بتعليمات سامية من جلالة الملك ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    انطلاق عملية "رعاية 2024-2025" لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    بعد الإكوادور، بنما تدق مسمارا آخر في نعش الأطروحة الانفصالية بأميركا اللاتينية    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    تفكيك خلية إرهابية موالية لتنظيم "داعش" بالساحل في إطار العمليات الأمنية المشتركة بين الأجهزة المغربية والاسبانية (المكتب المركزي للأبحاث القضائية)    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    ارتفاع مؤشر التضخم في شهر أكتوبر    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    أحزاب مغربية تدعو لتنفيذ قرار المحكمة الجنائية ضد "نتنياهو" و"غالانت" وتطالب بوقف التطبيع مع مجرمي الحرب    معضلة الديموقراطية الأمريكية ..    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح        تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    وهبي: مهنة المحاماة تواجهها الكثير من التحديات    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المترجم الأدبي العربي سمير جريس أشرك القراء العرب في متعة الأدب الألماني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 23 - 09 - 2011

سمير جريس - كلما قرأت ترجمة جديدة له لرواية عن الألمانية إلى العربية، أحس كم أنا ممتن له. إنه لا يترجم الألمانية إلى العربية، بل يترجم النص الألماني (الروائي والقصصي والمسرحي) ليجتاز به المسافة والبحر إلى القارئ العربي؛ إلي تحديداً.
هذا هو المترجم. لا يستعرض عضلاته، وإنما يحمل إليك العالم ويبدع في صمت. يستنبت نصا جديدا في لغة الاستضافة. يعطي للعمل الذي يترجمه إلى العربية أجنحة كي يرفرف عبر الجغرافيات المتباعدة، يغذي به اللغة والثقافة العربيتين.
هنا حوار مع مترجم يستحق الانتباه، والذي يعزز من إمكانيات انفتاح الأدب العربي المعاصر على التجارب الأدبية الإنسانية، وذلك إلى جانب مجموعة من ألمع المترجمين العرب الجادين من أمثال صالح عماني، ثائر ديب، سعيد بنكراء، المهدي أخريف، صالح صالح وآخرين.
{ كلما قرأت ترجمة جديدة لك، أشعر بأنك حريص على بناء هوية نصية للأعمال الألمانية (أو المكتوبة بالألمانية)، فأنت لا تختار أي نص مصادفة، بل تختار وفق رؤية - فيما يبدو لي - تنم عن وعي بالمتن السردي الألماني وإدراك لما تغذي به المتن السردي العربي.
من هنا دعني أسألك أولا عن مختبرك الشخصي في الترجمة. كيف اخترت الأعمال التي ترجمتها حتى الآن؟
نعم، هناك رؤية، مثلما لاحظتَ أنت، لكنها ليست موضوعة مسبقاً، ولا هي رؤية جامدة؛ بمعنى : أنا لا أريد أن أنقل إلى العربية اتجاهاً محدداً في الأدب الألماني، أو كاتباً معيناً أرى أن كتاباته تتوافق مع الذوق العربي، أو نصوصاً كل ميزتها الجرأة والصراحة الكاشفة أو الفاضحة لأنها تكسر تابوهات معينة.
حتى لا نتيه في العموميات، دعني أفصّل لك : في بداية عملي كمترجم اخترت نصوصاً قصيرة لبورشرت وهاينريش بول. من ناحية كانت هناك اعتبارات عملية، مثل سهولة نشر تلك النصوص القصيرة في المجلات والدوريات، ومن ناحية أخرى لأن القصة القصيرة الجيدة تستطيع مخاطبة القارئ في لغة وثقافة أخرى على نحو أسهل بكثير من الرواية الطويلة؛ كما أن هذه القصص القصيرة تتحدث عن الخبرة الأساسية التي أثرت عميقاً في الأدب الألماني المعاصر، أعني خبرة الحرب.
