أخنوش: صادرات قطاع الطيران تواصل مسارا تصاعديا بزيادة قدرها 20% مع نهاية شهر شتنبر الماضي    معدل نشاط السكان بجهة طنجة يتجاوز الوطني والبطالة تسجل أدنى المستويات    البحرية الملكية تُحرر سفينة شحن حاول "حراكة" تحويل وجهتها الى اسبانيا        أخنوش: التوازن التجاري يتحسن بالمغرب .. والواردات ضمن "مستويات معقولة"    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة    المحامون يواصلون شل المحاكم.. ومطالب للحكومة بفتح حوار ووقف ضياع حقوق المتقاضين    "أطباء القطاع" يضربون احتجاجا على مضامين مشروع قانون مالية 2025    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    الجيش المغربي يشارك في تمرين بحري متعدد الجنسيات بالساحل التونسي        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    أقدم استعمال طبي للأعشاب في العالم يكتشف بمغارة تافوغالت    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    "المعلم" تتخطى عتبة البليون مشاهدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    المنتخب المغربي يستعد لمواجهة الغابون ببعثة خاصة واستدعاء مفاجئ لحارس جديد    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    مسار ‬تصاعدي ‬لعدد ‬السجناء ‬في ‬المغرب ‬ينذر ‬بأرقام ‬غير ‬مسبوقة ‬    مزور… الدورة الوزارية ال40 للجنة الكومسيك، مناسبة لتعزيز الاندماج الاقتصادي بين الدول الإسلامية    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    كيوسك الإثنين | "زبون سري" يرعب أصحاب الفنادق    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    الباشكي وأيت التباع يتألقان في بلوازن    السعودية تعلن اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي    مظاهرات بمدن مغربية تطالب بوقف الإبادة الإسرائيلية بغزة    الخطوط الجوية الفرنسية تعلق رحلاتها فوق البحر الأحمر    تحقيق أمني بطنجة بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة في بنك المغرب    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    ابن تماسينت إبراهيم اليحياوي يناقش أطروحته للدكتوراه حول الحركات الاحتجاجية    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. العودة إلى عالم الأحياء
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 08 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
«جلالة الملك سيعفو عنكم قريبا» هكذا كان الطبيب بوزرته البيضاء يمر , يوم
الأربعاء 15 سبتمبر 1991 , من غرفة لغرفة, مرفوقا بالعقيد فضول معلنا النبأ لكل واحد منا...
كنا نوجد منذ بضع ساعات في مستشفى عسكري, بعد رحلة لا متناهية الرعب قطعناها مثل أشباح يعبرون الليل و المجهول , رحلة أيقظت في كل واحد منا الذكرى الفظيعة للرحلة الأخرى التي قادتنا, في الليلة الفاصلة بين سابع و ثامن غشت 1973 , إلى معتقل تازمامارت الذي قضينا فيه ثمانية عشر عاما في ظروف فظيعة تتحدى كل تصور و تفوق كل خيال.
و مما زاد الرحلة إيلاما, هو تلك الرائحة النتنة و المروعة التي تزكم الأنوف , التي تفشت داخل الشاحنة فور تحركها. و التي علمت فيما بعد, أن مصدرها هو تواجد الإخوة بوريكات صحبتنا, و الذين كانوا ثلاثتهم , لدى خروجنا من تازمامارت في حالة بدنية متردية تستعصي على الوصف.
كنا و نحن نخرج في الظلام الدامس من زنزاناتنا بتازمامارت, مقيدي الأيدي معصوبي الأعين مقنعي الوجه حاملين فوق كل ذلك نظارات قاتمة, نشبه موكبا لمحكومين بالإعدام يقادون , بعيدا عن العيون, إلى منصة الإعدام.
و رغم ما قيل لنا : «سنقودكم للمستشفى حيث ستتلقون العلاج ثم تلتقون بعد ذلك بعائلاتكم...» و بالرغم من أنهم ألبسونا بدلة عسكرية جديدة (قميص و سروال و حذاء رياضي) فإني لم أتمكن من التخلص من هاجس تعرضنا لخيانة جديدة و أخيرة, و أنه ستتم تصفيتنا في الخلاء, دون أي شكل من أشكال المحاكمة. كان الهاجس أقوى مني و رغم محاولتي التحكم في أفكاري إلا أن هذه الفكرة استبدت بي بشكل كبير.و باتت كل دورة من دورات عجلات الشاحنة التي تقلنا و كأنها تسحب اللحظات الأخيرة من حياتنا.
