تصور مشبع بفلسفة الحضور التي تقوم “بتحديد الزمان انطلاقا من الحاضر، فإننا نفهم هذا الأخير على أنه الآن ( الراهن)، في مقابل ذلك الآن الذي لم يعد هناك فأصبح ينتمي للماضي، وذلك الآن الذي لم يأت بعد من المستقبل...(نقط الحذف ذاتها بدون زيادة أو نقصان!!!) من هذا المنظور يتجلى لنا الزمان كتوال للآنات، بحيث ما أن يستقر آن حتى يكون قد تبخر في آن الما قبل، وحل محله آن المابعد “ (مارتن هيدكر: التقنية الحقيقة – الوجود، ترجمة محمد سبيلا و عبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي البيضاء ، ط: 1 ،1995، ص: 107و108).
4- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 72 صاغ الشكلانيون مبدأ التطور الأدبي بطريقة لم يعد معها التعاقب الأدبي، كما يقول تينيانوف، – صيرورة “تصل خلَف فرع أدبي ما بسلفه” بل أصبح “كل تعاقب هو، قبل كل شيء، معركة لتحطيم كل موجود سلفا، وإقامة بناء جديد انطلاقا من عناصر قديمة “ (نصوص الشكلانيين الروس ص: 63). 4- (عالم الفكر)، ص: 13 – 14 وبذلك وجدت المدرسة الشكلانية نفسها أمام مسألة التاريخ، لكن ليس من منظور التعاقب الخطي، كما هو الشأن مع التاريخ التقليدي، بل من خلال صياغة مبدأ التطور الأدبي الذي لم يعد “صيرورة تصل خلَف فرع أدبي ما بسلفه، بل أصبح كل تعاقب هو، قبل كل شيء، معركة لتحطيم كل موجود سلفا، وإقامة بناء جديد انطلاقا من عناصر قديمة “ (نصوص الشكلانيين الروس ص: 63). تعليق: لم يرد قول تينيانوف مسترسلا كما كتبه سعيد الفراع، بل هو نص طويل انتقيت منه مقطعين دالين وفصلت بينهما بعبارة “بل أصبح” التي حسبها الفراع جزءا لا يتجزء من نص تينيانوف 5- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 61
ويرى ياوس أن الحالة النموذجية لإعادة تشكيل أفق توقع القراء الأوائل موضوعيا، تمكننا منها تلك الأعمال التي تثير لدى قرائها أفق توقع مألوف لتقوم بتحطيمه تدريجيا، مما يسمح بخلق معايير جمالية جديدة، ويمثل لذلك بثلاثة أعمال: “دون كيشوط” Don Quichotte و”جاك القدري” Jaques le fataliste و”شمير” Chimères[1].( Ibid, pp: 51-52.) وفي هذه الحالة يكون أفق التوقع السابق مُتضَمنا داخل العمل بشكل يستطيع معه المؤرخ إدراكه وإبراز ملامحه بشكل موضوعي. 5- (عالم الفكر)، ص: 20
أبرز “ياوس” كيفية اشتغال مفهوم “أفق التوقع” وطريقة تشكيله لدى القراء الأوائل، بالإشارة إلى مجموعة من النماذج الأدبية التي تشكل أمثلة واضحة، على إثارة أفق توقع مألوف لدى قرائها لتحطيمه تدريجيا، ما يؤدي إلى خلق معايير جمالية جديدة، بمعنى أنها تحمل في ذاتها معايير مزدوجة، ومن بين النماذج يذكر ياوس “دون كيشوط” Donquichotte و”جاك القدري” Jaques le fataliste و”شميير” Chimières 6- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، ص: 64
والحصيلة، أن الطريقة “النموذجية” التي اقترحها ياوس لإعادة تشكيل أفق توقع القراء الأوائل للنص المدروس تعترضها مجموعة من الإشكاليات يصعب الحسم فيها، لذلك فإن الطريقة الثانية تبدو أكثر فعالية لأنها تتيح للمؤرخ استخلاص هذا الأفق من مواقف القراء الأوائل.
