يوسف آيت همو أستاذ باحث بكلية الآداب مراكش عرف باشتغاله على الثقافة الشعبية والسينما و الصورة و التراث الشفهي، وصدرت له عدة أعمال في المجالات المذكورة آخرها «السينما والشفهية «الذي صدر مؤخرا. وارتبط اسم الرجل بدفاعه عن إدماج التعامل مع الصورة والحكي والثقافة الشعبية ضمن أفق الاشتغال الأكاديمي للجامعة المغربية لمنحها فرصة تحيين برامج بحثها في ارتباط بالنقلات الثقافية المتوالية التي يعرفها العصر والتي تؤثر على إدراك الإنسان للعالم ولنفسه وعلى أسلوب حياته وتقديره لذاته وللآخر.. في هذا الحوار، نسترجع مع الباحث يوسف آيت همو نقط التقاطع بين الثقافة الشعبية المتحققة في فضاء جامع الفنا و قاعة السينما التي شكلت مجالا للتعاطي المتبادل بين متخيل رواد «الحلقة» ومخرجي الأفلام السينمائية .. - جامع الفنا والسينما، يبدو أن في هذه الثنائية الكثير مما يمكن تأمله؟ - في البداية، أود التأكيد على راهنية السؤال والحوار حول العلاقات الممكنة بين السينما والفضاءات الشعبية كساحة جامع الفنا. ففي ظل العولمة والعولمة المضادة، أصبح السؤال الثقافي ذا أهمية قصوى. ذلك أن المجتمعات البشرية تعيش اليوم هاجس البحث عن الذات في خضم ما هو كوني وتحديد الكوني في أعماق الذاتي . من نحن؟ من أين أتينا؟ أين نحن ذاهبون؟ ماهية قيمة الموروث الحضاري؟.. في هذا الإطار يمكن تحليل العلاقات الممكنة بين السينما كتكنولوجيا معاصرة وعالمية وكأداة للعولمة الأمريكية اليوم (هوليود نموذجا) وكأداة مضادة للسلطات المهيمنة محليا و دوليا وساحة جامع الفنا هي فضاء ثقافي شعبي شفاهي موروث ومحلي ينتمي إلى إيكولوجيا ثقافية مختلفة ومتميزة. لا أعتقد أن من الصحيح الحديث عن ثنائية بين الساحة و السينما ، بل أعتقد أنه من الصائب القول أنه منذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا، نلاحظ علاقة تفاعلية و تأثيرية بين هذين النوعين من الخطابات. فإذا ما قمنا بمقارنتها يتضح لنا أن كليهما فضاء تواصلي جماهيري وثقافي أساسه الحكي والسرد وتمرير خطاب بيداغوجي وترفيهي. لكن هناك أوجه اختلاف سوسيوسيميوطيقية يمكن إدراجها كالتالي: السينما كفضاء تقابلها ساحة جامع الفنا، وعلى التوالي نسرد مجموعة من التقابلات مثل: التواصل الجماهيري يقابله تواصل شعبي وفضاء القاعة السينمائية يقابله فضاء الساحة العمومية، السينما كفضاء خاص تقابله الساحة كفضاء عمومي، الفيلم تقابله الحلقة، عرض سينمائي بصري يقابله الجسد الحامل للخطاب، وعدم ضرورة حضور المخرج أثناء العرض يقابله حضور الحلايقي والمتفرج في نفس المكان و نفس الزمان، ومحتوى محلي ودولي يقابله محتوى محلي، فضاء مغلق لايسمح بحركية الجسد يقابله فضاء مفتوح يسمح بحركية الجسد، ومشاهد غير تفاعلية تقابلها مشاهد تفاعلية. هذا على مستوى المقارنة بين هاتين المنظومتين الثقافيتين. أما على مستوى التفاعل الفعلي، فهناك نقط أخرى يتعين الوقوف عندها كحضور السينما بالساحة وتشكيلها للفضاء الشعبي، وحضور السينما بالساحة ببعض الأفلام، وحضور لأشخاص ينتمون للقطاعين. رغم الاختلافات والخلافات الموجودة بينهما، فالساحة والسينما تعيشان ثلاث أزمات خطيرة: أزمة هوية من جراء هيمنة العولمة الأمريكية، أزمة الوجود جراء الهجمة الشرسة للمنطق التجاري البراغماتي وبفعل تقزيم الثقافة في بعدها التجاري المادي marchandisation de la culture ولكن أبسط خطأ يحدق بهما هو دمقرطة البلادة على حساب ديمقراطية الذكاء. - كثيرا ما استثمرت جامع الفنا كفضاء سينمائي ، لكن هل كانت عوالم الحلقة بالساحة موحية للمتخيل السينمائي وطنيا وعالميا كما هو الشأن بالنسبة للمسرح ؟ - قبل الإجابة عن هذا السؤال يمكن الانطلاق من المسلمة التالية: المنطق السياحي المتوحش ساهم بكثير في تهميش المنطق الثقافي و الترفيهي. ومن ثم لم تحظ ساحة جامع الفنا بالحضور السينمائي القوي (كما وكيفا) الذي تستحقه كفضاء اعترفت به اليونسكو في 2001، ولم يكن للحلقة (خاصة الحكواتي والمنشط) حضور سينمائي وتلفزي متميز. فأغلب الأفلام تعتبر الساحة كخلفية وديكور لا كشخصية فاعلة في العمل الدرامي ومؤثره في الأحداث. على العكس من المسرح (الطيب الصديقي- سيدي عبد الرحمان المجدوب- ، أحمد الطيب العلج - قاضي الحلقة- ، عبد القادر البدوي - الحلقة فيها أو فيها، أحمد المعاوي - استمرار الملحمة،، شهرمان،...) الذي استفاد الكثير من الحلقة، لم ترق السينما الوطنية ولا الأجنبية إلى هذا المستوى من الرقي الثقافي الذي يكمن في البحث عن الإلهام في الثقافة الشفاهية الموروثة المتواجدة بالساحة. يجب التأكيد هنا كذلك على مسلمة أخرى تكمن في الموقف المتعالي الذي تقوم به الثقافة العالمة (خاصة السينما والكتاب) التي تنصب نفسها كمحور تجاه الثقافة الشعبية المهمشة. ولعل من أكبر أخطاء الإبداع السينمائي والتعبيري المغربي رفض الغوص في تجليات الثقافات الشعبية المغربية العريقة. فإذا ما استثنينا أعمال متميزة كحديدان ورمانة وبرطال وكيد النسا، يبقى المشهد السمعي البصري المغربي فقيرا جدا في مجال استغلال الموروث الثقافي، وهذا يتنافى مع التوجه العالمي في يومنا هذا. بالفعل، هناك حضور للساحة بالأفلام الدولية والوطنية. لقد ساهم العديد من المخرجين الأجانب ( هتشكوك، جيل ماكينون، برناند فيليب دي بروكا، طوما ليدبورغر....) والمغاربة (داوود أولاد السيد، لعبي بناني، ازا جينيني، ادريس شويكة، عبد المجيد رشين...) في ابراز بعض المعالم السياحية، الفرجوية والثقافية للساحة. لم ترق هذه الأفلام الى مستوى الجمالية الفنية الا عند هتشكوك في فيلمه - الرجل الذي يريد المزيد 1956-. ولم ترق الى مستوى من الاحترام والاعتراف الثقافي الا عند المخرج الألماني الشاب (طوماس لديربرك) في فيلمه: الحلقة في دائرة الحكواتيين سنة 2009. وأنا اليوم بصدد البحث عن أول فيلم صور بساحة جامع الفنا حيث الى حدود سنة 1932 و1934 وجدت أن هناك فيلم بالألوان الطبيعية يقدم الحكواتي بساحة جامع الفنا وهو بداخل حلقته وخبراء الصورة يعرفون مدى دلالة ذلك وأهميته التاريخية. - عندما نتذكر بعض أبطال ساحة جامع الفنا ،نجد أنه كانت تجري على ألسنتهم خلال تنشيط حلقاتهم أسماء بعض شخصيات أفلام عالمية وتقليد حركاتهم، هل نعتبر ذلك مؤشرا على استيحاء السينما من قبل الحلقة؟ - ما يميز السينما وساحة جامع الفنا، هو مبدأ التلاقي la rencontre الذي يعود لجيل دولوز، حيث هناك تلاقي الأجساد، وتلاقي الثقافات، وتلاقي الرؤى. والدراسة السوسيو سميوطيقية تسمح برصد ثلاثة أنواع من العلاقات بين الساحة والسينما في إطار هذا المفهوم . هناك أولا علاقة تجاور وتعايش بين المنظومتين . وذلك يتضح من خلال كون مجموعة من القاعات السينمائية تحيط بالساحة: سينما مبروكة، والأطلس، والقنارية، وغزالة، والفتح، وموريطانيا .. وينتج عن هذا التجاور تفاعل ثقافي يومي : الذهاب والخروج من السينما يتم عبر المرور بالساحة وباستمرار الفرجة عبر الحلقات المتوفرة. بل رصدت ببعض القاعات امتدادا للسلوكات وأنماط التفاعل الخاصة بالساحة بداخل القاعة أثناء العرض . فالجمهور في قلب