بعد ذلك اتجهت إلى ترجمة الرواية. كان همي - ولا يزال - هو نقل أعمال متميزة من كافة اتجاهات الأدب الألماني المعاصر، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. أقول أعمالاً متميزة، إما لأنها حققت شهرة في داخل المنطقة الألمانية (مثل «قصص بسيطة» لإنجو شولتسه)، أو لأنها حققت نقلة فنية أو أسلوبية وبالتالي كانت لها أهمية نقدية (مثل «مونتاوك» لماكس فريش)، أو لأنني أرى أن هذا العمل مناسب للقارئ العربي (مثلاً «الحيوان الباكي» لميشائيل كليبرغ والذي يتحدث فيه عن رحلته إلى لبنان وعلاقته بالشاعر عباس بيضون). أحياناً أود أن أنقل عملاً لكاتب لا يعرفه القارئ العربي (مثل توماس برنهارد وكتابه «صداقة»)، وأخيراً فأنا أترجم عملاً ما لأنني - ببساطة - أحببته، واستمتعت به وأردت أن يشاركني آخرون هذه المتعة (مثل «الكونتراباص» لزوسكيند، وكل أعمال دورنمات التي ترجمتها حتى الآن، وخاصة «الوعد»).
أول رواية ترجمتها هي «مونتاوك» للكاتب السويسري ماكس فريش (2001، دار الجمل). هذا عمل مميز لفريش، بل لعله العمل الأكثر بروزاً بين كل أعماله، وكما يكاد يجمع نقاد الأدب الألماني. هي سيرة ذاتية من طراز فريد، كتبها فريش في أواخر السبعينات. جذبني إلى تلك السيرة تعامل فريش الجرئ والصادم والصريح مع النفس وأخطاء الذات. هي صراحة شبه نادرة في الأدب العربي. «مونتاوك» عمل حداثي أيضاً، يتلاعب بالزمان والمكان، ويلغي الحدود بينهما، كما أنه عمل يتميز بشاعرية خاصة. بعد أن ظهرت الترجمة سعدت للغاية عندما جاءتني رسالة من الروائي الكبير صنع الله إبراهيم، هنأني فيها على اختياري لهذا العمل وما اعتبره «ترجمة موفقة حافظت على شاعرية الأصل»؛ وأعتقدُ أن «مونتاوك» أثّرت فيما بعد على صنع الله إبراهيم عندما كتب روايته الجميلة «التلصص» متحدثاً فيها بصراحة وجرأة عن أبيه.
بعد ذلك، تنوعت ترجماتي لكتاب مختلفين من ألمانيا وسويسرا والنمسا؛ منها «قصص بسيطة» (مشروع الترجمة، القاهرة 2004)، وهي رواية متميزة حصلت على شهرة كبيرة في ألمانيا وترجمت إلى نحو ثلاثين لغة، ويمكن اعتبارها «رواية الوحدة الألمانية»، ثم «حرفة القتل» (أزمنة، عمان 2005) للنمساوي نوربرت غشتراين، ثم رواية «عازفة البيانو» للنمساوية إلفريده يلينك فور حصولها على نوبل عام 2004 (ميريت، القاهرة 2005)، والمونودراما الرائعة «الكونتراباص» لباتريك زوسكيند، (مشروع الترجمة، القاهرة 2005). كما ترى، أعمال مختلفة كل الاختلاف، تجمعها، برأيي، القيمة الأدبية، وأنها أعمال «غير مُغرقِة» في ألمانيتها، أي تستطيع - رغم التصاقها بالتربة المحلية - أن تخاطب القارئ العربي.
عموماً أستطيع القول : لم أترجم كتاباً لم أحبه، باستثناء كتاب واحد كانت له ظروفه التي آمل ألا تتكرر.
{ كيف تنظم عملك وسيرورة نقل النص من الألمانية إلى العربية؟
هذا أمر يتطلب بالفعل نظاما صارما، يذكرني بنظام أستاذنا نجيب محفوظ في الكتابة. فمعظم ما ترجمته قمت به بجانب عملي اليومي في الصحافة وفي الترجمة الفورية. ولهذا تتم الترجمة ببطء نسبي، وأعتقد أن هذا البطء يخدم - عموماً - الترجمة. أترجم في البداية النص كمخطوطة، بخط اليد أو مباشرة على الكمبيوتر، وهو ما أصبحت أفضله في السنوات الأخيرة لأنه يوفر وقتاً كبيراً. هذه المسودة أعمل عليها أكثر من مرة. المرة الأولى لأتأكد من صحة الترجمة والمحافظة على المعنى الأصلي. في المرة الثانية والثالثة، وأحيانا الرابعة، أعمل على الأسلوب العربي ، وهذه هي المرحلة الأصعب، أعني أن يوفق المترجم بين سمات الأسلوب العربي وأن يحاول الحفاظ على ملامح الأسلوب الأصلي. ليس هدفي في الترجمة أن أقدم نصاً عربياً يمحو شخصية الكاتب الأجنبي (يعني مثلاً إذا كان هناك كاتب يتعمد ألا يستخدم تعبيرات شائعة أو مصطلحات مسكوكة ويستخدم الكلمات استخداماً جديداً، فعلى الترجمة أن تعكس ذلك). هدفي هو تقديم نص عربي سلس يحافظ على البيئة الألمانية والسمات الأسلوبية للأصل.