(كما ورد أيضا في هامش الصفحة 65 من (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، التوضيح التالي:
انتقد هولب فكرة ياوس عن التشكيل الموضوعي لأفق التوقع قائلا: “لا يمكن التثبت من صحة “المستويات المعهودة” في حقبة بعينها، إلا بافتراض أننا نستطيع من خلال المنظور الراهن أن نصدر أحكاما موضوعية على ما كانت عليه هذه المستويات في واقع الأمر. ونحن هنا مطالبون، على النقيض من إلحاح كادامير على التاريخية، بتجاهل وضعيتنا التاريخية الخاصة أو وضعها بين قوسين، وعلى الرغم من كفاح ياوس من أجل تحاشي القول، عندئذ بنموذج يجمع بين التاريخية الطورية [أي مفهوم التطور التاريخي بمعناه المثالي عند رانك Progrès historique ] والوضعية، فإنه في تبنيه الموضوعية مبدأ منهجيا، يبدو وكأنه يقع في الأخطاء التي كانت موضع نقده” ( نظرية التلقي، ص: 158.) 6- (عالم الفكر) ص: 20
بيد أن هذه الطرقة التي يصفها ياوس بالنموذجية، تعترضها عدة عوائق وعلى رأسها صعوبة استخلاص المعايير المشكلة لأفق التوقع انطلاقا من النص نفسه، كما أشار “روبرت. س. هولب”. (نظرية التلقي، ص: 158) كما يشكل اعتماد البنيات النصية الموجهة إلى عملية القراءة، كإجراء يساعد على استخلاص الأفق السائد، إلغاء للمبدأ التفاعلي الذي تقوم عليه جمالية التلقي.
ولذلك فإن الطريقة الثانية التي يقترحها ياوس لإعادة تشكيل أفق التوقع او الانتظار، تبدو أكثر فعالية وإجرائية، لأنها لا تعتمد على النص نفسه في تشكيل أفق التوقع السائد، الذي تغيب فيه في أحايين كثيرة أي إشارة إلى المعايير الأدبية و الجمالية السائدة، وبالتالي يصبح الانفتاح على خارج النص كما تقترحه هذه الطريقة أكثر إجرائية ... تعليق: لم أهتد إلى مناقشة الطريقتين اللتين اقترحهما ياوس لإعادة تشكيل أفق التوقع، إلا بعد العوائق التي اعترضني في الجانب التطبيقي من بحثي، حيث تبين لي أن هاجس التخلص من النزعة النفسية أوقع ياوس في تعارض نظري ظل معلقا، وقد بسطت هذا الإشكال وناقشته بشكل مفصل في كتابي. إلا أن سعيد الفراع أبى إلا أن يقتطع أجزاء مما ذكرته في بحثي من سياقه، بشكل مخل بجوهر النقاش، وينسبه لنفسه ليرتق به بعضا من ثغرات مقاله. والدليل على ذلك أنه اكتفى بالإشارة إلى ما قاله هولب وإلى نفس الصفحة التي استقيت منها قولا يوضح موقف هولب. ويبدو أنه كعادته اقتصد في الجهد الذي يقتضيه البحث العلمي الرصين، واكتفى بالإحالة على كتاب هولب انطلاقا من كتابي. 7- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، ص: 62
في هذه الحالة يقترح ياوس الاعتماد على ثلاثة عناصر يفترضها كل عمل أدبي: - المعايير المعهودة أو الشعرية الخاصة بالجنس الذي ينتمي إليه العمل. - العلاقات الضمنية التي تصله بأعمال معروفة تندرج في سياقه التاريخي. - التعارض بين الخيال والحقيقة، بين الوظيفة الشعرية والوظيفة العملية للغة. ورد في هامش هذه الصفحة تعليق على هذه العناصر على الشكل التالي: وورد في هامش الصفحة التعليق التالي على القول أعلاه: (نفسه، ص: 52، وقد سبق لياوس أن صاغ هذه العناصر المشكلة لأفق التوقع في الصفحة 49 من كتابه المذكور على الشكل التالي - خبرة الجمهور المسبقة بالجنس الذي ينتمي إليه العمل الأدبي - أشكال وجذور أعمال سابقة تفترض معرفتها في العمل الجديد - التعارض بين اللغة الشعرية واللغة اليومية، بين العالم الخيالي والعالم اليومي.) 7- (عالم الفكر)، ص: 20
