برحيل الموسيقار عبد النبي الجراري تفقد الأغنية المغربية العصرية أحد أعمدتها المؤسسين ودعت الساحة الفنية في المغرب، يوم أمس، أحد مبدعيها الكبار، بوفاة الموسيقار والملحن المغربي عبد النبي الجراري الذي وافاه الأجل المحتوم عن عمر 87 عاما بأحد مستشفيات الرباط، بعد معاناة مع المرض. وبرحيل هذا الهرم الثقافي والحضاري تفقد الأغنية المغربية العصرية أحد روادها المؤسسين. ويعد الفنان الراحل، وهو من مواليد الرباط سنة 1924، من المساهمين في وضع الأسس الأولى للأغنية المغربية، بمواهبه المتعددة وطموحاته وحبه للموسيقى والفن. فقد برزت موهبته مبكرا حيث كان منذ صغره محبا للموسيقى والغناء وكان يتردد مساء كل جمعة إلى ساحة المشور السعيد بالرباط، حيث كانت فرقة الخمسة وخمسين تعزف للعاصمة الرباط معزوفات ومقطوعات موسيقية. تتلمذ على يد كل من الشيخ البارودي ومرسي بركات، أسس سنة 1945 أول جوق عصري في المغرب، تحت إسم جوق الاتحاد الفني الرباطي، بمساعدة زميله المرحوم عبد القادر الراشدي، وكان الهدف من وراء هذا التأسيس مواكبة عمل المقاومة، وإبداع أغنية وطنية تستنهض الهمم وتدعو إلى مقاومة الاستعمار، وبهذا كان الجراري من بين أوائل واضعي حجر الأساس لأغنية مغربية عصرية وأحد أعمدتها إلى جانب كل من الفنانين الراحلين أحمد البيضاوي، المعطي البيضاوي، عبد السلام عامر، إبراهيم العلمي وعبد القادر الراشدي. ويعود الفضل كذلك إلى الراحل عبد النبي الجيراري في اكتشاف العديد من الأصوات المغربية التي أكدت وجودها داخل وخارج المغرب. فقد اشتهر الجراري ببحثه الدءوب عن المواهب الجديدة في جميع مجالات الغناء: الأداء، اللحن، العزف والكتابة. لقد كان الجراري يهدف من وراء ذلك إلى تطعيم المشهد الموسيقي المغربي بأسماء جديدة تغذيه وتزخرفه وتعمل على تطويره، لقد كانت يده دائما ممدودة للشباب المتعطش للموسيقى والغناء، يوجههم بخبرته ويرشدهم بتجربته ويدفعهم إلى الأمام بألحانه... ولعل الجمهور المغربي يتذكر برنامجه الشهير «مواهب» الذي كان يعده للتلفزة المغربية منذ انطلاق بثها في ستينيات القرن الماضي، وكان رحمه الله مدرسة تخرج منها جل الأصوات المغربية الكبيرة التي لمعت في سماء الموسيقى والغناء بالمغرب والعالم العربي، من بينهم عبد الهادي بلخياط، نعيمة سميح، محمود الإدريسي، سميرة بن سعيد، عزيزة جلال، ليلى غفران، المرحوم محمد الحياني، المرحومة رجاء بلمليح، البشير عبده، أنور حكيم، محمد الغاوي، والملحنين عبد القادر وهبي وعبد اللطيف السحنوني وعز الدين المنتصر وغيرهم كثير. إضافة إلى اكتشاف العديد من المواهب في مجالات الشعر الغنائي والزجل والخط والإنتاج التلفزي و الكوميديا. كما كان للفقيد اهتمام كبير بالشعر المغربي الذي أولاه عناية فائقة فلحن للكثيرين من شعراء المغرب، من أمثال محمد الحلوي في أغنية «أسرار الجمال» ومحمد بن عبد الله في رائعته «أذكري» والمهدي زريوح في «بلادي»، وفي هذا الإطار نذكر ولعه الشديد بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي والذي لحن له مجموعة من القصائد أشهرها «أنت» لعبد الوهاب الدكالي و«الصباح الجديد» للمطربة التونسية فتحية خيري، و«مناجاة عصفور» لثريا سعود و»أقبل الصبح» للبشير عبده.. كما لحن للشاعر الأندلسي ابن زيدون أغنية «يا نائما» لمحمود الإدريسي، ومن القصائد الجميلة التي أبدع الجراري في تلحينها زيادة على قصائد الشابي سالفة الذكر نستحضر «نداء الحبيب» للشاعر الغنائي الراحل محمد بنعبد الله التي أداها المطرب الراحل إسماعيل احمد، وكذلك رائعته «يا حبيب لقلبي» وعلى الرغم من دوره الكبير في تطوير الأغنية المغربية فإنه كان قليل الإنتاج ولم يقدم في عالم الألحان إلا عددا محدودا لا يتجاوز على أكثر تقدير ستين قطعة، وذلك رغم طول رحلته الفنية وسر ذلك أن الفن الصادق عنده لم يخضع للأمر والنهي أو للعرض والطلب، ولم تفرزه المجاملة وإنما هو الفن النابع من أعماق الفنان والصادر بتلقائية. ويعد الفنان الراحل عبد النبي الجراري أحد أمهر العازفين على آلة البيانو، وقد أفرد لهذه الآلة مساحة واسعة أحيانا في بعض ألحانه، كما هو الشأن مثلا في قصيدة «أتظن»، كما أنه غنى في بداية حياته الفنية الكثير من القطع ولحن بعض المعزوفات الموسيقية ضاع أغلبها مع الأسف. ومن بين الأغاني المغربية الخالدة التي وضع ألحانها الفنان الراحل عبد النبي الجراري «ابتسم يا غزال، «أسرار الجمال»، «مناجاة عصفور»، «أقبل الصبح»، «الصباح الجديد»، «سوق أغنامك يا فلاح»، «عيد الربيع بشر يا طوير» و»أرض الجمال»، وكلها عناوين توحي بولع الراحل الكبير بالطبيعة وعشقه لمفاتنها وكانت ملهمته في إبداع الكثير من الألحان الراقية اتسمت بالسمو والرفعة، لقد كانت ألحانا تهذب الذوق وتسمو بالأذن إلى عالم الجمال والمتعة الروحية. «يقول المهتمون إن الفنان الراحل عبد النبي الجراري سبق عصره بانفتاحه على تركيبات موسيقية لم تكن مألوفة في الأذن المغربية ، غير أنها سرعان ما فرضت نفسها وأثبت صواب اختياره الفني وسعيه للتحديث والعصرنة، ومن بين إبداعاته العديد من الأغاني التي مازالت محتفظة بقيمتها الفنية المتجددة.»