العمل الوحيد الذي تفرغت لترجمته كان «عازفة البيانو»، فبعد حصول يلينك على نوبل 2004 ، شعرت بأهمية نقل عملها الأساسي إلى العربية. تفرغت تماماً للترجمة، وحصلت على منحة من معهد المترجمين في مدينة شترالين الألمانية. هناك، كنت أعمل ما لا يقل عن 12 ساعة يومياً. أعتقد أن هذا التفرغ كانت له ميزة، وهو أنني عايشت بطلة الرواية نهارا وليلا إذا جاز القول. من ناحية أخرى، كنت أعمل تحت ضغط كبير، إذ كان عليّ أن انتهي من الترجمة بسرعة لكي تُطبع قبل معرض الكتاب في القاهرة في يناير 2005. لذلك أتمنى أن أتمكن في طبعة لاحقة من تعميق الترجمة على مهل.
{ كيف أمكنك الانكباب على ترجمة رواية «عازفة البيانو»؟ قيل الكثير عن التعقيدات التي تطرحها لغة كاتبتها وصعوبة الاقتراب من عوالمها المتخيلة.
من بين كل الأعمال التي ترجمتها حتى الآن (17 عملاً) كانت «عازفة البيانو» بلا شك العمل الأكثر صعوبة وتعقيداً ومشقةً. لماذا؟ لأن أعمال يلينك تقوم، عموماً، على اللغة. يلينك بارعة في التلاعب باللغة، وماهرة في الإحالات التاريخية والأدبية، كما أنها أيضاً أستاذة في السخرية. كل ذلك يجعل ترجمة نصوصها صعبة، إن لم نقل مستحيلة.
سأعطيك مثالاً: كلمة «باخ» بالألمانية تعني الغدير، كما أنها - بالطبع - تحيل إلى الموسيقار المشهور يوهان سبستيان باخ. يلينك تستخدم الكلمة في بعض المقاطع بحيث لا يعرف القارئ هل تقصد «الغدير» أم الموسيقار- قد تلتفت كقارئ باللغة الألمانية إلى هذا التلاعب، وقد تبتسم، وقد لا تلتفت إليه، ولكن المترجم العربي لا بد أن يختار: إما «غدير» أو «باخ» ? وبالتالي تضيع السخرية من جملة مثل: كانت موسيقى باخ تنساب كالغدير.
مثال آخر: في أحد المقاطع تصف يلينك بابتذال متعمد مشهداً جنسياً، وفيه تتمنى المرأة أن تطول لحظة المتعة وتمتد. يلينك تستخدم في المشهد الكلمات نفسها التي يستخدمها فاوست في عمل غوته الأشهر، وهي: «تريثي قليلاً، فما أجملك!» هذا الاستشهاد بكل ما يحمله من رومانسية وإحالة إلى عمل أدبي خالد، والمشهد المبتذل في «عازفة البيانو»، يثير ابتسام القارئ الألماني، لكن تأثيره يضيع في اللغات الأخرى، وأقصى ما يستطيعه المترجم هو الإشارة إلى ذلك في الهامش. لكل ذلك، وأيضا بسبب ما تحفل به روايات يلينك من جنس مبتذل عنيف يثير التقزز في كثير من الأحيان، فإن أعمالها تستعصي على الترجمة، ليس فقط إلى ثقافة مختلفة تماماً عن الألمانية مثل الثقافة العربية، بل أيضاً إلى اللغات الأوروبية الأخرى. المترجمة الفرنسية التي ترجمت «عازفة البيانو» رفضت أن تترجم أعمالاً أخرى ليلينك بعد حصولها على نوبل. الموقف نفسه تكرر معي، عندما سألني محمد هاشم، مدير دار ميريت، أن أترجم «شبق»، رفضت على الفور. يكفيني ما شعرت به من تعذيب للنفس خلال ترجمة «عازفة البيانو».