فكيف لنا, بعد أن قاسينا هذه المحنة المديدة, أن نستعيد الثقة في الناس؟ في هؤلاء الناس أنفسهم الذين لم يكفوا في يوم من الأيام عن الكذب علينا, و غشنا و إهانتنا و تعنيفنا مجانا, لكي يبينوا لنا بذلك إلى أي حد يحتقروننا. فرفاقنا الراحلون سقطوا, واحدا بعد الآخر, بطريقة لا أبشع منها و في لامبالاة مطلقة. ألم يحن دورنا, نحن آخر من استطاع النجاة من الموت بعد ثمانية عشر عاما من الاعتقال, لكي تتم تصفيتنا بشكل نهائي؟ لأننا رغم أننا لم نعد سوى خرقا بشرية, إلا أننا ما زلنا شهودا محرجين على كثير من الفظاعات التي مورست ضدنا؟ هل سيقدمون على قطع هذا الحبل الهش الذي ما زال يربطنا بالحياة, هذه الحياة , حياتنا, التي لا تساوي شيئا بالنسبة لهم؟
و طيلة مسار الشاحنة , بقيت نهبا لهذه التهيؤات المظلمة و لم أتوقف ذهنيا عن ترديد آيات من القرآن لكي أستجمع الشجاعة الكافية لمواجهة اللحظات الأخيرة من حياتي.
و لم أتيقن من أني أخيرا وصلت إلى نهاية النفق الجهنمي, إلا فجرا, حينما أنزلونا من الشاحنة و تحسست بقدمي طراوة الأرض المبلطة للدروج ثم للردهة , و سمعت أصواتا و نبرات رقيقة لم أتعودها, و تنفست هواء محملا بروائح افتقدتها منذ زمن طويل . حينها انتابتني راحة لا حدود لها إلى درجة جعلتني أرتعش من الرأس إلى القدمين.
و تذكرت حينذاك المعلومات المتتالية و التي تتعلق بنا و التي تمكنا من التقاطها, منذ حوالي سنة, من إذاعات مختلفة, من ضمنها «إذاعة فرنسا الدولية» «بي بي سي» التي شهدت جميعها تعبئة بالخارج لا سابق لها , من أجل الضغط على المغرب للإفراج عنا.هذه المعركة التي بدأتها عائلاتنا, و التي تولتها شخصيات أجنبية معروفة و جمعيات و منظمات دولية, خاصة منظمة العفو الدولية (أمنستي) و «هيومان رايت ميدل ووتش» الأمريكية التي جمعت , بمبادرة من السيدة «فان جينيكن» أكثر من مليون و نصف مليون رسالة احتجاج عبر العالم... كل هذه العمليات التي تمت لصالحنا انتهت بإعطاء ثمرتها...
و في الوقت نفسه, اكتشفت بأن معركتنا الخاصة و الضارية ضد الموت أصبح لها الآن معنى... فمن الوضعية الحيوانية التي أغرقونا فيها , و رغم هزالنا و ضعفنا الجسدي الذي أصبحنا عليه في الحاضر, فإننا أخيرا سنعود إلى وضعية البشر. و سنصبح ربما من جديد أناسا كاملين, أناسا واقفين.
«جلالة الملك سيعفو عنكم...»
كم من المظالم, من الإهانات و التعذيب المعنوي قاسينا .يوما بعد يوم, قبل أن نسمع هذه الكلمات.
كم من المحن و الآلام و الفظاعات التي كان علينا اجتيازها و مكابدتها في أجسادنا و أرواحنا قبل أن ينزاح عنا أخيرا شبح الموت البطئ.
أربع كلمات صغيرة فقط لإزاحة الحجاب الذي يفصل بين الموت و الحياة.
و كل رفاقنا, ضحايا قدر معاكس, الذين لم يكتب لهم أن يسمعوا هذه الكلمات ,و الذين ماتوا الواحد تلو الآخر, في نهاية آلام مبرحة, في يأس مطلق أو في الجنون المطبق كملاذ أخير.يا لهذا الظلم الفظيع. ليس فقط لأن عددا منهم حكم عليهم خطأ و لكن لأن معظمهم إن لم يكن جميعهم قد أنهوا عقوبتهم منذ زمن بعيد
أنا نفسي, أمضيت تسع سنوات أكثر من العقوبة التي حكم علي بها في الأصل...
«جلالة الملك سيعفو عنكم قريبا...»
