غيبت الوفاة مؤخرا أحد ألمع أعلام الوسط الفني ألغنائي بالمغرب الملحن الكبير عبد النبي الجراري. الفقيد من مواليد الرباط سنة 1924، وهو من الرعيل المؤسس للأغنية العصرية ببلادنا، إلى جانب الأستاذ أحمد البيضاوي والملحن الكبير عبد القادر الراشدي، بل لعله تميز بقصب السبق في تأسيس جوق بمواصفات عصرية سنة 1945، صرف عنه من ماله الخاص ومال عائلته «الميسورة» بمقياس ذاك الزمن ما ملكت يداه حتى يرى النور ويحيى حفلات لم يكن للجمهور من قبل عهد بها. - وهذا قبل أن توكل للمصري«مرسي بركات» تكوين جوق عصري حتى . انضم إلى جوق «الاتحاد الرباطي» (وهو الإسم الذي اختير للفرقة) كل من الأستاذ عبد القادر الراشدي واسماعيل أحمد كعازف كمان وهو في بداية مشواره الفني، إضافة إلى العازف الحبيب الشراف. ولا يخفى على المتتبع ما خلفته هذه الأسماء من آثر رفيع لحنا وأداءا في مسار الأغنية المغربية. من هنا نفهم حجم التأسيس وسمو الفكرة، بحيث كانت النواة الأصلية التي فادت بعد الاستقلال إلى تأسيس الجوق الوطني الذي كان للدكتور المهدي المنجرة -شافاه الله - اليد البيضاء في إحداثه وتنظيمه. ليس غريبا إذن لمن دخل مغامرة بنفسه ومجايليه من الفنانين لتأسيس جوق الرباط، أن يفسح المجال في وقت آخر من أواخر الستينيات بإحداث برنامج جديد، يختص في اكتشاف النجوم. البرنامج الجديد هو الآخر كانت له الريادة في إبراز إلى جانب الأصوات الغنائية ملحنين وعازفين أصبح للكثير منهم الآن شأوا كبيرا، والملحن المقتدر ورئيس الجوق الوطني الآن عز الدين منتصر «واحد من هؤلاء. بل إن «مواهب» من أوائل البرامج في العالم العربي الذي أبرز أصوات غنائية متفردة لمعت في سماء الأغنية العربية كالرائعة عزيزة جلال والراحلة رجاء بلمليح والفنانة المتجددة سميرة بن سعيد. وذلك قبل أن تصبح مثل هذه البرامج في الوقت الراهن صناعة قائمة الذات بالقضائيات العربية وشركات الاحتضان أو الاحتكار بالأحرى. هذا في الوقت الذي انحسرت فيه الأغنية المغربية في الحدود الإقليمية الضيقة، بل باتت تحارب بوعي أو عن غير وعي داخل الوطن نفسه، بفعل عوامل متعددة وسياسات لمتطفلين على الميدان، يتحكمون في الشأن الفني. في هذا السياق نفهم عزوف الأستاذ الراحل وابتعاده عن الميدان الفني لما قوبل بالجحود، رغم ما ميز مساره وعطاءاته المتنوعة بشهادة حتى خصومه. وهو المعروف بنخوته الأصيلة وعزة نفسه التي تسمو كانسياب نغماته وهو يعزف على آلة البيانو التي يجيدها، فلم يدق الأبواب ولا سعى إلى امتياز، رغم أنه أحق بذلك من غيره، واكتفى معتكفا في ضيعته الصغيرة بضواحي الرباط، بتقاعد هزيل عن السلم« 9» في ترتيب سلاليم الجمود الإداري. في الوقت الذي ينعم فيه «أشباح الفن» برواتب يسيل لها اللعاب. لن أقف عند كل أوجل إبداعات الفقيد في مجال التلحين حتى لا أقع في أخطاء وقع فيها الكثير ممن تسرعوا بالكتابة عن الموضوع في بعض الملاحق الفنية. وسأكتفي بما اسميه «بروائع الجراري» كقصيدة «حسبتك» لعبد الهادي بلخياط، من شعر إدريس الجاي و «اذكري» لأسماعيل أحمد وكلمات محمد بنعبد الله، وقصيدة «أنت» المعروفة للفنان عبد الوهاب الدكالي. ولا يفوتني في ختام هذه المقالة أن اذكر بأغنية وطنية جديرة بهذا الوصف بالمعنى الدقيق للكلمة من أداء عبد الهادي بلخياط أيضا وتلحين الفقيد، يقول مطلعها : في كل دقيقة قلبي يهتف بلا ميخبي هي اللي عطيتها قلبي «هيا: هيا» وحياتي باللي فيها «بلادي» الربيرتوار الغنائي المغربي مع الأسف الشديد يفتقد كثيرا إلى هذا اللون الذي يمجد الوطن ويتغنى به، ولا تكاد تتجاوز أغانينا في هذا الشأن عدد أصابع اليد الواحدة، كنشيد «يا موطني نلت المراد فاسلم» للموسيقار أحمد البيضاوي، وملحمة «المسيرة» للأستاذ عبد الله عصامي التي ساهمت في تأجيج المشاعر الوطنية لاسترجاع الأقاليم الصحراوية وصيانة الوحدة الترابية للبلاد. في حين نجد الاهتمام الكبير لدى عمالقة الطرب في الشرق بهذا اللون الغنائي للوطن، «كمصر تتحدث عن نفسها» و«مصر التي في خاطري» لأم كلثوم، و«حب الوطن فرض علي» و«دعاء الشرق» لعبد الوهاب و«ياحبيبتي يا مصر» لشادية و «بحبك يا لبنان» للسيدة فيروز ووديع الصافي الذي قاد ملحمة سنة 2006 عقب حرب إسرائيل على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت. فما أحوجنا إلى ترجمة أحاسيسنا بالغناء للوطن إذا كنا فعلا نحب هذا الوطن. الأستاذ الجراري.. نم قرير العين