... وهكذا يقترح “ياوس” ثلاثة عناصر لإعادة بناء هذا الأفق وهي: - خبرة الجمهور المسبقة بالجنس الذي ينتمي إليه العمل الأدبي - أشكال ومضامين أعمال سابقة تفترض معرفتها في العمل الجديد - التعارض بين اللغة الشعرية واللغة اليومية، بين العالم الخيالي والعالم اليومي تعليق: مرة أخرى يحاول سعيد الفراع استغفال اللجنة العلمية للمجلة والقراء بطريقة ساذجة للغاية، حيث يعتمد على ما ورد في هامش كتابي ليثبته في متن مقاله دون أن يكلف نفسه عناء التصرف في الصياغة هذه المرة كما فعل في مناسبات عدة، فنسب لنفسه ترجمة غيره وأحال على كتاب ياوس المترجم إلى الفرنسية، في محاولة يائسة لإضفاء أصالة مزعومة على بحثه. وإذا كان سعيد الفراع يعمد احيانا كثيرة إلى التصرف في النصوص التي ترجمتها حتى يتمكن من الاحتفاظ على الإحالات إلى كتاب ياوس المترجم إلى الفرنسية، فإنه بين الفينة والأخرى تنتابه حالات من السهو فيحتفظ بصياغة النصوص كما هي في بحثي. 8- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، ص: 70
من هنا يتضح أن مفهوم “العدول الجمالي” له صفة معيارية تسمح بتحديد القيمة الفنية للعمل الأدبي. ولقياس طبيعة هذا العدول وقوته، يعتمد ياوس على مفهوم المسافة الجمالية باعتبارها وحدة قياس تسمح بتحديد درجة التوتر بين أفق النص وأفق توقع جمهوره الأول- فبقدر ما تتسع المسافة الجمالية بين أفق النص وأفق توقع جمهوره الأول، بقدر ما تزداد القيمة الفنية للنص، لأنه يمكِّن من إعادة توجيه تجربة القارئ نحو أفق تجربة جمالية جديدة. وإذا لم يتمكن من ذلك، فإنه -حسب ياوس- يكون أقرب إلى مجال “فن الوصفات الجاهزة” لأن أفقه يقتصر على الاستجابة لأفق توقع القارئ، ( Jauss, ”Pour une esthétique de la réception”, p.p : 53-54) وعموما، فإن أدبية الأدب عند ياوس تتحدد بحسب قدرته على خرق المعايير السائدة. هذا الموقف يقربه من التصورات التي بلورتها الدراسة الأدبية منذ انفتاحها على اللسانيات. .... 8- (عالم الفكر)، ص: 21
ويسمي ياوس المسافة بين أفق النص وأفق تلقيه ب “المسافة الجمالية” التي يمكن قياسها بردود أفعال القراء وبأحكام النقاد، لتشكل وحدة قياس للتوتر بين أفق النص وأفق توقع جمهوره الأول فكلما اتسعت المسافة الجمالية بين أفق النص وأفق تلقيه ازدادت قيمته الفنية، وإذا لم يتمكن من ذلك، فإنه – - يكون أقرب إلى مجال “فن الطبخ” وفق ياوس لأن يستنسخ معايير متداولة بشكل كبير في أفق انتظار القارئ (نفسه، ص: 53 – 54) إن أدبية الأدب وفق ” ياوس” تتحدد بمدى قدرته على عدم السقوط في الابتذال وخرق المعايير الجمالية السائدة، بشكل يؤدي إلى خلق معايير فنية جديدة، وهو ما يسهم بدوه في ظهور معايير نقدية مغايرة.... 9- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، ص: 70
إن إعادة تشكيل أفق توقع الجمهور الأول، لا تمكن المؤرخ فقط من قياس مدى عدول النص المدروس عن هذا الأفق، ولكنها تمكنه أيضا من استخلاص الأسئلة التي أجاب عنها العمل الأدبي في الماضي، ومن تحديد نوعية الفهم وطريقة التلقي في الوقت الراهن. هذه العملية تجعل تاريخ الأدب قادرا على تجاوز ذلك التأثير اللاواعي، إلى حد ما، الذي يُمارَس على الحكم الجمالي من قبل معايير تصور كلاسيكي أو حداثي للفن، و تلك الحلقة المفرغة التي تقود المؤرخ إلى العودة إلى “روح العصر” لفهم الوقائع التي يدرسها، وكذا تجاوز ذلك الاعتقاد الأفلاطوني الذي يقر بوجود معنى جوهري محدد بشكل نهائي. بتجاوز هذه العوائق يمكن للمؤرخ أن يظهر، بشكل واضح، الاختلاف التأويلي في فهم العمل عن طريق استخدام الأداة التأويلية: السؤال والجواب.
