يقتصر هذا الكتاب على دراسة المظاهر الغرائبية المتصلة بالمغرب والواردة في مؤلفات الرحالين الفرنسيين الذين زاروا المغرب أو أقاموا فيه لبعض الوقت. وينتمي هؤلاء الرحالة إلى فئات جد متنوعة تتّسع لتشمل السفراء والقناصل ورجال الدين والعبيد والضباط والجنود والمستكشفين والجغرافيين والتجار والموظفين والأدباء والصحفيين والسياح.. كما أن مؤلفاتهم هي كذلك جد متباينة وتتنوع بين الأخبار التوثيقية والمقالات التصويرية والذكريات والمراسلات وكراسات الأسفار والتحقيقات واليوميات إلخ...وتنتسب جميع هذه الكتابات، الجد مختلفة شكلا ومضمونا، والتي تتوزعها الانطباعات السريعة لمسافر عابر، والروايات الموضوعية الناجمة عن إقامة طويلة في البلد، إلى عنوان عام هو «أدب الرحلة». ويشار إلى أن معظم الفصول التي يشتمل عليها هذا الكتاب قد تمّ تحريرها انطلاقا ممّا دوّنه المؤلف عندما كان يعدّ دروسا ميدانية عن الأدب الغرائبي والكولونيالي كان يلقيها أواخر عشرينات القرن الماضي على طلاب معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (كلية الآداب حاليا) . وقد أضاف إليها بعض العناصر الضرورية لاستكمال التدرج التاريخي للوقائع، والربط بين أجزائها المتفرقة، وتقديمها في شكل لوحة متناسقة. بعد التطواف في المحيط الأطلسي، سينتقل القراصنة إلى البحر الأبيض المتوسط. ومن غير الضروري مواصلة سرد كل وقائع هذه الحرب البحرية، (51) والإلمام بكل المغامرات التي خاضها بطلنا. ما نرغب فيه هو البلوغ إلى المغامرات الأخرى المضمنة في هذا الكتاب. ويكفينا أن نعلم بأنه ذات يوم سيستولى القراصنة على مركب إسباني وحيد الصاري، وفي مرة أخرى سيتعقبون سفينة شراعية نجحت في الإفلات من قبضتهم، وأخيرا يهاجمون سفينة تجارية أجبرتهم على الفرار بعد معركة قاسية خرجوا منها بخسائر فادحة. ثم تأتي حادثة الغرق التي تسبب فيها هيجان البحر هيجانا لم تنفع معه التضحية بخروف ذبحه القراصنة أملا في تهدئة الأمواج العارمة، وقد قامت العاصفة بدفع سفنهم نحو الساحل بقوة شديدة بحيث انتهت بتدميرها كليا ورمت بطاقمها إلى اليابسة. ولمّا كان المكان الذي خرجوا فيه يقع على شواطئ مدينة مالقة الإسبانية فقد وجدوا أنفسهم في قبضة المسيحيين الذين بادروا باقتيادهم إلى المدينة ووضعوهم في الأغلال. غير أن لامارتينيير قد تم الإفراج عنه باعتباره أسيرا مسيحيا، وبعد أن استقبل بحرارة جرى تخليصه من قيوده وأُلبس ثيابا جديدة، وقدّم له الخمر واحتفل به في الكاتدرائية، وأخيرا أُدي عنه ثمن رحلته على متن سفينة صقلية ستغادر من ميناء مالقة. وقد صار كل شيء بعد ذلك على ما يرام. ولكن لو كانت الأحداث قد توقفت عند هذا الحد فلن نحصل سوى على رواية مغامرات قصيرة. بيد أن الذي حصل هو أن الأحداث ستقفز إلى الأمام وتتوالى الوقائع تباعا. غير أن الحظ الذي سبق أن ابتسم للامارتينيير سرعان ما سيكشّر له عن أنيابه. فقد تعرضت السفينة الصقلية التي كان على متنها إلى هجوم من طرف فرقاطتين ترفعان العلم الإسباني، واللتين لم تكونا في حقيقة الأمر سوى سفينتين لقراصنة تطوان ستقومان بأسر السفينة. وفي تطوان، إلى حيث نُقل مواطننا (52) للعمل أولا في مطابخ والي المدينة، وهو مصير يحسد عليه مقارنة مع ما ناب باقي الأسرى الذين وضعوا في الأغلال واحتجزوا في أقبية تحت الأرض. وبعد مرور فترة من الزمن ستشاء الأقدار أن تحل بتطوان بعثة موفدة من طرف ملك كوك، وسيقوم الوالي بتقديم بعض الأسرى للسفير على سبيل استكمال الهدايا المرصودة لبعثته، وبالصدفة سيكون لامارتينيير من بينهم. وهو يذكر بأنه