منذ 1976 والاتحاديون يسيرون مدينة أكادير. أي منذ 35 سنة وسكان المدينة يجددون ثقتهم للمرشحين الذين يقدمهم حزب الوردة المغربي. بمعنى آخر، منذ ست ولايات متتالية وعاصمة سوس تصوت يسارا. وهذا في الحقيقة يكاد يكون تحصيل حاصل عند أهل تلك البلاد المغربية الغنية جدا بثرواتها الطبيعية وبموقعها الجغرافي وبثرواتها البشرية. فالثقافة السلوكية هناك، لها خصوصيتها التي تراكمت منذ مئات السنين. تاريخيا تكفي قراءة سريعة لأحداث المنطقة للتأكد من ذلك. بل إن الإطلالة على دخائر كتب، مثل نفائس الراحل المختار السوسي، خاصة «المعسول» و «سوس العالمة» وبحثه القيم عن زاوية إيليغ، ثم تقاييد الفقيه العثماني، وقبلهما كتابات مؤرخي السلاطين المغاربة منذ «البيدق» وصولا إلى الفقيه الناصري السلاوي في تحفته «كتاب الاستقصا» والبحث الإجتماعي للفرنسي روبير مونتين «البربر والمخزن»، تقدم الدليل العلمي التاريخي على أن طبيعة السلوك الاجتماعي لأهل سوس غير السلوك الاجتماعي في سماوات مغربية أخرى. وهو سلوك يتأسس على تربية عالية للتعاون والتآزر والانضباط، عززته الطبيعة الجغرافية، ورسخه الدور التاريخي لأهل البلاد كونهم كانوا وظلوا منذ قرون أهل تجارة. وتاريخ ميناء أكادير يقدم لنا الدليل الحاسم على ذلك، كونه كان من الموانئ المغربية القديمة التي ظلت تفرض شكل معاملاتها الخاصة باستقلالية تامة، لأنه ظل صلة الوصل التجارية بين بلاد شنقيط ونهر السنغال وصولا إلى غانا، وباقي الشمال المغربي، وصولا إلى مضيق جبل طارق. ومن المعلومات التاريخية الهامة التي يوردها الناصري في كتابه «الاستقصا» في مجلده السابع (ص29)، أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله قد بنى ميناء الصويرة الجديد لتأديب أهل سوس، حيث قال بالحرف: «وذكر (...) أن الباعث للسلطان المذكور على بناء الصويرة هو أن حصن أكادير كان تتداوله الثوار من أهل سوس، مثل الطالب صالح وغيره، ويسرحون وسق السلع منه افتياتا. ويستبدون بأرباحها. فرأى أن حسم تلك المادة لا يتأتى إلا بإحداث مرسى آخر أقرب إلى تلك الناحية». بل إن ذلك الدور الخاص لهذا الميناء إنما ظل يتوازى، في الواقع، ودور الوسيط التجاري الذي ظلت تلعبه قبائل سوس المترامية، من حاحة شمالا حتى آيت باعمران جنوبا، ومن شواطئ الأطلسي الممتدة بينهما وهي تقدر بأكثر من 250 كيلومترا، حتى قبائل آيت عطا المحيطة بجبال بوغافر قرب زاكورة، صعودا حتى دمنات في نقطة تلاقي سلسلتي الأطلس الكبير والمتوسط (دون إغفال أن سلسلة الأطلس الصغير كلها تقع في قلب إقليم سوس الموسع، أي ذاك الذي ظل الناس يتحدثون فيه بلهجة تاشلحيت الأمازيغية). بالتالي، فإن من بين أهم الممرات التجارية التي عرفها المغرب تاريخيا، مع عمقه الإفريقي من أجل جلب الذهب، هي تلك العابرة لبلاد سوس كلها، من ممرات ميناء أكادير إلى ممر حاحة على الساحل، إلى ممر أمسكروض بين تارودانت ومراكش، إلى ممر بلاد أيت ووازكيث بين درعة ومراكش. بل كما يؤكد ذلك المؤرخ المغربي، الأستاذ المبرز بكلية الآداب بالرباط، إبراهيم بوطالب أن كبرى الملكيات القديمة التي حكمت المغرب، ما كان يستتب لها الأمن والاستقرار، وتتحقق بالتالي الدعة الاقتصادية، سوى بالتحكم في ممر أيت واوزكيث الإستراتيجي (عمليا اليوم هو ممر