Pour une esthétique de la réception” p : 58 9- (عالم الفكر)، ص:21
لا تقتصر عملية إعادة تحيين أفق توقع القراء الأوائل لظهور العمل الأدبي، على قياس مدى انزياح هذا العمل عن المعايير اللفنية السائدة خلال تلك المرحلة، ولكنها تسمح أيضا باستخلاص الأسئلة التي أجاب عنها النص، ومن تحديد نوعية الفهم وطريقة التلقي السائدة في المرحلة الراهنة للمؤرخ الأدبي ص:22 لقد مكن منطق السؤال والجواب تاريخ الأدب من تجاوز مجموعة من العوائق، التي كانت تعترض مجموعة من الإبدالات السابقة، مثل: ذلك التأثير اللاواعي، إلى حد ما، الذي يُمارَس على الحكم الجمالي من قبل معايير تصور كلاسيكي أو حداثي للفن. تلك العلمية الدائرية التي تقود المؤرخ إلى العودة إلى “روح العصر” لفهم الوقائع التي يدرسها ذلك الاعتقاد الأفلاطوني الذي يقر بوجود معنى جوهري محدد بشكل نهائي. تعليق: يعمد سعيد الفراع إلى التصرف في المفاهيم وتنويعها لدر الغبار على عيون القراء. من ذلك مثلا استعماله لعبارة “إعادة تشكيل أفق توقع القراء” أحيانا، وعبارة ” إعادة تحيين أفق توقع القراء” حينا آخر كما هو الحال في النص أعلاه. ومعوم أن التحيين أو الترهين ترجمة ل actualisation، في حين أن إعادة التشكيل ترجمة ل reconstitution. وربما لا يعلم سعيد الفراع أن استعماله لعبارة إعادة تحيين أفق توقع القراء الأوائل خطأ فادح في الترجمة يقلب المعنى ويعصف بشرط الموضوعية الذي حرص ياوس على توخيه أثناء إعادة تشكيل أفق توقع القراء الأوائل لنص محدد كما أشار هو نفسه إلى ذلك في صياغة لنا نسبها لياوس ونسب ترجمتها لنفسه كما تقدم دون أن يدرك عمق مقاصدها: أفق التوقع “نسق من الإحالات قابل للتحديد الموضوعي يسمح بقياس استعدادات القارئ لتلقي عمل جديد بعيدا عن عوائق النزعة النفسية”. 10- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 71
وبناء عليه، فإن مهمة المؤرخ تكمن، بالأساس، في تعقبه لردود أفعال القراء للوقوف على التغيرات التي يعرفها معنى النص. وبصنيعه هذا، يحصل، في النهاية، على سلسلة ممتدة الحلقات يتجلى من خلالها الاختلاف التأويلي في فهم العمل بين الماضي والحاضر. وتكمن فعالية هذا الإجراء في كونه يتجاوز الحشد البسيط للوقائع الأدبية الواحدة تلو الأخرى، ويركز على الكيفية التي تدرك بها هذه الوقائع انطلاقا من قناعة مؤداها أن الوقائع التاريخية تظل كامنة لا تكتسب تحققها الفعلي إلا من خلال إدراك الذات لها. وبهذا المعنى، فإن موضوع تاريخ الأدب لم يعد يتمثل في الوقائع الماضية المعزولة، ولكنه أصبح يتمثل بالأساس في إدراك الذات لهذه الوقائع. وعلى العموم، فإن جمالية التلقي، باعتمادها على أفق التوقع ومنطق السؤال والجواب، تمكنت من الإجابة على السؤال الملح المتعلق بمعرفة سر اختلاف مواقف القراء تجاه نص محدد، والسبب في اهتمامهم بنصوص معينة وإهمالهم لأخرى قد تكون معاصرة لهم. لأن كل نص أدبي، من منظور جمالية التلقي، قد يستجيب لأفق توقع جمهوره الأول، وقد يتجاوزه ويقدم حلا لقضايا لم تتم بلورتها بعد، وهو حال النصوص الأدبية التي لا تعثر على جمهورها فور صدورها، فيطالها النسيان إلى أن يتغير أفق توقع القراء فتتبلور مدلولات جديدة وقيم جمالية مغايرة، فتبعث من جديد لتقدم حلاًّ لها، حينئذ ينصب الاهتمام على هذه النصوص التي كانت مهمشة من قبل على حساب نصوص أخرى كانت تحظى بمكانة خاصة لدى الجمهور السابق ولم تستطع تلبية رغبة الجمهور الجديد. وقد عبر ياوس عن ذلك بقوله: “إن الفارق بين إدراك الجمهور الأول لعمل ما وبين دلالاته اللاحقة يمكن التعبير عنها بما يلي: يمكن للمقاومة التي يواجه بها عمل جديد توقع جمهوره الأول أن تكون جد قوية لدرجة أن مسيرة طويلة للتلقي تصبح ضرورية قبل أن تستطيع استيعاب ما كان في الأصل غير متوقع وغير قابل للاستيعاب، علاوة على ذلك، يمكن لدلالة محتملة أن تظل مجهولة حتى اللحظة التي يصل فيها “التطور الأدبي”، بعد وضع معالم شعرية جديدة موضع اهتمام وعناية، إلى الأفق الأدبي، حيث تصبح الشعرية التي كانت صعبة الإدراك قبل إنتاج الدلالة المحتملة قابلة للفهم والاستيعاب.“( Ibid, p : 67.) (قارن صياغة هذا النص الأخير لياوس بصياغة النص الوارد في مطلع الصفحة 72 من مقال سعيد الفراع) 10- (عالم الفكر)، ص:22
... كما سيسمح هذا المنطق بتجاوز عملية التراكم البسيطة للوقائع الأدبية الواحدة تلو الأخرى، ويركز على الكيفية التي تدرك بها هذه الوقائع انطلاقا من قناعة مؤداها أن الوقائع التاريخية تظل كامنة لا تكتسب تحققها الفعلي إلا من خلال إدراك الذات المتلقية لها. ليصبح بذلك تاريخ الأدب مؤسسا على هاته الإدراكات، وتاريخا لأسئلة القراء وأجوبة النصوص وليس على حشد الوقائع الماضية المعزولة، أو تأريخا لسير الأدباء.