بالرغم من كلمة «قريبا» التي تؤجل خلاصنا الحقيقي الذي من شأنه أن يمنح الحياة لحياتنا, فإننا على الأقل نعرف الآن بأننا غادرنا معتقل تازمامارت المقيت و الرهيب إلى الأبد و أننا عبرنا أخيرا إلى السفح الآخر من الجبل الذي يقودنا نحو النور و الهواء النقي و أصبح المستقبل أفقا مفتوحا أمامنا.
إعادة اكتشاف العالم الذي لا زال حيا في ذكرياتنا ? و الذي ظللنا متشبتين به من أعماق قبورنا بكل الطاقة التي يمنحها اليأس- متمددا في ذاكرتنا, مقسما مثل صور جامدة ,هذا الاكتشاف الجديد كان ,بالنسبة لي, تواترا لا متوقفا من اللحظات الإعجازية.
أولى هذه اللحظات بدأت في هذه الغرفة العادية من غرف المستشفى حين نزعوا عني النظارات و القناع و العصابة. إذ أصبح لأصغر الأشياء و أقلها شأنا أهمية لا تضاهى: استشعار ضوء النهار,الجلوس على سرير فوقه فراش, تأمل الماء الصافي و هو ينزل من حنفية المغسل, تذوق فنجان قهوة بالحليب و السكر ببخاره المتصاعد , تناول الخبز بالزبدة و البيض و الجبن... كل هذه الأشياء الصغيرة التي حرمت منها منذ زمن طويل و التي أكتشف وجودها فجأة, تشعرني بغثيان هائل. من خلال هذه الأشياء التافهة و هاته الأحاسيس التي لا معنى لها ? و البالغة الحيوية بالنسبة لي- شعرت و كأن العالم بأكمله قد منح لي فجأة. و من خلالها أيضا, أصبحت شيئا فشيئا كائنا بشريا, إنسانا بالمعنى الكامل للكلمة, حي بين الأحياء. و بكيت لهذا الإحساس فرحا و إثارة.
كانت الأيام الأولى عيدا لكل حواسي تجلبني من الخدر الذي غصت فيه. كنت أتمنى مشاطرة فرحة هذه الاكتشافات مع رفاقي, بيد أننا كنا لا نزال معزولين عن بعضنا البعض, دون وسيلة تواصل بيننا.
لم نعد الآن نتكلم عن زنزانة و لكن عن غرفة... و غرفتي كانت مضاءة, نظيفة, مطلية حديثا باللون الأبيض, مؤثثة بسرير و طاولة و كرسي و مجهزة بمغسل. لكنها لم تكن تضم مرآة بالجدار لذا لم يحن الوقت بعد «لمواجهة صورتي» و رؤية ما أصبحت عليه تقاسيم وجهي بعد هذه السنوات من السجن و الحرمان...
و الواقع , وكي نتكلم بموضوعية, فإن هذه الغرفة كانت شبيهة بأي زنزانة في أي سجن آخر , لكن مقارنة مع المكان الذي جئت منه, فإني كنت أحس و كأني داخل غرفة فندق واسعة أو على الأقل داخل غرفة فندق ذي نجوم...
كانت نافذة الغرفة ثابتة ذات قضبان حديدية خلف الزجاج. و كانت عالية بشكل يضطرني - كي أطل منها على الخارج- إلى الصعود فوق الكرسي و الوقوف على أطراف أصابعي. و هكذا تمكنت من رؤية الساحة, في الأسفل , و بعيدا قمم جبال الأطلس. كنت أتأمل هذه القمم , كل صباح في الفجر فور استيقاظي. و كان منظر الطبيعة المغمورة بنور الشمس يملأني فرحا و أملا. لم أعد أشك في أني سأتمتع, قريبا و بحرية, بهذا البهاء.
و كنت أتفرج, في بعض الأحيان من خلال نافذتي, على وصول شاحنات التموين. كان منظر هذا النشاط البشري العادي و البسيط , يملأ نفسي بالطمأنينة و الأمان. كان يبدو لي ,بمشاهدتي له فقط, و كأني أشارك فيه فعليا.
و كنت أرى أيضا, مركونة بالساحة قرب البناية, نماذج سيارات لا أعرفها. حقا, لقد كدت أنسى بأن الزمان دار دورته و أن العالم قد تطور, لقد تطور في غفلة منا حين كنا نحن مسجونين و مشلولين داخل زمن متوقف و متواصل الجمود.
كانت هذه أولى اتصالاتي البصرية بالعالم الخارجي و مع ... الحياة الجارية.