نفس القاعة يكوِّن حلقات (جماعات مصغرة) غالبا ما تكون مشاغبة، والمشاهد يمارس نوعا من الترحال بين كراسيها و كأنه يتجول بالساحة . ناهيك عن الرغبة في التفاعل مع شخصيات الأفلام كما هو الحال لما يقع مع الحكواتي أو المنشط بالساحة .. وتُبرز هذه العلاقة أشخاصا مزدوجين يعملون بالقطاعين . أولهما شخصية «ميخي» الذي هو منشط للحلقة وفي نفس الوقت عامل بسينما «عدن» بالقنارية . ويليه محمد باريز الذي يقوم بتنشيط حلقات سينمائية أمام قصر المؤتمرات أثناء المهرجان الدولي للفيلم بمراكش. وهناك أيضا خوان غويتصوللو الذي كتب أجمل وأروع نص حول قاعة سينمائية مغربية وهي «عدن « . وهو صاحب فكرة اعتراف اليونسكو بالساحة . و هناك أخيرا حلقة بائع أشرطة وصور الأفلام .. وفي إطار التعايش دائما، يمكن الإشارة إلى أن الساحة كانت ولا تزال فضاء لعرض الأفلام، ولعرض ملصقات الأشرطة المتداولة في القاعات السينمائية بمراكش (ملصقات المثلث المتحرك، ملصقات بباب فتوح، ملصقات أمام CTM ..) ونلاحظ أن المهرجان الدولي بمراكش أكد سُنَّة سنوية لعرض أفلام وطنية و أجنبية بساحة جامع الفنا طيلة أيام المهرجان .. وهنا يجب التأكيد على مشكل كبير يعاني منه رواد الحلقات بالساحة؛ فبعض أفلام الحركة ذات الصخب القوي تؤثر سلبا على مردودية الحلقة فيضطر الحلايقي إلى رفع صوته لمقاومة هذا التلوث السمعي و الضجيج الصاخب. ومن ثمة يمكن اعتبار هذه العروض السينمائية كعنف جسدي ورمزي تجاه ثقافة شعبية لا حيلة لها. ولكنه عنف جسدي عابر. وفي رأيي ، كان من الأصوب عرض أفلام مغربية أو أجنبية يتمحور محتواها حول الحلقة أو حول الثقافة الشفاهية . بل أرجو شخصيا أن تخصص حصص يومية أثناء المهرجان المذكور خاصة بالأفلام السينمائية والتلفزية التي تهتم بالحلقة وساحة جامع الفنا. وأرجو كذلك أن يتم التفكير في عرض أفلام حول مراكش للسياح بقاعة مبروكة على طول السنة . هكذا نكون قد ساهمنا في ترويج الثقافة الشعبية للأجانب وفي إنقاذ قاعة سينمائية مهددة. وأتذكر أنه خلال هذه السنة أثناء الاحتفال بمرور 10 سنوات على إعلان ساحة جامع الفنا كتراث إنساني من طرف اليونسكو، تم عرض مجموعة من الأفلام المغربية والأجنبية بقاعة مبروكة لقيت استحسان المراكشيين و السياح . - ربما ثمة أيضا خطاب متبادل يتم إنتاجه حول الطرفين معا ؟ - نعم، النوع الثاني من العلاقة بين ساحة جامع الفنا والسينما هو علاقة خطاب. وتكمن في كون كلتاالمنظومتين تقومان بإنتاج خطاب معين حول الأخرى .فقد تم التأكيد سلفا على أن الخطاب السينمائي والتلفزي حول الساحة لم يرق إلى الكم المنشود (53 فيلما وبرنامجا حسب إحصاء شخصي) ولا إلى الكيف النوعي الذي يجمع بين عمق المعنى وجمالية الخطاب، إلا في ما ندر. بل لم يفلت من ترديد الكليشيهات والصور الاستشراقية عبر الصوت والصورة . السينما اليوم، امتداد للاستشراق القديم الذي يقزم كل ما هو مغربي عربي و أمازيغي. (نقصد هنا التعامل السينمائي مع جامع الفنا) . لم تصل السينما اليوم إلى مستوى الأدب الأجنبي و الفن التشكيلي و فن التصوير و فن المسرح في تعاملها مع ساحة جامع الفنا . و في المقابل أنتج رواد الحلقة خطابا شفهيا ذكيا حول السينما و التلفزيون . لم يكن هذا الخطاب تقليدا ساذجا بل هو نقد ذكي وثاقب للكليشيهات والسنن التي يرتكز عليها الفن السينمائي. وهناك العديد من الأقوال والتلميحات التهكمية التي أنتجها طبيب الحشرات، وميخي، وملك جالوق حول هرقل، وماصيص، ورعاة البقر، وبيك بوس، ومحمد عبد الوهاب ، وفريد شوقي، والأخبار