ان ما عشناه خلال الثلاثة الاشهر الاخيرة لدليل على حيوية مجتمع عبر عن مستوى عال في الادارة السياسية من طرف جلالة الملك والاحزاب السياسية والمركزيات النقابية وكافة القوى الحية للبلاد. كما ان ترجمة هذه الحيوية الجماعية المسؤولة، ومادار حولها من نقاش ديمقراطي استثنائي يعبر بدوره عن قدرة الذكاء المغربي على تدبير شؤونه بنفسه. وهذا يمثل في حد ذاته حدثا تاريخيا هاما مكن المغاربة من المصالحة مع الذات من خلال مصالحتهم مع الشأن السياسي، واعترافا لابد وان يؤسس لما سيأتي في بلادنا من قرارات حاسمة واصلاحات جوهرية لاعادة بناء الدولة والمجتمع. لذا فإن الدستور الجديد عنوان لمرحلة، ومدخل لافق تنموي جديد، ومنعطف يبين ان السياسة هي بالفعل فن الممكن. اقول هذا من موقعي ليس فقط كباحث في قضايا الاقتصاد والتشغيل والشباب، ولكن كذلك كمسؤول احتك بواقع التدبير الميداني لملفات اجتماعية كبرى خاصة في عهد حكومة التناوب، التي قادها الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وبعده الوزيرين الاولين السيد ادريس جطو والاستاذ عباس الفاسي، كما اقول هذا ايضا بصفتي مواطنا يتفاعل مع هموم مجتمعه وقضايا وطنه. I . متطلبات المرحلة ان المرحلة الحالية تتطلب من ضمن ما تتطلبه، وبالاولوية: * بلورة جماعية لتصور مجتمعي يترجم مضامين ما جاء في الدستور، * تواجد رجالات ونساء يحملون ويؤطرون هذا المشروع ويحمونه، * توفر ادوات ووسائل لتفعيل هذا المشروع، * تم التمكن من اليات للمحاسبة، ممزوجة بمقاربة مبنية على النقد والنقد الذاتي البناء والمسؤول في بعدهما الوطني. II . ضرورةاستثمار التراكمات لقد حقق المغرب خلال العشر سنين الاخيرة مكاسب اقتصادية واجتماعية وحقوقية ادت الى زرع دينامية اباحتها الاصلاحات الهيكلية التي قام بها المغرب، و اتاحتها الاوراش الكبرى التي فتحها. وبناء عليه، فان الدستور الحالييتوجب ان يكون محطة اضافية جديدة لهذا المسار، كعنوان للمرور من الانتقال الديمقراطي الى خلق دينامية اصلاحية جديدة اكثر عمقا مبنية على المبادئ الكبرى الواردة في الدستور والرامية الى تحقيق ما يصبو اليه الشعب المغربي من حرية، وكرامة، وعدالة اجتماعية، ومساواة امام القانون،واخلاقيات العمل والمسؤولية الممزوجين بثقافة المحاسبة وثقافة الواجبات التي تفرضها المواطنة. فالدستور تضمّن هذه المطالب، وكرس مجمل هذه المبادئ، كما حدد القيم التي طالب بها كل الفاعلين، والقوى الحية للبلاد. فهو اذا مرآة لتطلعات وانتظارات المغاربة جميعا، بما فيهم من عبر ولازال يعبر عن راي آخر. III . منهجية تفعيل الدستور: بناء على تقييم موضوعي للتجربة الوطنية، ولبعض التجارب الدولية وخاصة على صعيد العالم العربي، فان هذه المنهجية يجب ان يكون عمادها التأهيل الشامل للمجتمع والاقتصاد. لدى فعلى المغرب في هذه المرحلة الدقيقة ان لا يبدا بمجال وقطاع بمفصل ومعزل عن المجالات والقطاعات الاخرى. * فبعض الدول، كتونس، اعتمدت على الاقتصاد واهملت السياسة اعتقادا من قياداتها بان مفتاح الاستقرار والتنمية يكمنان في «التحديث السلطوي»، وفي سلطة السياسة. * وهناك دول بنت كل استراتيجيتها التنموية على مقاومة الخطر الخارجي على حساب التحديث السياسي والاقتصادي كسوريا وليبيا. * كما ان هناك دول جعلت من المقاربة الامنية، ومن الدبلوماسية الخارجية اساس تموقعها الجهوي على حساب البناء الاجتماعي والثقافي الداخلي، كمصر والجزائر. وكلها نماذج، اما فشلت في تجربتها، او تعيش اليوم قلقا اجتماعيا حقيقيا، وحراكا سياسيا مخلا لاستقرارها، و كما تعرف ركودا اقتصاديا عقّد من تبعيتها الخارجية ومن تدبير مشاكلها الداخلية . فالمغرب اذن بحاجة اليوم الى تأهيل شمولي. فالدستور اعطى للمغرب وللمغاربة وسائلاللتأهيل السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والحقوقي والثقافي لكي تتحمل النخب مسؤوليتها امام التاريخ وامام الشعب. ويمكن اجمال العناصر الجوهرية والمفاتيح الرئيسية لهذا التأهيل الشامل في ثلاثة انواع: * تاهيل الانسان، * تاهيل الاقتصاد، * ثم التاهيل الثقافي من خلال تاهيل المجال، وخاصة تاهيل المدن. 1. تأهيل الانسان: كل الملاحظين و المتتبعين يقرون على ان هناك مشكلة ذات بعد وطنيجوهري عنوانها ازمة النخب. والآلة المؤهلة لإنتاج هذه النخب معطلة اليوم، الا باستثناءات قليلة.