نُقل إلى مملكة كوك، بعد اجتياز ممالك فاس، تلمسان، والجزائر ثم تونس. ونحن نجهل أين تقع مملكة كوك هاته، ونشك في أنه هو نفسه يعرف موقعها، ونخمن بقوة أنه إنما يقوم هنا بتطوير جزء تخييلي من روايته. وسنرى كذلك بأن القصة ستصير أكثر فأكثر اكتنازا بالخيال. وفي الطريق إلى كوك، سيتعرض أحد أعضاء السفارة إلى لسعة ثعبان سامّ هائل سيلتفّ على جسده، وبدون تردد سيعمل لامارتينيير على تخليصه من قبضة الثعبان ويبلى البلاء الحسن في علاجه لدرجة أن السفير سيقوم بالتنويه به لدى الملك الذي سيعيّن بطلنا جراحا خاصا لدى ابنه الأمير. وفي ظل هذا الوضع الجديد، سينعم صاحبنا بما يكفي من الحرية حتى أنه صار يتسلى في أوقات فراغه بصيد الفهود. وهنا نجد أنفسنا ضمن مجال خيالي لا غبار عليه، ومن ذلك أن ما يحكيه لامارتينيير عن طرائق صيد الوحوش مفرط في الغرابة: فلكي يجتذبوا الحيوان كانوا يعلقون على الأشجار أواني مملوءة بمادة بُرازية تتولى رائحتها القذرة اجتذاب الفهود التي ما إن تقترب وتنتصب للإمساك بها حتى يقوم القناصون بغرز حرباتهم في بطونها.. غير أن الحرب تُعلن على مملكة كوك من طرف باشا الجزائر. وبصفته جراحا، سيقوم أسيرنا بمرافقة الجيوش الكوكية إلى ساحة المعركة. سيكون الجزائريون تحت إمرة قائد فرنسي مرتد، (53) يمتاز بحنكته في فنون الحرب، الشيء الذي سيمكّنه من إيقاع كثير من الأسرى في صفوف الكوكيين، الذين سيكون من بينهم، كما هو متوقع، صاحبنا لامارتينيير. ثم ها هو وقد نقل إلى الجزائر حيث سيُطاف به في الشوارع، محاطا بالجنود المشاة الذين يحملون جثث الأعداء على رؤوس عصيّهم علامة على الانتصار الساحق. وفي أعقاب ذلك سيحال على الخدمة كمساعد لطبيب الباشا، ولما كان هذا الأخير يشتغل كذلك بالخيمياء فإن صاحبنا سيشاركه في البحث عن حجر الفلسفة مشتغلا وسط أفران التقطير وأنابيب الكيمياء. يقوم هذا الطبيب كذلك بصناعة المومياءات التي يبيعها إلى التجار المسيحيين الذين يقومون بسحقها لإعادة بيعها بأعلى الأثمنة للعطارين في بلادهم. بيد أن لامارتينيير لن يتأخر في الشعور بعدم الارتياح وهو يباشر هذا الجزء من رحلته (وهو الجزء المتخيل منها ترجيحا)، ولذلك نراه ينتهز الفرصة للحديث عن تلك الأشياء التي يعرفها جيدا، أي القرصنة والحرب البحرية. وهو يزعم أنه أبحر على متن باخرة جزائرية تجوب بحار بلاد المشرق للقيام بأعمال القرصنة. ومن الواضح أنه هنا إنما يقوم باستحضار ذكريات أسره لدى قراصنة سلا التي ينقلها إلى إطار آخر يناسب الاتجاه الذي تأخذه قصته. ومهما يكن، فهو يحكي مغامراته مع قراصنة الجزائر، والتي هي مزيج متوالي من الانتصارات والهزائم، ويواصل روايته للمعارك البحرية التي كانوا يخوضونها ضد المسيحيين كما فعل ذلك في بداية كتابه، وذات يوم، سيشارك بوصفه أسيرا جرّاحا في حملة كبرى مشكّلة من السفن الحربية والمراكب الشراعية. وفي البداية سيحالفهم النجاح ويحصلون على الكثير من الغنائم. ولكن سرعان ما تعترض طريقهم ثلاث بواخر هائلة لفرسان مالطة، وهنا ستحل بهم الكارثة، ويخسرون المعركة، ويجري إغراق إحدى السفن الجزائرية، بينما يلقى القبض على ثلاث أخريات، ويقع جميع القراصنة في الأسر (54) وأخيرا يكون من نصيب الجرّاح الفرنسي أن يستعيد حريته كاملة هذه المرة. وسيرحل إلى إيطاليا، ثم ألمانيا، ويصل إلى فرنسا بعد كل هذه التجارب والمغامرات المختلفة. وفي باريس سيلتقى أمه وباقي أفراد أسرته الذين كانوا يعتقدون، كما يقول، بأن الذئاب قد التهمته. وعلى إيقاع هذه الكلمات التي لم نكن ننتظرها يبلغ كتاب لامارتينيير نهايته.