التلفزية .. لم يكن الحلايقي مجرد محاك ساذج للسينما بل كان منتجا لخطاب ساخر حول الإعلام الجماهيري، خطاب يدمج السينما لكي ينفخ فيها محتوى شعبيا تقليديا، خطاب مبني على تملك السينما و إعادة صياغتها حسب القوانين الثقافية الشعبية . وأعتقد بأن ظاهرة أفلام «البواقة« و«أولاد باب الخميس« (أفلام تقوم على مبدأ دبلجة مراكشية هزلية لأفلام عالمية ) هي امتداد لطبيب الحشرات والصاروخ .. لاحظت بأن بعض رواد الحلقة اقترضوا أسماء شخصيات سينمائية مثل «ميخي» و«طاراس بولبا« (الصاروخ) . - هل يمكن اعتبار أجواء الحلقة سينما بلا كاميرا لكن بإخراج متقن وتصوير مبدع ؟ - القاسم المشترك بين السينما والحلقة لا يكمن في مجال التقنيات والأدوات ،بل على مستوى المحتوى الفكري والسردي. فحسب Sembere ousman، فالمخرج السينمائي اليوم ليس إلا الحكواتي القديم الذي استبدل الطبل بالكاميرا. ومن خلال هذا المنظور، فالسينما هي امتداد لفنون الفرجة والحكي التقليدية. وبالفعل لو ولد هتشكوك و داوود أولاد السيد في القرنين 15 أو 16 لكانا من رواد الحلقة بساحة جامع الفنا. ولو أعطيت الإمكانيات المادية و الفنية لباريز والمقري لتألقا كمخرجين سينمائيين اليوم. إن الركائز الثقافية تتطور بموازاة مع التطور الفكري والإبداعي البشري، وحسب cloutier في كتابه LEre dEMEREC فقد عرفت البشرية أربع مراحل تواصلية أو خاصة بالركائز الثقافية : أولها الجسد كوسيط بدائي (حركات الجسد، النطق، المشاهدة بالعين، الرائحة ، اللمس ...) وفي المرحلة الثانية هناك اكتشاف للكتابة كوسيط نخبوي يسمح بمقاومة حواجز الزمن والمكان . ثم في مرحلة ثالثة اكتشاف وسائل الإعلام الجماهري كالسينما والتلفزة والمطبعة والراديو والتي تسمح بترويج أكبر عدد من المعلومات لأكبر عدد من الأشخاص . وأخيرا هناك وسائل الاتصال الفردية التي تتمثل في الجهاز المحمول والأنترنيت وسمارت فون والفيديو ... فالحلقة مرحلة من مراحل تطور الثقافة البشرية مبنية على الجسد والتفاعل المباشر، بينما السينما هي كذلك مرحلة ثقافية لكنها مبينة على صورة الجسد وعلى التفاعل غير المباشر. وفي عمق الأشياء الحلقة في حاجة للتقنيات جديدة مستلهمة من السينما، بل هي في حاجة إلى محتويات جديدة مطابقة للعصر وإلى إعادة الاعتبار من جديد، فالإنسان المعاصر محتاج في تواصله اليومي إلى الجسد ،إلى الكتابة، إلى السينما وإلى الأنترنيت. - و ماذا عن الجامعة المغربية في علاقتها مع جامع الفنا والسينما؟ - إنها المعادلة الصعبة في بلد الألف حكواتي وبلد أفضل نهضة سينمائية بإفريقيا اليوم. فالجامعة المغربية مازالت تتعامل بازدراء وتهميش لكل ما يمت للسينما كثقافة جماهيرية وثقافة شعبية، بخلاف الجامعات الغربية وبعض الجامعات العربية. مازالت الجامعة المغربية تقصي من همومها الأكاديمية والبحث العلمي حول السينما وحول الشفهية. وهذا الإقصاء يتضح من خلال قلة البحوث (دكتوراه، ماستر، إجازة) حول السينما و الشفهية ، ومن غياب حقيقي لمجموعات البحث في المجالين، ومن غياب المغرب في المنتديات والندوات الدولية حول السينما. أعتقد بأنه في خضم التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم العربي عامة والمغرب خاصة، لابد من رد الاعتبار لهذين الرافدين للثقافة الشعبية والجماهيرية. فبدون بحث أكاديمي وعلمي حقيقيين حول الموروث وحول السينما لن نستطيع القيام بتفاعل جدي مع العولمة ومع تحديات العصر. فنحن في حاجة الى الاعتراف بالاختلاف الثقافي بالإضافة الى الاندماج في عصر الصورة.