وتكمن هذه الآلة المعطلة المنتجة للنخب في ازمة المدرسة المغربية. وهذا ما يجعل من تسريع وثيرة تفعيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين اكبر تحدي يواجه المغرب اليوم في مسيرته التحديثية، وفي محاولاته بلوغ هذا التأهيل الشامل الضروري لتحويل مضامين الدستور الى ورش تنموي كبير. ان المغاربة يريدون اليوم نخب وطنية ومحلية تتميز بأربعة خصوصيات :الكفاءة،الوطنية،الاستقامة والنزاهة،ثم العطاء. 2. تأهيل الاقتصاد: ان هذا التاهيل ضروري لأنه اساس اي انتاج للثروات اصبح المغرب اليوم في حاجة ماسة اليها، ليس فقط لإحداث انشطة اقتصادية جديدة ذات اثار جذب ايجابيةفي مجال خلق اكبر عدد ممكن من فرص للشغل لشبابنا، ولكن كذلك لتقوية الاسس الداخلية لاقتصادنا الوطني لجعله قادر على تلبية الحاجيات المتنامية لمواطنينا في عدة مجالات حيوية لعيشهم الكريم. ولابد ان يكون قوام هذا التاهيل الاقتصادي هو تشجيع الاستثمار الوطني من خلال اليات وسياسات من شانها تقوية الثقة الضرورية لخلق المناخ الملائم لتحفيز هذا الاستثمار. كما ان هذا التاهيل مطالب ان يندرج ضمن جيل جديد وجريء من الاصلاحات تعتمد التوزيع العادل للثروات كأحد مبادئها الموجهة، وذلك من خلال سن اصلاح ضريبي تضامني يهدف تقليص الفوراق الاجتماعية والمجالية، ويكرس المسؤولية الاجتماعية للدولة وللمقاولة، كما يؤسس لمواطنة حقة. وهذا لن يأتى الا اذا تملكت النخب الاقتصادية والادارية الجديدة المشروع المجتمعي الذي كرس الدستور الجديد حقوقه الاساسية، والا اذا جعلت كل القوى الحية للبلاد من التاهيل الاقتصادي مدخلا لإرساء مجتمع تضامني،متماسك، وادماجي. 3. تاهيل ثقافي: ان الثقافة اقوى رافد للتنمية الشاملة، لما لها من ابعاد اقتصادية وسياسية ومجالية ومجتمعية. لدى فان التاهيل الثقافي يوجد في صلبالتاهيلالشامل المنشود. كما انها توجد اليوم في بؤرة الحكامة المقلقة لمدننا. فبانعدام فضاءات لائقة وسهلة الولوج لممارسة الانشطة الثقافية تمكن شبابنا من الحوار، ومن التعبير عن مخيلاتهم، وذكائهم، ونبوغهم الابداعي في مجالات المسرح والسينما والموسيقى والفنون والكتابة، اصبحت ازقة مدننا،ومقاهيها،وحاناتها، وملاهيها الليلية، ونواديها الحرة، الفضاءات المثلى للترفيه ولممارسة شبابنا لانشطة موازية، عادة ما تبتعد جزئيا او كليا عن الفعل الثقافي في مفهومه المتعارف عليه. ان الحكامة الحالية لمدننا تشجع لدى شبابنا ثقافة الخمول، والعزوف، واللامبالاة، والاتكالية، ثقافة تؤدي حتما الىالعنف والتطرفبكل تمظهراته، عوض ثقافة الابداع والخلق والحوار والامل والحياة. وهذه مسؤولية من يخطط ويشيد مدننا اليوم من نخب وسلطات محلية، وكذا من مهندسي ومعدوا المجال. لدى فان التاهيل الشامل لبلادنا رهين كذلك بتاهيل حقلنا الثقافي من خلال تاهيل مدننا،لان في ذلك خير لتاهيل شبابنا، ولكل مكونات مجتمعنا . IV . ضرورة التحكم في عامل الزمن ان المغرب قد دخل في مشروع تاريخي لإعادة بناء الدولة والمجتمع. ولقد حان الوقت ان تعي كل مكونات الدولة و المجتمع بالخطورة التاريخية للمرحلة الحالية. كما تجدر الاشارة الى ان المغرب تحركه نزعة ارادية راسخة بالرغم من تعدد المشاكل وتعقد تدبيرها. ومن بين هذه المشاكل كونه محاصرا شرقا وجنوبا وشمالا. ومع ذلك قرر الانخراط في مشروع حضاري تاريخي ضخم في اتجاه اشراك كل الفاعلين، وكل المؤسسات، وكل المناطق من خلال الجهوية الموسعة. وهذا رهان تاريخي كبير وليس مجرد شعار. ولهذا فان ما عشناه قبل،وما سنعيشه بعد المصادقة الشعبية على الدستور هو يشكل، بما لايدع مجال للشك، منعطفا لافق مغرب جديد يفترض سياسته الممكنة، ورجالاته ونساؤه القادرون على تأطير المشروع المجتمعي الذي يحملونه، كما يفترض وسائل وادوات ناجعة لتبوئه اقصى درجات الفعالية والنجاعة، ويحتم وضع اليات للتتبع والمراقبة والمحاسبة لتوفر له وسائل المناعة الضرورية لحماية مكتسباته، وضمان ديمومة مؤسساته ومقوماته. ففي هذه الابعاد العميقة تكمن مسؤوليات كافة مكونات الامة المغربية في مرحلة ما بعد المصادقة على الدستور، وتتجلى كذلك رهانات تفعيل مضامينه خلال المراحل المقبلة. وبناء عليه فان التحكم في عامل الزمن، وفي رزمنة الاصلاحات المقبلة تعد عملية حاسمة في ما ستؤول عليه الاوضاع العامة في المغرب مستقبلا.