بحسب علم الترموديناميكا، أنه في صلب كل نظام متحرك تتواجد بالضرورة قوتان متصارعتان: قوة انتباذية تدفع إلى الحركة وأخرى انجذابية تعمل على التهدئة والحفاظ على الاستقرار، ومن صراعهما يحدث التوازن داخل النظام. أما في حالة إذا ما سيطرت مثلا القوة الأولى لوحدها، فإن ذلك قد يؤدي إلى انفجار النظام، وعلى العكس إذا ما سيطرت القوة الثانية فقد يؤدي ذلك إلى تهالكه الداخلي. ولهذا فالنظام يكون محتاجا دائما للقوتين معا حتى يحافظ على وجوده. وينطبق هذا أيضا على الأنظمة الاجتماعية باعتبارها أنظمة متطورة ومتحركة، بحيث يظهر التاريخ وكأنه حلقات من الانتقالات من حالة توازن إلى أخرى، تلعب قوى التجديد والتطور دور المحرك داخله، بينما تلعب قوى المحافظة والتقليد دور التهدئة والاستقرار. وبناء عليه، أنه إذا كنا قد عشنا في المغرب مثلا في الشهور الأخيرة، وبعد سنوات من الجمود والمراوحة في المكان، قفزة نحو الأعلى في مسار التطور، بفضل الحراك الاجتماعي الذي أحدثته حركة 20 فبراير، وما تبع ذلك من نقاش واستفتاء على الدستور، فإنه سيكون من المنطقي أن نتوقع ردة فعل من طرف قوى المحافظة، التي ستسعى إلى تعطيل هذا التطور وفرض الجمود أو التراجع عما تحقق. وهذا بالضبط ما يظهر من خلال الهجمة الشرسة التي تقوم بها حاليا هذه القوى المناهضة للتغيير لضرب الحركة وإجهاض كل محاولة للإصلاح السياسي. وبتعبير آخر أنه إذا كنا قد تواجدنا في الشهور الماضية على مسار تصاعدي في خط التاريخ، فإنه من المحتمل أن يعود هذا الخط للانحدار أو على الأقل المراوحة في المكان. وتبقى هذه كلها سيناريوهات مفتوحة على المستقبل، وتحققها مرهونا بقدرة كل قوة من القوى المتصارعة في الساحة وعلى ذكائها في تدبير المرحلة. لكن كيف يمكن أن نشخص هذه القوى وعلى أية معايير يمكن لنا تصنيف أو الفرز داخلها بين من يساند التغيير وبين من يلعب دور المحافظة والتقليد. عموما كان هذا التصنيف يتم تاريخيا ما بين القوى التقدمية أو اليسار المفروض فيه حمل مشروع التغيير، و القوى الرجعية أو اليمين المناهض لذلك. غير أن الأمر صار أكثر تعقيدا الآن، بعد أن انضاف طرف ثالث إلى الساحة السياسية وصرنا أمام ثلاثة لاعبين بدل اثنين: اليمين أو ما نسميه عموما بالمخزن، الديمقراطيون وبالخصوص اليساريون منهم، ثم الإسلاميون. ولذلك فإن السؤال الذي فرض نفسه الآن: من من هذه الأطراف قد نحسبه على صف التقدم ومن منها على صف المحافظة والتقليد؟ فهل فعلا لا يزال اليسار يلعب دور الدافع إلى التغيير كما يخطر على البال منذ الوهلة الأولى، في مقابل لعب الطرفين الآخرين للدور المعاكس؟ أم أن الواقع هو أعقد من ذلك؟ ألا يمكن أن نعتبر أن نزعة التغيير قد تخترق كل هذه الأطراف معا كما تخترقها أيضا نزعة المحافظة؟ وبالتالي ألن نجد مثلا من بين اليساريين أنفسهم من هو أكثر عرقلة للتغيير من بعض المحسوبين على اليمين، وفي المقابل أن نجد من بين المحسوبين على هذا الأخير أو على الإسلاميين من يخدم التطور أحسن من بعض اليساريين؟ ربما لتفكيك هذا التعقيد، وجب أن نميز أولا بين واجهات الفعل المجتمعي الثلاث: واجهة الفعل السياسي وواجهة الفعل الثقافي والقيمي ثم واجهة الفعل الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم قد نكتشف أن هناك من يكون فعله تقدميا حقيقة على واجهة معينة، بينما هو يلعب دور الرجعية في الواجهة الأخرى. وأن نكتشف أيضا أن ليس كل المكونات المحسوبة على طرف معين هي متجانسة وتشتغل بنفس الطريقة أو تلعب نفس الدور في كل واجهة. ولتقريب الصورة أكثر قد نستعين بالجدول التالي: ما قد نستنتجه من هذا الجدول، أن المخزن بطبيعة الحال هو من يحمل لواء المحافظة وعرقلة التغيير، بتلكؤه في إحداث الإصلاحات السياسية أو رعايته لثقافات الإذعان والولاء ... أو بتغاضيه وتشجيعه لاقتصاد الريع. غير أن المخزن ليس وحده من يرعى الرجعية، بل تسانده في ذلك القوى الأصولية التي مازالت تدافع عن تصورات تقليدية وخرافية. وبجانبه يوجد اليمين الليبرالي الذي وإن كان يساعد ثقافيا واقتصاديا على الدفع بالتجديد، عبر نشر القيم الثقافية الليبرالية والحداثية والتوق إلى تحرير الاقتصاد الوطني من الريع، فإنه يبقى من دون أي تأثير سياسي أو هو فقط يستفيد مجانا من الاستقرار الذي توفره له الدولة. في الجهة الأخرى يمثل اليسار بشكل عام واليسار الديمقراطي بشكل خاص، رأس الرمح في المعركة من أجل التغيير، وذلك على كل المستويات غير أن العائق الأكبر الذي يحول دونه والقيام بدوره على أفضل وجه، هو وجود جزء منه منحاز سياسيا للمخزن أو ينتظر أن تأتيه الإشارات منه (...) ولكن اليسار قد يستعين أيضا وإن ظرفيا، في معركته من أجل التغيير، بالدعم الذي قد يقدمه بعض الإسلاميين في المطالبة بتطهير الحقل السياسي وإقرار قواعد للعب الديمقراطي، حتى وإن كان ذلك يتم في إطار سياسة التقية، ما دامت الخلفية الإيديولوجية التي ينطلقون منها لا علاقة لها بالديمقراطية. وعلى ضوء هذه الخارطة التقريبية للقوى المتصارعة في البلاد، وانطلاقا من الهاجس الذي يوجهنا، وهو البحث عن أفضل السبل لدعم مشروع التغيير في البلاد، نستخلص بطبيعة الحال، أن القوى الأولى المؤهلة لحمل هذا المشروع هي تلك الكتلة المكونة من مناضلي اليسار الديمقراطي بمختلف مشاربهم، لكن مع السهر بالخصوص على القطع مع المتمخزنين (...) و، بالسعي إلى تحييد بعض السلوكيات الطفولية في ممارسات بعض مكونات اليسار الجذري. ولكن على هذه الكتلة أيضا أن تنفتح وتستعين بما توفره بعض مكونات الإسلاميين من دعم سياسي مرحلي، أو يوفره الإسلاميون المتنورون و الليبراليون الحداثيون من دعم على مستوى القيم الثقافية. وهذا يعني أن معركة التغيير ذات الطابع السياسي كما تجسدها في الساحة الآن حركة 20 فبراير، إن كانت تحدد خصمها الأساسي في اليمين المخزني، فهي لا تجب أن توسع جبهة خصومها حتى تعطي لهذا الأخير الفرصة لعزلها، ولكن أن تنفتح على مختلف الديمقراطيين والحداثيين في البلاد، بأن تعي الطابع الراهن للمرحلة وتختار الشعار المناسب لذلك، ألا وهو محاربة الفساد الذي يرعاه هذا الأخير. وبالخصوص بدل أن تبقى تبحث عن طهرانية مفترضة، لا تنتج سوى المزيد من عزلتها، عليها أن تعرف كيف تنقل المعركة ضد شبكات المخزن إلى داخل مختلف الهيئات السياسية أو النقابية أو الجمعوية، لتفجر التناقضات من داخلها، ولا تترك الفرصة للمخزن لأن ينقل هو الصراع إلى وسطها ويدفعها إلى تفجير تناقضاتها.