لقد ذاع وشاع مصطلح «البلطجية» مع اندلاع ثورة شباب مصر ضد نظام محمد حسني مبارك. و«البلطجي»، لفظ يتكون من مقطعين: «بلطة» و هي أداة للقطع والذبح و"جي"، أي حامل البلطة. والكلمة أصلها تركي. وقد رأينا عبر الشاشات التلفزيونية كيف تم تسخير "البلطجية" للنيل من شباب الثورة المعتصمين بميدان التحرير للمطالبة برحيل النظام. وأشهر مشاهد البلطجة التي عاشها ميدان التحرير هو ما أصبح يعرف ب"موقعة الجمل"(والظاهرة موجودة عندنا ولها مسميات مختلفة بحسب السياق وبحسب الزمان والمكان). فالبلطجة، إذن، هي استعمال القوة للسيطرة على الآخرين وفرض الرأي عليهم وإرهابهم والتنكيل بهم بهدف تحقيق مصلحة خاصة. وهذه القوة عادة ما تكون عضلية وقد تكون مصحوبة بعنف لفظي. كما أنه يجوز اعتبار ما يسمى بالإرهاب الفكري نوعا من البلطجة. والبلطجة تصبح سياسية حين تلجأ إليها الدولة أو الأحزاب السياسية. فحينما تعتمد جهة (أو جهات) ما على خدمات بعض الأشخاص يتم تسخيرهم لإرهاب الخصوم السياسيين، فهي تجعل الصراع السياسي لا يقوم على الفكر والجدل وقراع الحجة بالحجة، بل يقوم على القوة العضلية وعلى الترهيب والتخويف. ويمكن اعتبار البلطجة السياسية من أخطر أنواع البلطجة، لأنها تحضر بقوة في كل استحقاق، فتفسد قواعد اللعبة الديمقراطية وتسهم في تكوين مؤسسات مغشوشة وعاجزة، مما يزيد الوضع العام تأزما وتقهقرا. أما مصطلح العدمية، فله جذور فكرية وفلسفية؛ وهو يعبر عن موقف من العالم بما في ذلك الإنسان؛ فالعدمية ترى العالم عديم القيمة وخال من أي مضمون أو معنى حقيقي. غير أن ما يهمنا في هذا المقام ليس هو العدمية الفكرية أو الفلسفية، بل العدمية السياسية. ونقصد بالعدمية السياسية إنكار التغيير والتشكيك فيه، "إما عن عمد وسبق إصرار أو بسبب الانغلاق في باراديغمات وتصورات ومقولات وتعارضات عفا عليها الزمن"(محمد سبيلا). فإذا ما حاولنا أن نفهم المواقف المعبر عنها تجاه الدستور الجديد والسلوكات المجسدة لهذه المواقف، سواء خلال حملة الاستفتاء أو خلال المدة التي سبقتها أو التي تلتها، فإننا سنجد أنفسنا أمام مواقف متعارضة ومتصارعة وتنكر بعضها البعض؛ فهي إما ضد الدستور الجديد على طول وإما ضد معارضي هذا الدستور الذين تكيل لهم شتى أنواع الشتائم والاتهامات. لنبدأ بالسلوك البلطجي. ويقف وراء هذا السلوك أطراف مختلفة: رجال سلطة، منتخبين، أحزاب، جمعيات وجهات أخرى معلومة وغير معلومة. ويعتمد هؤلاء على حشد أناس (أحيانا من الغوغاء) بأساليب أقل ما يقال عنها أنها غير نظيفة وغير بريئة. ويريد أصحاب هذا السلوك أن يوهموا الناس بأن الأمر يتعلق بمواطنين يخرجون إلى الشارع بتلقائية ردا على أولائك الذين يناهضون كل شيء ويرفضون كل شيء. فحين يختار هؤلاء أن تنطلق(وفي نفس التوقيت) وقفاتهم ومظاهراتهم من الساحات التي تتجمع فيها حركة 20 فبراير، فإن الأمر يبعث على الريبة وعلى الامتعاض أيضا. فالمواطنون يرون في هذا السلوك استمرار أساليب دأبت عليها بعض الجهات لتمييع الحياة السياسية، مما جعل بعض الظرفاء يتحدثون عن حركة 20 فبراير و حركة 20 درهم. وأخطر ما في الأمر هو أن يوحي هذا السلوك للمواطن بأن دار لقمان على حالها وأن الأساليب القديمة التي كانت تستعمل لتمييع الحياة السياسية ما زالت رائجة وأن التغييرات التي يتم الحديث عنها هي للاستهلاك فقط. وهو، لعمري، أمر بالغ الخطورة لأنه يسيء إلى المستقبل وإلى البناء الديمقراطي الذي ينشده المغاربة. فبمثل هذا السلوك البلطجي ننفر المواطنين من المشاركة السياسية وندفهم إلى العزوف عن صناديق الاقتراع ونعمل على تكريس الواقع القائم المأزوم. ولعل هذا ما يرغب فيه ألائك الذين يقفون وراء هذا السلوك ليستمروا في الاستفادة الشخصية من الوضع القائم. ولبلوغ هذا الهدف، فهم لا يتورعون عن الإيحاء لبعض الناس البسطاء ولبعض السذج بأن بعض الثوابت الوطنية في خطر وأن حضورهم في الشارع العام ضد حركة 20 فبراير هو دفاع عن هذه الثوابت. أما الموقف العدمي، فهو لا يقل خطورة عن الموقف السابق. فحين يدعي البعض بأن لا شيء تغير في هذا الوطن وأن الدستور الجديد لم يأت بجديد، وأن كل السلط بقيت ممركزة في يد الملك ،الخ، فهذا موقف عدمي بامتياز. إن إنكار التقدم الحاصل في مجال الحريات وحقوق الإنسان وإنكار المكتسبات التي كرسها الدستور الجديد، وكذا إنكار الاستجابة لكثير من الانتظارات ، لهو موقف لا يخدم الديمقراطية في شيء ولا ينبني على تحليل موضوعي للواقع المغربي، بل هو موقف جامد لا يتغير رغم كل المتغيرات التي حصلت أو تحصل حوله. إن موقف العدميين من الدستور الجديد (وهنا لا بد أن نشير إلى أننا لا نقصد الذين قاطعوا الاستفتاء على الدستور؛ ذلك أن المقاطعة أتت احتجاجا على عدم احترام المنهجية المتفق عليها وليس رفضا لمضمون الدستور؛ كما أن المقاطعة هي موقف سياسي، مثلها مثل الموقف القاضي بالتصويت بنعم أو الموقف القاضي بالتصويت بلا ) هو نوع من الهروب إلى الأمام. إنه رفض مبدئي لكل تغيير. فأتصور أنه حتى لو أتى الدستور الجديد بالملكية البرلمانية كما نادت بها حركة 20 فبراير، كنا سنجد من يهرب إلى الأمام وينادي بأشياء أخرى، أقلها التغيير الجذري؛ ذلك أن هؤلاء لا يهمهم الدستور لا في شكله ولا في مضمونه. ويعرف المتتبعون من هي الفصائل التي لها هذا الموقف. خلاصة القول، إن البلطجة والعدمية يلتقيان في موقفهما السلبي من التغيير ويشتركان في التشجيع على العزوف عن صناديق الاقتراع. فالبلطجة السياسية ترفض التغيير وتحارب الداعين له. والعدمية السياسية تنكر التغيير وتبخس عمل المشاركين فيه. وبالتالي فهم، في نهاية المطاف، وجهان لعملة واحدة.