شهر في أهرمومو
غداة وصولنا, وضعوا عصابة على عيني و قادوني لأخذ حمام رشاش. بعد أن نزع العصابة عن عيني, قال لي ضابط الصف المرتدي وزرة بيضاء, الذي ساعدني على نزع ملابسي , جملة كان لها أبلغ الأثر في طمأنتي و تهدئتي النفسية:
-لا تقلق ,إنك الآن في أيد طيبة...
و جاؤوا بعد ذلك لإتمام نظافتي: قصوا شعري و حلقوا ذقني بل و قلموا أظافري...
و لكي نستعيد وزننا, كانوا يقدمون لنا وجبات منتظمة , متوازنة و وافرة , و كانوا يزودوننا بمكملات من الفيتامينات و مواد أخرى عن طريق الفم على شكل حبات أو بالحقن. و كان أطباء يسهرون دون كلل على هذه «النقاهة» المستعجلة.
و بفضل هذا النظام لم أحتج شخصيا إلا أسبوعا واحدا كي أسترجع حوالي عشرة كيلوغرامات و أستعيد حالة صحية بدنية تجعلني «مقبولا» في أعين الآخرين...
في ختام سنوات من الإقصاء و الإذلال , من المحو الجذري و النهائي لوجودنا, ها نحن نتأرجح دون مقدمات في السياق المعاكس, حيث وجدنا أنفسنا فجأة مركز كل الاهتمامات و قلب كل الاعتناء و موضوع كل دلال...
كانت التعليمات الصادرة تنعكس بوضوح من خلال سلوكات الأشخاص الذين يتعاملون معنا: القيام بأي شيء من أجل إعادتنا إلى العالم. كان الهدف هو أن نغادر بأسرع وقت مظهرنا الشبحي, مظهر الكائنات المشوهة الضئيلة الناحفة و المتألمة. كانوا يسعون إلى محو كل أثر ظاهري للتعذيب الجسدي الذي قاسيناه, كانوا يريدون لنا أيضا أن ننسى التجارب الرهيبة النفسية و المعنوية التي اجتزناها, كما لو أنه بالإمكان , بضربة واحدة و وحيدة , مسح كل شيء من ذاكراتنا...
و مع ذلك فإن الانضباط السائد في المكان , لم يكن يتيح لنا أي هامش للحرية, فرغم أن أبواب الغرف كانت تترك مفتوحة طيلة النهار فإنه لم يكن بمقدورنا الخروج منها أو التحدث من غرفة لأخرى. فقد كان هناك حارسان يتحركان جيئة و ذهابا في الدهليز حريصين على فرض احترام قانون الصمت هذا. لم يكن مسموحا لنا إلا بتلاوة القرآن, وكنا نقوم بذلك بالتناوب, مواصلين تلك الطقوس التي كرسنا قواعدها في تازمامارت. و بهذا كنا نتابع و نسجل , تبعا لنبرات الأصوات المختلفة, حضور بعضنا البعض...
كما أن كل التحركات التي كانوا يجعلوننا نقوم بها خارج غرفنا , كانت تتم و العصابات على أعيننا.
خلال هذه الإقامة التي دامت أكثر من شهر ? و بنصيحة من طبيب العيون- , قادوني أربع مرات إلى الساحة كي تعتاد عيناي تدريجيا على نور الشمس. و في كل مرة من هذه المرات, كانوا يجلسونني أرضا و وجهي إلى الجدار, قبل أن ينزعوا العصابة عن عيني. و كنت أبقى هناك في الهواء الطلق رافعا بصري إلى السماء, بيد أنه في كل مرة, كان نور النهار الساطع يبهرني و يؤذي عيني الكليلتين اللتين تطرفان لاإراديا بشكل متوال. و الغريب, أني, مثل المحكوم عليهم في أسطورة الكهف, كنت بعد فترة وجيزة من تلقي الضوء الباهر, آمل في العودة إلى العتمة التي قضيت فيها ثمانية عشر عاما...
في ساحة هذا المستشفى المرتجل (لأننا سنعلم فيما بعد أننا كنا نتواجد في أحد أجنحة المدرسة العسكرية لأهرمومو غير بعيد عن فاس, و الذي تمت تهيئته بشكل خاص لاستقبالنا) ركنت «قافلة طبية» مشكلة من شاحنتين استخدمت إحداهما كعيادة لطبيب العيون و الثانية لطبيب الأسنان.