{ حظي عملك القصصي المترجم «سن الأسد» لفولفغانغ بورشرت (وهو عملك الإبداعي في النهاية، إذ منحته روح لغتك وأنفاسك وعنايتك الصديقة به)، حظي باهتمام بالغ كما توّجه الكاتب العربي إبراهيم أصلان بالتفاتة نقدية احتفائية رصينة وودودة.
لماذا هذا الكاتب تحديداً، خصوصاً بعد المختارات القصصية الموفقة التي ترجمتها للكاتب الألماني الإنساني الكبير هاينريش بول؟ ولماذا هذه الكتابة البيضاء؟
كان بورشرت هو الكاتب الذي دفعني إلى الترجمة الأدبية. كنت ما زلت طالباً في كلية الألسن بجامعة عين شمس عندما قرأت نصوص بورشرت فأحببتها على الفور. بالطبع كانت جملته البسيطة ولغته المتقشفة في قصة مثل «الخبز» دافعاً لي لكي أقوم بترجمتها إلى العربية. كتابة بورشرت «البيضاء» - كما تسميها - تهز القارئ هزاً، وتنقله بكلمات بسيطة إلى مأساة الحروب، كل الحروب، ويزداد تأثير أعماله عبر جملته المقطرة البليغة وأسلوبه الشاعري. كل ذلك حمسني للترجمة في منتصف الثمانينات، واستطعت أن أنشر إحدى قصصه في مجلة «إبداع» المصرية. ثم جاء الغزو العراقي على الكويت وعادت الحرب حاضرة بشدة في منطقتنا العربية، فتقدمت بمجموعة من القصص إلى أكثر من دار نشر حكومية، ونُشرت الترجمة ? التي كانت الأولى لي - بعد تأخير استمر سنوات في سلسلة «آفاق الترجمة» بعنوان «شدو البلبل». نفد الكتاب بمجرد صدوره، وأحدثت قصص تلك المجموعة صدى طيباً. وبعد مرور سنوات عديدة حثني عديد من الكتّاب والأصدقاء على ترجمة عدد آخر من قصص بورشرت، فكانت هذه المجموعة الجديدة (القاهرة 2010) التي تضم إلى جانب القصص المنقحة عدداً من القصص التي لم تترجم من قبل إلى العربية. وكان على رأس من شجعني إبراهيم أصلان الذي احتفى بقصة «الخبز» في مقالة له ب»الأهرام» وعدها نموذجاً للقصة القصيرة التي عبرت عن حرب هائلة، دون أن تأتي على ذكر هذه الحرب بكلمة واحدة.
بعد بورشرت كان بول (أو بُل كما ينطقها الألمان). هاينريش بُل Boll أضاء بقصصه فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، فترة ما سُمي ب»المعجزة الاقتصادية». جذبني إلى بُل أنه يفكك صورتنا نحن العرب عن الألمان - تلك الصورة المرتبطة ب»عظمة» هذا الشعب الذي استطاع في غضون سنوات قليلة أن ينهض من ركام الحرب ليصنع معجزة اقتصادية بهرت العالم كله، وبهرتنا نحن العرب، وأعمت أبصارنا عن كُلفة تلك «المعجزة». بُل مصور جيد لتلك الفترة، ومهاجم لاذع لما سادها من رياء ونفاق، وفاضح للعفن الذي توارى خلف الواجهة الاقتصادية البراقة. نسيان جرائم الماضي، وتناسي مسؤولية الذات في حدوث كارثة النازية، الكبت والإزاحة والتعمية على جرائم الماضي بالانجازات الاقتصادية: هذه هي موضوعات بُل في قصصه، وهي كما ترى ما زالت صالحة للقراءة، وتحديداً في بلادنا العربية.