تيشكا). والممر الوحيد الهام الذي كان يقع خارج هذه الممرات الاستراتيجية التجارية والأمنية، هو ممر سجلماسة الحاسم بين بلاد السودان ومدينة فاس، عبر بلاد تافيلالت. بالتالي، فإن التربية السلوكية لأهل سوس تاريخيا (وقد تبدلت، طبيعيا، اليوم لأن مفهوم الانتماء للجماعة قد توسع وأصبح السقف هو الانتماء للوطن والدولة وليس الإقليم. مثلما أن الرهانات الاقتصادية والأدوار التدبيرية قد تغيرت في عالم اليوم)، قد نحتت من خلال ما ظلت تسمح به الجغرافية والأدوار الاقتصادية وطبيعة الجغرافية الصعبة والمميزة، التي هي في أكثر من 70 بالمئة منها جبلية وعرة جدا، شكلا للتعايش بين أفراد الجماعة البشرية التي تعرف ب «أهل سوس». وهذا انعكس ليس فقط في شكل البناء ونوعية الفلاحة واللباس وكل أشكال الحياة الجماعية من زواج وإرث وتبادل تجاري، وكذا في الخزان الهائل للأدب الشعبي هناك (أشعارا وأغاني وأمثالا وقصصا)، بل في شكل بنية التدبير العامة الخاصة بساكنة تلك المناطق المترامية الأطراف، التي هي بنية تعاونية جد منضبطة ومنظمة، ولها آليات تدبير يمكن أن توسم بمصطلح اليوم أنها «ديمقراطية جدا». بل إن روبير مونتين، في بحثه الدقيق علميا، والخطير تأويليا كونه تحركه غايات استعمارية، قد خلص إلى أن لأهل تلك البلاد نظما تدبيرية جمهورية من خلال شكل التدبير الجماعي للقبائل والأحلاف، بمجالس الأربعين فيها وتقنية الخمس، التي كانت تجعل أمر قيادة القبائل يتم بالتداول بين أفراد مختارين بعناية لدورتين فقط غير قابلة للتجديد، سوى بعد اكتمال دورة المسؤولية القيادية بالتساوي بين المختارين الخمسة من قبل مجالس الأربعين. مثلما أن تقنية توزيع المياه للري كانت جد متقدمة ومضبوطة، مما يعكس قوة ذلك البنيان التدبيري التعاوني لساكنة المنطقة. وهذا هو ما يترجم طبيعة السلوك التربوي الإجتماعي لأهل سوس عموما عبر التاريخ. وليس اعتباطا أن العمل الجمعوي التنموي المحلي في المغرب، هو الأهم والأقوى في سوس منذ ستينات القرن الماضي، ما جعل الخدمات العمومية الأساسية هناك في كل باديتها (من كهربة قروية وماء شروب وتعبيد طرق وبناء مدارس) قد تم بفضل ذلك العمل الجمعوي وليس بفضل برامج المركز بالرباط، الذي اتبع، عمليا، المبادرة ودعمها في الكثير من الحالات ولم يكن دائما المبادر إليها. فالناس هناك في أغلبيتهم الإيجابية، لم يظلوا مكتوفي الأيدي ينتظرون أن تتذكرهم العاصمة الرباط تنمويا، بل تصالحوا مع تاريخهم في العمل التعاوني (التطوعي) وأنجزوا ما أنجزوه من أسباب أولية حاسمة للحياة الكريمة في حدودها الدنيا الواجبة. والتراكم اليوم، بعد أكثر من أربعين سنة، أعطى نتائج باهرة تغري بالدراسة والتأمل والاستفادة. هذه الوقائع التاريخية والمعطيات الدامغة، هي التي تجعل السوسيين عموما ظلوا منذ سنوات الاستقلال الأولى منحازين لليسار، بل ومنحازين بشكل أدق لعائلة الحركة الوطنية. بل وكان لهم دور حاسم في دعم تلك الحركة الوطنية، عملياتيا، سواء بالدعم السياسي أو الدعم المسلح أو الدعم المالي (الشبكة الحاسمة والهامة لقطاع التجار الصغار والمتوسطين)، تأسيسا على ما كانت توفره ثقافتهم السلوكية من انضباط وسلاسة ويسر في الفكر التعاوني. ويستطيع المرء أن يؤكد أن التجربة الجماعية بشكلها الحديث، الآتية