و قد لقي هذا الأخير صعوبة معي (و لا شك مع باقي رفاقي) إذ أن أسناني كانت,حسب تعبيره, غير قابلة للترميم. و كان عليه أن ينزع ما تبقى لي من أسنان واحدة بعد الأخرى و يهيء لي طقم أسنان كامل, بقي ?بسبب انعدام الوقت الكافي ? ناقصا...
أما الطبيب العام و الطبيب النفسي فكانا يزوراننا مباشرة في غرفنا. كان الأول يمر في كل الأماسي كي يناولني الحصص اليومية من الفيتامينات و يحثني على أن آكل جيدا و ألا أترك شيئا في طبقي. أما الثاني فكان يقوم بزيارتي كل يومين أو ثلاثة, كان شابا ودودا و باسما, و كنت أشعر بالراحة في حضوره. كان يجلس على حافة السرير و يقضي معي حوالي ربع ساعة. كان يكتفي بطرح بعض الأسئلة حول حياتنا في تازمامارت و يسألني عن شعوري الراهن و عما إذا كنت أنام جيدا أم لا... أشياء تافهة جدا كان بمقدورها أن تضعني داخل بساطة حاضر هادئ.
و في يوم من الأيام, طرح علي بإلحاح السؤال التالي:
- الوافي , ينبغي أن تخبرني بسرك. كيف حصل أنك أنت, مقارنة مع رفاقك, لا زلت في صحة جيدة؟
لم أدر لماذا, و لكن شعورا غريبا انتابني جعلني أعتقد بأن هذا «الفضول» المفاجئ و الاهتمام بشخصي لم يكن صادرا منه هو نفسه, و أجبته:
-هل سؤالك شخصي أم أن أحدا طلب منك طرحه؟
اعترف بالفعل بأن مسؤولا كبيرا أوحى له بذلك.
علمت آنذاك بأننا خلال فترة النقاهة هاته, كنا أيضا مثل فئران تجارب لدى خروجهم من التجربة... ففي الوقت الذي كانوا يعيدوننا إلى الوضع البشري العادي , كان هذا الطاقم من الأطباء العسكريين يحلل الآثار و الندوب البدنية التي تركها فينا الاحتجاز. و لم يكن هناك أي شك في أنهم يحررون تقارير و ملاحظات حولنا لفائدة جهة من الجهات...
- ليس هناك أي سر, قلت له. إذا ما استطعت أن أصمد أفضل من آخرين داخل المعتقل, فذلك دون شك , بفضل الانضباط الذي فرضته بسرعة على نفسي: أولا ,كنت أمشي كثيرا, فلم أتوقف أبدا عن السير داخل زنزانتي , ثانيا, التلاوة المنتظمة للقرآن و أخيرا ممارسة الاسترخاء النشيط.
-عفوا؟ هل لك أن تشرح لي معنى الاسترخاء النشيط؟ علام يعتمد؟
-طيب, داخل زنازيننا بتازمامارت,اتفقنا على أن نفرض على أنفسنا , يوميا في فترة القيلولة, فترة صمت طويلة إلى حد ما. و خلال هذه الفترة من النهار, كنت أستعرض أمامي ذكريات إيجابية من حياتي. و كنت أستعرض فقط ذكريات «تخصني» أنا فقط, لأني اكتشفت سريعا بأن الذكريات التي تتعلق, مثلا, بأفراد من عائلتي, عوض أن تخفف عني , كانت على العكس تغرقني في يم من الحزن و الحنين. لذلك فرضت على نفسي نوعا من البرنامج لا تدخله سوى ذكريات الفترات السعيدة التي عشتها. خاصة تلك المتعلقة بإقاماتي بالخارج. و هكذا أصبحت كثير السفر: ففي يوم أعيش مع ذكرياتي بفرنسا, و في يوم آخر أزور انكلترا أو الولايات المتحدة ... لدرجة أن جيراني في الزنزانة , الذين أطلعتهم على طريقتي في الاسترخاء, يسألونني في بعض الأحيان مباشرة بعد القيلولة: «أخبرنا يا الوافي من أين جئت اليوم؟» فأجيبهم : «لقد غادرت للتو سوهو ستريت...» أو «لقد تجولت قرب معرض بروفانس, لقد كان رائعا...» و كانوا يجيبونني : «يا لك من محظوظ...» و بالفعل, لقد كنت محظوظا بامتلاكي القدرة على جلب كل هذه الثروة من الذكريات و استعراضها أمامي بدقة متناهية. و كل يوم كانت هذه اللحظات من أحلام اليقظة تهدئ من روعي و تمنحني القوة على الصمود, و هذا ما سمح لي بتجاوز المحن التي لم يستطع آخرون من رفاقي للأسف من تجاوزها. هل أجبت على سؤالك؟
ابتسم الطبيب و اكتفى بهز رأسه دلالة الإيجاب.