تكمن الفعالية الإجرائية التي يتميز بها منطق السؤال والجواب في ارتباطه بأفق التوقع، بمعرفة سبب اختلاف مواقف القراء تجاه نص محدد، وأيضا السر في اهتمامهم بنصوص بعينها وإهمالهم أخرى قد تكون معاصرة لهم. فالنص الأدبي وفق “ياوس”، قد يستجيب لأفق توقع قرائه الأوائل المعاصرين لصدوره، وقد يتجاوز هذا الحد ويقدم حلا لقضايا تتبلور بعد (كذا!!)، وهو ما ينطبق على النصوص التي لا تعثر على جمهورها فور صدورها، فيطالها النسيان إلى أن يتغير أفق توقع القراء فتتبلور معايير جمالية مغايرة ومدلولات جديدة، فتخرج من الهامش لتلبي رغبات وتطلعات جمهور جديد 11- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 72
هكذا تمكنت جمالية التلقي من البرهنة على أن الأدب ليس مفهوما ثابتا يجب على المؤرخ تحديده، وأن الأدبية ليست سمة ملازمة لنصوص بعينها بمعزل عن تحققاتها، فالأدب يتطور على الدوام بتطور وعي جمهور القراء به، وأدبية النصوص تتمظهر بطرق مختلفة بحسب التجدد الدائم لخبرة القراء التي يتغير معها إدراكهم لتلك النصوص. 11- (عالم الفكر)، ص: 23
... وهو برهان على أن الأدب ليس مفهوما ثابتا يتعين على المؤرخ تحديده، فالأدبية ليست سمة ملازمة للنصوص بمعزل عن تحققاتها، ذلك بأن الأدب يتطور بتطور وعي قرائه وبالتالي تتمظهر الأدبية بطرق مختلفة وفق إدراك القراء للنصوص. 12- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 73
فالأعمال الأدبية –كما أشرنا سابقا- يمكنها أن تقدم حلا لأسئلة لم تستطع الأعمال السابقة الإجابة عنها، ويمكنها أن تطرح بدورها أسئلة جديدة قد تحظى بأجوبة من قبل قرائها الأوائل وقد تبقى معلقة إلى أن يتغير “أفق التوقع” وتظهر أعمال جديدة تضطلع بهذه المهمة. وفي هذا الصدد يقول ياوس: “إن انتقالنا من تاريخ لتلقي الأعمال إلى التاريخ الحدثي للأدب، يمكننا من التعرف على هذه الأعمال باعتبارها سيرورة يفضي فيها التلقي السلبي للقارئ والناقد إلى التلقي الإيجابي للمؤلف ومن ثمة إلى إنتاج جديد. وبعبارة أخرى، إن هذه السيرورة تتم بشكل يصبح معه العمل اللاحق قادرا على معالجة قضايا أخلاقية وشكلية لم يستطع العمل السابق البت فيها، كما يطرح بدوره قضايا جديدة ” H.R. Jauss, ”Pour une esthétique de la réception”, p : 63. 12- (عالم الفكر)، قارن مع الفقرة الثانية من ص: 25 13- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص:83
بيد أن التطور الأدبي من منظور جمالية التلقي، لا يمكنه أن يلتمس من خلال تعاقب الدول وتوالي العصور، أو من خلال دراسة الأدب في كل إقليم على حدة لجمع شتاته والإحاطة بكل دقائقه، ولكن بدراسة أشكال التفاعل التاريخي بين الأدب والجمهور، وبتبني هذا الإجراء، فإن تاريخ الأدب يكف عن أن يظل مجرد تصنيف تعاقبي للمؤلفين والمؤلفات عبر العصور أو عبر الأقاليم، ليصبح سيرورة متواصلة الحلقات تتعقب ردود أفعال القراء تجاه نص أو مدونة من النصوص منذ نشأتها حتى اللحظة التي يكتب فيها المؤرخ. ومن خلال هذه السيرورة تتضح المسافة الجمالية بين أفق كل نص وأفق توقع كل قارئ. 13- (عالم الفكر)، ص: 25 ... وذلك باعتمادها على جدلية الإنتاج والتلقي، التي تسمح بالنظر إلى الأثر الأدبي، على أنه سلسلة حلقات متواصلة، منذ ظهوره حتى اللحظة التي يكتب فيها المؤرخ الأدبي، وبالتالي تأسيس تاريخ خاص بالسلسلة الأدبية، يكشف عن أهمية الأعمال وقيمتها في السياق العام للتجربة الأدبية. 14- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...) ص: 73 – 74
