لقد تمكنت القوى الإيديولوجية والتكتلات الاقتصادية المحتكِرة والسياسات السلطوية في العالم الحديث عموماً من انسلاخ الرسالة الإعلامية عن مضمونها الإنساني والمعرفي، وتحويل مسارها الطبيعي والأخلاقي في نقل الوقائع والمعرفة إلى منحى المنطق الخاص بكل منظومة وأهدافها الآنية والإستراتجية. فبعد إن كانت الوظيفة الرئيسية للإعلام هي إمداد المتلقي المتلهف لمعرفة ما يحصل على أرض الواقع، بحقيقة الأحداث، بموضوعية في التناول وحياد في التوجه، باتت هذه الوظيفة تتخذ طابعاً مغايراً بصورة تدريجية، بفعل عوامل سياسية واقتصادية وتكنولوجية، تمثل في شكل حالي ك" كلب حراسة" مهمته مراقبة فكرة سياسية معينة أو ممارسة سلطوية محددة، بصرف النظر عن صوابية تلك الفكرة أو خطأها، بشتى الطرق والوسائل، إلى أن تحولت الرسائل الإعلامية إلى أطروحات مسمومة تضمر للمتلقي الشر أضعاف ما تضمر له الخير. بل أن القائمين على توجيه هذه الرسائل والممولين لها أضحوا كأفاعي لادغة تستميتُ بحثاً عن فرائس "ضالة " للانخراط في شرايينها المسمومة، من خلال التركيز الممنهج على المنبع- رسالة المصدر، وليس المصب- المتلقي. خصوصاً أن رؤوس الأموال التي تقف وراء الكثير من الوسائل والرسائل لم تعد حكراً على استثمارات تجارية أو اتجاهات سياسية، بل أن بعضها يعتمد على أموال ذات مصادر دينية أو طائفية أو استخباراتية أو حتى إرهابية خطيرة، ومن أجل الحصول على أصوات داعمة، تلجأ هذه المصادر إلى نزع الإعلام من سياقه الإخباري واستخدامه كسلاح فعّال وكفخ محكمٍ للاصطياد، متخذة الدعاية والتضليل والحذف والقص والتقزيم والتضخيم وجلد المتلقي كذباً والتلاعب بالصورة ، أدوات لتحقيق مآربها ودس سمومها في عقلية ونفسية المتابع لما يُعرض عن الحدث. والإعلام العربي بدوره لم يبق خارج بوتقة التضليل، بل أنه مارسه بصورة أكثر فظاظة، بحكم إحكام السلطات السياسية والسيطرة الاجتماعية، إلى درجة بات فيها المتابع يجد صعوبةً في التفريق بين ما هو سياسي وما هو إعلامي، وكأن الإعلام هو الجناح الذي تطير به السياسة- السلطة في الفضاءات لتلقي بشباكها على القطاعات المختلفة، دون أي رادع يذكر. ولعل الحراكات الشعبية التي اتخذت صفة الثورات في بعض الدول العربية وما تعرضت له من تشويه للحقائق وتعتيم للوقائع، ابرز وثيقة واقعية على ضآلة المسافة الفاصلة بين الإعلام والسلطة السياسية، وبين مقدّم الأخبار وشرطي المخفر، حتى أن الخبر نفسه بات يقول جهراً: أنا مسموم أنا وباء. لو تساءلنا عن المتضرر الأكبر من عميلة التضليل والتعتيم التي تجري الآن في العالم العربي.. فإن الإجابة ستكون بصورة آلية: المتلقي باعتباره المستهدف، وهي إجابة لا تقبل الشك مرحلياً، لكن لو تمعنا في البعد الآخر للعملية، فإننا سنكتشف أن الإعلام يضلل نفسه قبل تضليل أي عنصر آخر، فالحقيقة لابدّ أن تظهر مهما طال إخفائها، سواء من قبل إعلام متربص مضلل آخر أو من طرف أي شخص ترغب الحقيقة في الظهور من خلاله، وبذلك يكون هذا الإعلام قد فقد مصداقيته وثقته من قبل المتلقي، ويكون هذا المتلقي قد اكتشف أن هذا الإعلام لا يقيم له وزناً ولا يعتبره سوى أداة أو بالأصح سلعة رخيصة. من جهة أخرى هذا الإعلام يضلل نفسه حين لا يتقن مهارات وقواعد وفنون وأساليب التضليل التي لا تستخف بعقلية المشاهد أو المتابع، وحين تكون ممارساته التضليلية غير مدروسة ومخططة ومنظمة بإحكام، ومؤقتة، وقائمة على مبدأ" قلْ ذلك لعله ينفع"، وهذا ما شاهدناه على الفضائيات العربية وملحقاتها من صحف ودوريات، فليس التضليل أن "تنفي" حقيقة ما يحدث في هذا البلد أو ذاك- خصوصاً في وقت الأزمات الكبرى كالثورات الحالية مثلا- والأعين ترى من خلال عدسات الكاميرا كل ما يحدث (خرج ملك ملوك إفريقيا ليعلن للعالم أن ليبيا "لم" تشهد أي حدث مما تم تداوله عبر الوسائل، وليبيا غارقة بالدماء بشهادة الكاميرا)، هذا ليس تضليلاً، انه مهزلة. في الواقع، أن هذا الإعلام توهم أنه تقمص شخص" سائق عقول!" في تناوله للأحداث، لكنه حقيقةً أثبت فشله المزري في عملية" السواقة" .. لماذا؟ لأن القائمين عليه تمكنوا من الحصول على شهادة السواقة تلك بطريقة غير مشروعة أولا، ولأنهم يفتقرون إلى الأساليب المقنعة القائمة على ربط التضليلات بصورة شبه معقولة ثانياً، ولأنهم يوجهون خطابهم اعتماداً على عين واحدة لا أكثر، تلك العين التي اتخذت صورة الجلّاد الذي يقول: لا للرأي الآخر ثالثاً، ولأنهم يعتقدون أنه لا إعلام سوى إعلامهم، وأن المتلقي لازال ساذجاً لا يملك وسائل أخرى لمعرفة الحقيقة سوى النظر بمنظارهم رابعاً، ولأنهم لا يؤمنون بمفهوم" نهاية الجغرافيا"، ويظنون أن ما يحدث داخل رقعة جغرافية معينة يمكن أن يبقى قيد الكتمان إن لم يفش الإعلام الرسمي حقيقته خامساً.. والقائمة تطول.. والمهزلة تطول. إن الإعلام يحمل بذرة فنائه في داخلة، حين لا يفرّق في محاولاته التضليلية بين ما هو حدث عابر وما هو حدث متأزم، وحين يتخذ أسلوباً واحداً في التعامل مع الحدثين عند مخاطبة المتلقي. كما أنه يعلن عن موته علانيةً عندما يكون تابعاً في تضليله لإعلام أخر، أو شبيهاً به، ممارساً الخطوات نفسها، فما حصل في الدول العربية التي تشهد الثورات، دليل على هذه التقليد والشبه، وربما يكون السبب في ذلك هو التربية السلطوية نفسها التي اقتضت العمليات التضليلية نفسها!، فعدم امتلاكه لأساليب تضليلية خاصة قادرة على قيادة العقول نحو منحى معين، وافتقاره إلى كوادر مؤهلة لخوض المعركة ذهنياً وسيكولوجياً، وانعدام خططه الإعلامية المسبقة في هذه الصدد، دفعت به إلى هاوية " الضحك على النفس" والسقوط في التقليد، وعدم القدرة على بلورة مفهوم عام مترابط ومعقول حول تضليل حقيقة ما يحدث، الأمر الذي أساء إليه، وجعله يتعامل مع كل حدث على حدا، تحت تسميات مختلفة ومتغيرة، كما لو أن كل حدث لا يرتبط بالآخر الذي يليه، أو كما لو أن كل حدث يقع في بلد مختلف عن الآخر، وكل ذلك ساهم في تغيير النتيجة المطلوبة؛ حيث فقد الإعلام الثقة، و قلل من اهتمام المتلقي بدلاً من زيادته. لقد ساهم الإعلام في تضليل نفسه، حين تجاهل واقع تطور الوسائل المتعددة التي يمكن كشف الحقيقة ونقلها من خلالها، كال" يوتيوب" و" الفيس بوك" وأخرى، وحين لم يسمح للوسائل الإعلامية الأخرى الدخول إلى ميدان الأحداث ونقل الحقيقة، هذا إذا كان هناك أحداث، حسب الروايات الرسمية!، وكذلك حين تجاهل حقيقة " صحافة المواطن العادي"، الذي بمقدوره أن يتحول إلى صحفي بارع، بمجرد امتلاكه بعض الجرأة وهاتفاً نقالاً، فعدم السماح للوسائل الأخرى الدخول إلى الميدان لم يمنع الصحفي المواطن من نقل الأحداث. كما أن هذا الإعلام ضلل نفسه أيضاً، عندما تجاهل الوعي السياسي والإعلامي لدى المواطن، الذي قبل أن يبدأ بقراءة خبر أو أن يسمعه، يسأل نفسه: ماذا يجب أن أعرف؟ ماذا يريدون لي أن اعرف؟ ماذا يريدون لي أن لا أعرف، من خلال هذا الخبر؟. خلاصة القول: لا أحد ينكر وجود التضليل الإعلامي ودوره في غسيل المخ وصناعة الاتجاه والرأي، ولكن إعلامنا لم يرتق إلى ذلك المستوى الذي يؤهله لخوض حرب إعلامية ناجحة، فهو يفتقر إلى أبسط مهارات التضليل، وقيادة العقول في الأزمات، ولذلك فهو يضلل نفسه قبل كل شيء.