و في يوم آخر, خلال زيارته لي, أخبرني بأنه سيعود في اليوم الموالي صحبة العقيد فضول مضيفا بأنه علي أن أجيب على أسئلة العقيد حول حالتي الصحية بأني أتمتع بصحة جيدة و أني لا أعاني من أي اضطراب أو مرض.
-هكذا ستكون ضمن الأوائل الذين سيتم الإفراج عنهم.
بذلك ختم كلامه, وحين توديعي ضغط على يدي بقوة و وضع يده على كتفي مشجعا.
إذا كان هناك من شخص يستحق احتقارنا بل و حقدنا,إضافة إلى مدير معتقل تازمامارت الذي هو أحد قدماء حرب الهند الصينية, فإنه العقيد فضول... فبسببه هو, بالدرجة الأولى عشنا الجحيم و عانينا من كل الويلات. هذا الرجل هو نفسه الذي أشرف على حبسنا في تازمامارت, و هو الذي خطط للظروف القاسية التي سنعيشها و هو الذي منح مدير المعتقل كل الصلاحيات من أجل تعذيبنا, عالما علم اليقين في أي أيد شرسة تركنا. لقد كان متابعا و عارفا ما نعانيه مباركا كل ذلك بتزكيته, آملا أن يرانا نختفي واحدا تلو الآخر. فقد كان إعلان وفاة كل واحد من رفاقنا يعتبر انتصارا بالنسبة إليه. و كم من المرات جاء هو نفسه بطائرة عمودية إلى تازمامارت, كي يطلع بعينيه على الدرك الأسفل الذي بلغناه و يتأكد من التردي التدريجي و النهائي الذي ننحدر إليه. و هو أيضا الذي برمج ,بمعية المدير, نقل رفاقنا من العمارة ب إلى عمارتنا أ , و هو يعرف إصابتهم بمرض السل آملا من وراء ذلك أن يعمل هؤلاء المصابين البؤساء دون إرادة منهم على نشر الوباء في عمارتنا.
و أستطيع أن أتخيل كم كان إحباطه كبيرا و هو يرانا, نحن, نواصل الحياة متجاوزين محنة و نظام تازمامارت. و لا أشك أيضا في غيظ المهزوم الذي انتابه و هو يكلف بتنظيم إطلاق سراحنا. و أستطيع أخيرا تصور قلقه و اضطرابه و هو يرانا اليوم, بعد العديد من السنوات, نقف على أقدامنا وفي نيتنا عزم كامل على تقديم شهادتنا, و في نية البعض منا عزم على الانتقام.
و في اليوم الموالي, بالفعل, حضر العقيد فضول إلى غرفتي , باسما بادي الارتياح. كان مرفوقا بطبيبين بوزرتيهما البيضاوتين و بالطبيب النفسي.
حياني بنبرة مبحوحة:
- كيف حالك يا الوافي؟ هل تعرف بأنك في حالة جيدة. اعترف بأننا اهتممنا بك جيدا. و ها أنت في صحة ممتازة. هل ما زلت تشكو من آلام أو أعراض؟
- لا سيدي العقيد.
- هل تنام جيدا؟لا كوابيس؟
- كل شيء جيد, سيدي العقيد.
- تمام. إذن اطمئن فلن تتأخر كثيرا عن رؤية عائلتك...أنا سعيد بإخبارك بأن إسمك يوجد ضمن لائحة أوائل المغادرين.
- شكرا سيدي العقيد.
- إعلم أنه فور عودتك للحياة المدنية فلن يكون عليك أن تقلق. فقد رتبنا كل شيء. سنساعدك على إيجاد شغل و إدماجك في المجتمع...سيكون من السهل عليك أن تنسى...
كانت نبرته الودودة و لباقته الظاهرية تتناقضان تماما مع قسوة و برودة نظراته علي الشبيهة بنظرات الأفاعي.
و رغم أنه كان يسعى إلى إبداء عكس ما يخفي, فإني كنت أعرف كيف أتصرف معه مخفيا بدوري تلك الفرحة الكبرى لرؤيته مجبرا على تجرع العلاج المر لفشل سياسته الاستئصالية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.