من آلية الانتخاب العمومي المباشر، تقدم هناك مادة خصبة للدراسة والبحث. إذ مثلا ثمة جماعة قروية في آيت باعمران تعتبر أقدم جماعة قروية ظلت تصوت لنفس الحركة السياسية، ولنفس الرئيس، منذ انتخابات 1961 البلدية، وهي جماعة أملو ورئيسها محمد أبو الحقوق، وهي جماعة ظلت تصوت للاتحاديين إلى اليوم. وإذا ما تأملنا خريطة المجالس الحضرية الكبرى بسوس (أكادير، تارودانت، تزنيت ) سنجد أنها كلها تسير من قبل اليسار المغربي. بل وأنها تسير من طرف هذه العائلة السياسية منذ السبعينات والثمانينات. فالمجلس البلدي لأكادير ظل اتحاديا منذ سنة 1976 والمجلس البلدي لتارودانت ظل اتحاديا منذ 1992 والمجلس البلدي لتزنيت يرأسه اليوم السيد أوهمو باسم التقدم والإشتراكية لكن أغلب نوابه من الاتحاد. ويمثل المجلس البلدي لتارودانت حالة خاصة كونه ظل مجلسا اتحاديا بنفس الرئيس إلى اليوم وهو الأستاذ مصطفى المتوكل، إبن المربي والمناضل الوطني الكبير، العلامة الراحل الحاج المتوكل الساحلي، مؤسس معهد التعليم الأصيل بتارودانت ورفيق المقاومين الكبار محمد الزرقطوني، والراحل الفقيه البصري ومولاي عبدالسلام الجبلي. دون إغفال بلديات آيت ملول التي ظلت تصوت للاتحاد منذ 1992 وأيت إعزة وتاغازوت منذ 1992 وأمرزكان منذ 1976. عادت أكادير ومجلسها البلدي، إذن، لتبرز على الساحة مجددا هذه الأيام، منذ الطريقة غير اللائقة والوقحة التي تم بها التعامل مع رئيسها المنتخب ديمقراطيا أثناء مراسيم حفل الولاء بتطوان، كونه عمليا طرد من قصر الملك واعتبر غير مرغوب فيه من قبل جهة ما يظهر أن لها «جرأة التصرف» في قلب «دار المخزن» لتصفية حساب مع رئيس بلدية منتخب، كل تهمته أنه مع فريقه من المستشارين الاتحاديين وزملائهم المتحالفين معهم من العدالة والتنمية، لا يتنازلون عن واجب حماية مصالح ساكنة المدينة التي انتخبتهم وحملتهم أمانة تسيير شؤون مدينتهم، من مافيات العقار ومافيات التلاعب بالصفقات العمومية. وأيضا لأنهم أناس يملأون مقاعدهم وليسوا مجرد ديكور في حساب أي مسؤول إداري محلي أو مركزي ولو كان والي المدينة. الحقيقة، أن واقعة رئيس المجلس البلدي الأستاذ طارق القباج، ابن المناضل الاتحادي والوطني الصلب، ورجل الأعمال الناجح، الراحل عباس القباج (ومهم هنا التذكير بذلك، لأنه كل وما انتسب إليه. ورئيس المجلس البلدي لأكادير هو من سلالة وطنية صلبة، عرفت دوما أن راسها قاصح، في الحق)، تطرح أسئلة قلق عدة ظلت تطرح منذ 1976. ذلك أن صراع رؤساء المجالس البلدية الاتحاديين الذين تعاقبوا على تسيير عاصمة سوس (1) قد ظل صراعا مخصبا مهما كان للأفيد للمدينة، ما جعلها اليوم واحدة من أهمالمدن المغربية تقدما على مستوى الخدمات العمومية الأساسية، وأصبح لها مشروع متكامل لتهيئة المدينة بالشكل الحداثي للكلمة. ولم تكن الساكنة تصوت على نفس العائلة السياسية لسواد عيون مرشحيها ، ولكن لأن الواقع يبز الجميع، والنتائج كانت واضحة للعيان. وأكادير 1976 ليست إطلاقا هي أكادير 2011. فالتراكم الإيجابي متحقق دورة بعد دورة. ولو شئنا المقارنة هنا، يكفي تأمل واقع حال مدينة مثل الدارالبيضاء، والتساؤل: هل البيضاء اليوم هي بيضاء 1976؟. الجواب النزيه لا يمكن إلا أن يكون صادما. فعاصمة المغرب الاقتصادية «تبدونت» بشكل