إن نظرية “التطور الأدبي” لا تكفي لوحدها لإدراك البعد التاريخي للأدب ورصد سيرورته الحدثية، لذلك يدعو ياوس إلى اعتماد الدراسة السانكرونية أساسا لرصد التطور الأدبي. يقول: “إن النتائج المستخلصة من اللسانيات اعتمادا على التمييز والتأليف المنهجي بين التحليل الدياكروني والتحليل السانكروني، تحثنا أيضا على تجاوز الدراسة الدياكرونية البسيطة المطبقة لحد الآن في مجال تاريخ الأدب. وإذا توصلنا، كلما اعتمدنا على تاريخ التلقي لدراسة التغيرات التي تطرأ على التجربة الجمالية، إلى اكتشاف علاقات بنيوية متبادلة بين فهم الأعمال الجديدة ودلالة أعمال جد قديمة،. فإنه سيصبح من الممكن مع ذلك أيضا دراسة حقبة من التطور الأدبي بواسطة تقاطيع سانكرونية، وترتيب التعدد المتنافر للأعمال المتزامنة في بنيات متكافئة ومتنافرة ومتزامنة، ومن ثمة استكشاف نسق شامل انطلاقا من أدب مرحلة تاريخية بعينها، من هنا يمكننا استخلاص منهجية جديدة لتاريخ الأدب تحرص على مضاعفة التقاطيع السانكرونية في مختلف النقط الدياكرونية بطريقة تمكن من إبراز التمفصلات التاريخية والتحولات من حقبة لأخرى ضمن صيرورة البنيات الأدبية.” H.R. Jauss, ”Pour une esthétique de la réception”, p.p : 68-69 14- (عالم الفكر)، قارن مع الفقرة ما قبل الأخيرة من ص: 25 15- (تاريخ تلقي الشعر العربي القديم...)، ص: 55
... وقد بدأت هذه المحاولات مع الشكلانيين أنفسهم الذين عمدوا إلى تطوير نظريتهم فوجدوا أنفسهم في مواجهة مع تاريخية الأدب التي تم رفضها في البداية، فلم تعد معهم أدبية الأدب تُحدد سانكرونيا فحسب، من خلال التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية، بل أصبحت تُحدَّد دياكرونيا كذلك، من خلال التعارض الشكلي، المتجدد على الدوام، بين الأعمال الجديدة والأعمال التي تسبقها في السلسلة الأدبية، وكذلك من خلال قاعدة الأجناس، المحدَّدة سلفا والتي تندرج ضمنها هذه الأعمال (Jauss, ”Pour une esthétique de la réception”, p : 41)
وتكمن جدة خطاطة تاريخ الأدب الشكلاني -إذا تمت مقارنته بتاريخ الأدب السائد آنذاك- في تخلِّيه عن الفكرة الجوهرية للعملية الخطية المتتالية، ومعارضته للمفهوم الكلاسيكي للتقليد بمبدإ ديناميكي للتطور الأدبي. (p: 42 Ibid, ) 15- (عالم الفكر)، ص: 13 – 14
وما دامت الأدبية لا تتحدد فقط سانكرونيا، أي بالتعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية، بل ايضا دياكرونيا ، من خلال التعارض الشكلي، المتجدد على الدوام، بين الأعمال الجديدة والأعمال التي تسبقها في السلسلة الأدبية، وكذا مع المعيار الجاهز لجنسها، (بدون إحالة) فإن المدرسة الشكلانية واجهتها من جديد قضية تاريخية الأدب التي أرغمتها على إعادة النظر في مسألة الدياكرونية .... وبذلك وجدت المدرسة الشكلانية نفسها أمام مسألة التاريخ، لكن ليس من منظور التعاقب الخطي، كما هو الشأن مع التأريخ التقليدي للأدب، بل من خلال صياغة مبدأ التطور الأدبي... (بدون إحالة) تعليق: لقد حاول الفراع اعتماد أسلوب التقديم والتأخير قصد التمويه والاستغفال لكنه لم يفلح في طمس معالم الأصل الذي أخذ منه، حيث ظلت الأفكار هي نفسها والصياغة أحيانا هي ذاتها، في حين غاب التوثيق وغابت معه الأمانة العلمية خلاصات عامة