{ اشتغلت، خلال مسارك كمترجم للأدب الألماني، على نصوص ألمانية (لغةً وجنسيةً)، ونصوص سويسرية وأخرى نمساوية. هل يمكنك تقريبنا من خريطة السردية الألمانية متعددة الجنسيات والأجيال والتجارب والأصوات؟
هذا سؤال يقودنا إلى تشعبات لا تنتهي. من واقع ما ترجمته يمكنني القول باختصار إن الأدب السويسري تحديداً، ماكس فريش وفريدريش دورنمات على سبيل المثال - أكثر انفتاحاً على العالم، هو أدب عالمي التوجه بامتياز، في حين أن الأدبين الألماني (بُل وغراس مثلاً) والنمساوي (توماس برنهارد) مُغرِقان في المحلية. رواية مثل «الطبل الصفيح» لغونتر غراس مثلاً لا يمكن أن تُقرأ إلا في سياق التاريخ الألماني المعاصر، بينما قصة «العطل» (في مجموعة «أبو حنيفة وأنان بن داود») أو رواية «الوعد» لدورنمات من الممكن أن تجري أحداثهما في لندن أو باريس أو مدريد، أو حتى في القاهرة أو الدار البيضاء.
{ قرأت لك مؤخراً بعض الأعمال الروائية انحزت فيها من حيث التيمات إلى تيمة القتل؛ «حرفة القتل» للنمساوي بوربرت غشتراين (2005) و»قاتل لمدة عام» لدليوس (2007)، دون إغفال رواية «الوعد لدورنمات (2008) التي اعتبرها هو نفسه رثاء للرواية البوليسية مع أنها كُتبت بروح ونَفَس الرواية البوليسية. كيف انبثق هذا الانحياز؟ هل كان مصادفة، أم كان تعبيرا عن أفق ما في الواقع وفي المتخيل؟
في الحقيقة لم أنتبه لهذا «الانجذاب» إلى القتل. بالصدفة نشرت الأعمال الثلاثة لدى دار «أزمنة» الأردنية، وعند تقديم المخطوطة الثالثة، «الوعد»، سألني صاحب الدار الروائي إلياس فركوح ضاحكاً: إيه حكايتك مع القتل يا سمير؟
عنوان «حرفة القتل» يحيل بالطبع إلى «حرفة الحياة» للكاتب الإيطالي شيزاري بافيزي، والرواية - كما تعلم - تدور حول الحرب في البلقان وحول صعوبة، أو استحالة، كتابة رواية تحيط بالحرب بكل أبعادها. القتل - إذاً - هامشي في الرواية. في «قاتل لمدة عام» يريد طالب من جيل 68 الاقتصاص من القاضي النازي الذي أصدر أحكام إعدام في حق عشرات من المقاومين في الحقبة النازية. وبعد الحرب يبرئ القضاء ساحة هذا النازي لأنه لم يخالف نصوص القانون. «القاتل» يريد العدالة ولو عن طريق القتل. هي - إذاً - رواية عن التاريخ وعن القانون والعدالة. أما رواية «الوعد» فهي الوحيدة التي تدور حول القتل وحول الجريمة. «الوعد» رواية ممتعة، قرأتها في يوم واحد، وانتابتني على الفور الرغبة في ترجمتها. الرواية - كما ذكرتَ - رثاء للرواية البوليسية المعتادة، لأنها تسخر من فكرة أن العدالة تسود في النهاية والمجرم ينال عقابه وأن الجريمة لا تفيد. دورنمات يتأمل في الرواية فكرة القانون، وعجزه في أحيان كثيرة عن تحقيق العدالة، كما تدور الرواية حول فكرة المصادفة التي شغلت بال دورنمات كثيراً. هذا الكاتب الكبير كتب عدداً من الروايات التي تبدو بوليسية، لكنها تتناول مسائل فلسفية عميقة.
بقي أن أقول إنني أحب الأفلام البوليسية الجيدة، وأفتقد كثيراً الروايات البوليسية في أدبنا العربي، ولعلي أردت بترجمة «الوعد» تقديم نموذج لرواية بوليسية مشوقة لا تخون الأدب والفلسفة. وبالمناسبة، هناك من الكتّاب مَن يفضل قراءة الروايات البوليسية على ما سواها. هذا مثلاً ما قاله لي إدوارد الخراط قبل سنوات رداً على سؤالي: ماذا تقرأ هذه الأيام؟ أما الكاتبة النمساوية إلفريده يلينك فقد صرحت أكثر من مرة بسخريتها المعهودة أنها لا تطالع سوى مجلات الموضة والروايات البوليسية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.