رهيب وتراجعت بشكل أفظع في كل الخدمات العمومية ولعل أخطرها اليوم التراجع البيئي فيها الذي يعتبر جريمة كاملة، لأن المدينة أصبحت للأسف عبارة عن مزبلة كبيرة بلا ضفاف. ظل الصراع إذن، في حدود التدافع بين منطق ممثلي السلطة في ترويض المجلس البلدي والدفاع عن هذه المصلحة أو تلك، لهذا الإكراه أو ذاك، وكان هناك رجال سلطة محلية نزهاء حقا وكان هناك آخرون عكس ذلك تماما. فيما كان الفريق المسير للمدينة يقاوم بهذا القدر أو ذاك، حسب الإمكانيات وحسب التجربة الذاتية في التسيير، مما حقق للمدينة تراكما في بلورة معنى «المدينة - la cit?»، وقد برز ذلك في مشاكل الصرف الصحي وإعادة هيكلة الميناء وإيجاد حلول حقيقية لمأساة حي أنزا العمالي، وتنظيم الأسواق الشعبية والقطع مع مشاكل تعبيد الطرق والتقدم عاليا في تهيئة المساحات الخضراء، وخلق أقطاب صناعية جد متقدمة وتسيير المداخل والمخارج إلى المدينة والقطع مع فوضى العقار والتوفق في إدماج السياحة مع طبيعة الساكنة المحافظة نوعا ما، وصولا إلى المخطط الجديد للمدينة الذي يعزز من مكتسب امتلاك أكادير صفة مدينة جديدة وحديثة. لكن، لم يصل الأمر قط إلى ما وصل إليه اليوم من محاولات التركيع والإساءة لممثلي السكانالمنتخبين ديمقراطيا، من خلال رئيس الفريق ورئيس المجلس الأستاذ طارق القباج. ولعل الخطورة كامنة في أن الأمر تم هذه المرة في «دار السلطان»، التي هي تاريخيا «دار المغاربة، كل المغاربة». بل وتم في حفل الولاء، مما يقتضي ردا واضحا وحاسما يقطع مع أي توظيف لرمزية «دار الملك» في تصفية حسابات خلافية محلية. وهنا ثقل الملف حقيقة، الذي على قدر ما يجب له من كياسة في الحل، فإنه يستوجب صرامة في التدبير حتى لا يتحول إلى سابقة في المغرب. والأكيد على كل حال، هو أن الأستاذ طارق القباج، وفريقه الداعم من المستشارين، سيظل وفيا لالتزامه المسؤول أمام ضميره النضالي وأمام الساكنة التي منحته ثقتها، وأيضا أمام واجبه في احترام واجبات المواطنة التي في الصلب منها خدمة الصالح العام، كترجمان أصلب لخدمة البلد وقائد البلد. وأكيد أيضا أن الرسالة وصلت في كافة معانيها السياسية. وأكبر معاني الرسالة تلك، أن الصراع من أجل الإصلاح هو صراع طويل النفس، وأنه ليس لحظة في ندوة أو لقاء تلفزي أو خطاب عمومي، بل هو دربة الصبر على الزمن وعلى أعطاب الطريق وأساسا فخاخها. وفي أكادير، وفي بلاد سوس، التي هي عاصمة لها، ثقافة الصبر على الإصلاح راسخة وقديمة. فقد عبر ولاة وعبر مسؤولون عموميون كثر، لكن الذي بقي هي الثقافة السلوكية لساكنة المنطقة، الثقافة الصارمة في الحساب والمؤمنة عميقا بمعنى التعاون والتكافل والصبر على الطبائع القاسية. هامش: (1) تعاقب على رئاسة المجلس البلدي لأكادير منذ 1976، تاريخ عودة المسلسل الانتخابي إلى المغرب، بعد حالة الاستثناء المعلنة منذ 1965، السادة: إبراهيم لشكر (أقالته السلطة بدعوى أنه معتقل سابق والحال أنه كان معتقلا سياسيا) وعوضه الراحل إبراهيم الراضي في ولاية 1983/1976 ثم الراحل إبراهيم الراضي في ولاية 1983 / 1992. ثم الأستاذ محمد الواثيق في ولاية 1997/ 1992. ثم الأستاذ محمد البوزيدي في ولاية 1997 / 2003. وبعدها الأستاذ طارق القباج في ولايتين حتى الآن / 2003 2009، ثم 2009 إلى اليوم.