إن هذه النماذج الدالة التي اقتصرت على ذكرها في هذه المقارنة تبرز بوضوح أن سعيد الفراع يفتقر للأسف لأخلاقيات الباحث، وأنه بحثه (أو بالأحرى ما يدعيه بحثا له) المنشور بمجلة عالم الفكر يفتقر بدوره لأبرز مقومات العلمية، وأقصد بذلك: الأمانة العلمية والأصالة والجدة والرؤية الثاقبة والاتساق. ولتوضيح ذلك أكثر نسوق النماذج التالية: v ورد في الصفحة 13 من دراسة سعيد الفراع ما يلي: “ووفق هذا التصور لا يقتصر إدراك العمل الفني على التمتع الساذج بالجمال، بل يقتضي أيضا إدراك الشكل كما هو في ذاته. وأيضا التعرف على الأسلوب المستعمل، وبذلك تصبح عملية تعريف الفن في خصوصيته مرتبطة بإمكان إدراك الحواس، فمثلا “إن صفة الفنية التي تعزى إلى الشعر في شيء بعينه، هي نتيجة إدراكنا. فالأشياء الفنية بالمعنى الضيق، هي تلك التي أبدعت بأدوات خاصة، الغرض منها هو أن يتم إدراك هذه الأشياء بأكبر قدر ممكن من اليقين على أنها أشياء فنية” (أخذا عن روبرت هولب ص. 72-73.) هذا النص لشلوفسكي استشهدت به في الصفحة 33 من كتابي، وقد أدرجه سعيد الفراع في سياق جعل كلامه يفتقر لمبدأ الاتساق: فقوله إن الإدراك الفني عند الشكلانيين يقتضي “إدراك الشكل كما هو في ذاته“، يتناقض مع الأسس التي قامت عليها الشكلانية : فحين نتحدث عن الشيء في ذاته، فإننا في الواقع نتحدث عن الماهية، ومعلوم أن الشكلانية ارتكزت على أسس قامت على مناهضة مختلف التصورات الميتافيزيقية والأنطلوجية، وفي مقدمتها الماهية وما يرتبط بها من قول، وركزت في المقابل على كيفية القول، أي على العلاقات المنطقية، يكفي أن نستشهد في هذا الصدد بما قاله أحد روادها ولعله بريك: لا تهمني الأشياء في ذاتها بقدر ما تهمني العلاقات بين الأشياء. كما أن قوله: “وبذلك تصبح عملية تعريف الفن في خصوصيته مرتبطة بإمكان إدراك الحواس“، يختزل إدراك الفن عند الشكلانيين في الإدراك الحسي، وهو ما يتناقض مع قوله السابق “إدراك الشكل كما هو في ذاته“، والحال أن الشكلانيين بتركيزهم على الشكل لم يقفوا عند حدود الظاهر، ولكنهم آمنوا بأن كثافة الشكل التي تستوقف القارئ، هي أبرز مؤشر على فنيته. فالنصوص الراقية لا تفصح عن مدلولاتها بيسر، ولكنها تمدد عملية الإدراك عند القارئ وتدعوه إلى تشغيل مهاراته المنطقية وقدراته العقلية قصد إدراك أسرار الأدبية التي كرس الشكلانيون جهودهم لرصدها. فهل الأدبية عندهم خاصية ملازمة للنصوص، أم أنها مرتبطة بردود أفعال القراء؟ يتبين من نص شكلوفسكي أن الأدبية ليست جوهرا قبليا موجودا في النص، وإنما هي حصيلة إدراكنا. وهذا التصور يضفي على الأدبية بعدا ظاهراتيا مخالفا للبعد الانطلوجي والحسي في آن واحد!! وهذا ما لم يدركه سعيد الفراع. v ورد في الصفحة : 30 ما يلي: “ولهذا شكل مفهوم “أفق التوقع” مفهوما مركزيا في جمالية التلقي عند “ياوس”، وذلك لدوره الجمالي والاجتماعي في تشكيل رؤية المتلقي للفن ووظيفته الحياتية، كما يمنح الدارس إمكانات منهجية عالية في عملية تأريخ مسار تجربة إبداعية، من خلال تمكينه من قياس المسافة الجمالية بين الأفق السائد قبل بداية تداول تجربة أدبية ما، وبين الآفاق المتعاقبة للتلقي ونوعية الاستجابات التي تشكلت في إطار هذه العلاقة التفاعلية القائمة على حوار الآفاق...” هذا القول يتناقض تماما مع القول الذي أخذه من كتابي (ص: 70) ونسبه إلى نفسه في الصفحة 21 من مقاله: ” ويسمي ياوس المسافة بين أفق النص وأفق تلقيه ب “المسافة الجمالية” التي يمكن قياسها بردود أفعال القراء وبأحكام النقاد، لتشكل وحدة قياس للتوتر بين أفق النص وأفق توقع جمهوره الأول فهل المسافة الجمالية وحدة قياس لقياس المسافة بين المعايير التي كانت سائدة لحظة صدور النص، وبين آفاق قرائه المتعاقبين، أم أنها قياس للتوتر بين الأفق الجديد الذي يخلقه النص وبين أفق توقع جمهوره الأول؟!!! v في الصفحة 24 يسجل سعيد الفراع تحفظ ياوس على مفاهيم: “النهضة”، “البعث” ، “الإحياء” قائلا: “فهذه توصيفات تفتقر، في رأي ي”ياوس” إلى الصواب. لأنها توحي بأن الماضي يعود من تلقاء نفسه، في حين أن التقليد الأدبي لا ينتقل من حقبة إلى أخرى بمحض إرادته، كما أن الماضي لا يتحول إلى حاضر.” وفي الصحفة 18 ترجم قولة كولينكوود التالية: ” History is nothing but the re – enactment of past thought in the historian's mind” (Pour une esthétique de la réception”, p : 47) قائلا: ... بل صار التاريخ “بعثا جديدا للماضي في ذهن المؤرخ وبه” ثم أضاف: “إن هاته العبارة ... تلتقي مع ما جاءت الفلسفة الظاهراتية ... في تأكيدها أن كل وعي هو وعي بشيء من الأشياء أو ظاهرة من الظاهرات، ولا يمكن لأحد الطرفين أن يفهم من دون الآخر”. إن استعماله لكلمة بعث أثناء (ترجمته لقولة كولنكوود) استعمال خاطئ (جعلها مقابلة للكلمة الفرنسية reactivation التي تعني إعادة تنشيط)، نتج عنه هذا التناقض المزدوج: تناقض مع موقف ياوس من مفهوم البعث، وتناقض في الآن نفسه مع روح الفلسفة الظاهراتية التي لا تؤمن بوجود ماض مفارق للذات تقوم، كلما أرادت ذلك، ببعثه أو إحيائه من جديد كما هو، وإنما تلح في تصورها للزمن على أن الماضي ليس مفارقا للذات المدركة، وإنما هو كامن في صلب وعيها، فالماضي هو ما ندركه، ولذلك من الملائم ترجمة قولة كولنكوود بما يلي: ” ليس التاريخ شيئا آخر سوى إعادة تنشيط للماضي في ذهن المؤرخ ومن خلاله ” (أنظر ص: 47 من كتابي). كما أنه لم يستوعب روح المنهج الظاهراتي، بل لعله اكتفى باستخلاص هذه الفكرة من هامش الصفحة 53 من كتابي([2]) أو من الصفحة 63 وتصرف فيها بشكل أخل بمضمونها. والدليل على ذلك عدم تمييزه بين الشيء والظاهرة، يكفي أن نشير في هذا الصدد إلى تمييز كانط بين النومين أو الشيء في ذاته، وبين الفينومين أو الظاهرة: أي الأشياء كما تتبدى لوعينا. وإلى تعريف هوسرل للمقصدية بقوله: “الوعي هو وعي بشيء ما”، فالظاهرة عند هوسرل هي حصيلة هذه المقصدية، أوبالأحرى هذا القصد الذي يتطلق من الذات ليتجه صوب الموضوع... ------------------------------------------------------------------------ [1] [2] ورد في هامش هذه الصفحة مات يلي: وهنا بالضبط يتجلى تأثر ياوس بالفلسفة الظاهراتية عند هوسرل، لأن الظاهراتية تتجاوز حدود الوقائع – ميدان النزعة التجريبية – لتهتم بالظواهر. والظاهرة هي ثمرة العلاقة بين الذات والموضوع التي تتأسس على مبدإ القصدية، ولتحديد هذا المبدأ يستعمل هوسرل العبارة التالية: “الوعي هو وعي بشيء ما” ، فوجود الظاهرة، إذن، رهين بقصد الذات لموضوع ما، أي وعي الذات بهذا الموضوع. ومن هذا المنطلق، فإن الظاهرة الأدبية – كما سبقت الإشارة- لا وجود لها إلا في علاقة القارئ / الذات بالنص/ الموضوع. نحيل في هذا الصدد على كتاب هوسرل السالف الذكر [Idées...]، وخصوصا الصفحات: 7-8-283-284.