تختلط الأصوات المرتفعة للهيئات التي جاءت لتستنكر الحادث الإجرامي الذي طال مقهى أركانة، بإيقاعات الساحة لتعطي للمكان مدلولا آخر.. بائعات الخبز، ومحلات البازارات والأزقة المؤدية من الساحة إلى سوق البهجة والسمارين يكتظ فيها الآدميون.. الإقبال متواصل على معروضات هذه المحلات بشكل كبير.. كل اللغات حاضرة.. ما يدحض أن السياح فروا من مراكش.. إنهم هنا في الساحة، في الفنادق، في الأسواق العتيقة.. مراكش الآن كونية، تتحدث كل لغات العالم بل هي اليوم العالم كله. النغمة هي النغمة.. الإيقاع هو الإيقاع.. الرائحة والبهارات.. الآدميون والحلقات.. هكذا وجدت ساحة جامع الفناء بعد اسبوع من انفجار مقهى أركانة.. أفواج من السياح تخترق الساحة.. تتأمل المشاهد.. البعض يستهويه التحلق حول مروضي الأفاعي والبعض الآخر تستقطبه الإيقاعات الحارة ل «كناوة».. تتعالى الأصوات.. ترتفع .. يزدحم الناس في كل حلقة..فما الذي تغير إذن؟ هل ما أراه تحد؟ هل هو رسالة قوية إلى جهة ما؟ الشيء الذي أثارني أن ساحة الفناء أضيفت لها حلقة جديدة تستقطب الزوار، مغاربة وأجانب.. وهي الأكثر نشاطا، أنها مشاهد خراب مقهى أركانة الذي يزوره الآلاف .. يلتقطون الصور، يضعون أمامه أكاليل من الزهور والورود، يشعلون الشموع، يرفعون الشعارات، يبعثون برسائل قوية للمجرمين، يقولون: « الإرهاب لا يرهبنا وقافلة الإصلاح تشق طريقها بإصرار..» على مقربة من ذلك المكان، سلمت فرنسية قدميها لإحدى نقاشات الحناء وهي تتأمل مخلفات تفجير شرفة مقهي أركانة المطلة بكل تحد.. قالت: « إن ما يبعث الحياة فينا ويعطي لوجودنا معنى هو الفن والإبداع، والأكيد أن هذه النقاشة ترسم فنا في قدمي ويدي بالحناء، والساحة كلها تنبض بالإبداع وحب الحياة وبالتالي لن تموت هذه الساحة، ولن يموت هذا الشعب المبدع المتسامح الكريم، ومن هنا أريد أن أقول لك بأن المغرب بهذا الإبداع يملك مناعة ضد الإرهاب.. تأمل طفلتي فهي سعيدة لأنها موجودة هنا، وتأكد أننا سنعود مرات و مرات إلى هنأ..» سحائب المطاعم المرصوصة بانتظام في الساحة على الهواء الطلق والتي تعرض فنونا متنوعة من الطبخ المغربي الأصيل، وتقدم صنوفا من الأطباق التي تفتح شهيتك لتستسلم رغما عنك لتناول ما تشتهيه.. تغطي سماء الساحة.. قلت لصاحب مطعم مجاور لأركانة: ألم يؤثر التفجير الإرهابي في عدد رواد مطعمكم؟؟ فقال: « في اليوم الأول كان لدينا تخوف، ذُهِلنا.. وضعنا أيدينا على قلوبنا.. لكن الذي شجعنا أكثر هو الإقبال الكبير للزوار على الساحة ، والذي ساهم فيه هذا الحراك السياسي حيث أن الناس يقبلون على مكان الحادث من كل حدب و صوب ومن مختلف الأقاليم من الشروق إلى الغروب.. بعدها يقتحمون الساحة، يرتادون مطاعمنا، هذا شجعنا أكثر لنقول للإرهابيين، لن نخاف، وسنواصل حياتنا بسلام، بل سنضاعف ذلك لنُفْشِلَ مبتغاهم ، صحيح هناك نقصا ملموسا بالنسبة للسائح الأجنبي ولكن الأمور تعود إلى طبيعتها بشكل تدريجي، وبالتالي فشل مخطط الجهات التي استهدفت أمن واقتصاد بلادنا .» استرعاني مشهد لأسرة أجنبية ،الأم تدفع عربة يدوية، تحمل رضيعها والأب يحمل حقيبته على ظهره وإلى جانبه طفله الذي قد يبلغ من العمر ما بين ثلاث أو أربع سنوات، يرتدي قميصا أحمر كتبت عليه باللغتين العربية والفرنسية عبارة(المغرب Morocco ) رسالة تعبر عن حب هذا السائح الأجنبي وأسرته للمغرب، لمراكش.. لساحة جامع الفنا التي جابها وتنقل في كل فضاءاتها ليقول للإرهابيين نحن هنا بكل حب قرب أركانة ولن نكره المغرب بل سنعلم أبناءنا حب هذا الوطن وشعبه المضياف المتسامح.. هكذا قرأت المشهد الذي هو بحق رسالة من جيل لجيل. العربات الخاصة ببيع عصير الليمون، والمتجانسة مع نظيرتها التي رتبت عليها بعناية فائقة مختلف صنوف الفواكه اليابسة من جوز ولوز وتين وتمر وتستهوي كل زائر وهي الأكثر قربا من مكان الانفجار.. محمد، بائع العصير لا يكف عن مناداة الناس لاقتناء كأس من الليمون الذي يصفه بأنه مثلج ولذيذ، احتسيت كأسا ثم سألته عن ما إذا كان ضرب مقهى أركانة القريب منه قد أثر على تجارته فأجاب بالنفي ثم أضاف: «لا أخفيك سرا إذا ما قلت لك بأن هذا الأسبوع بالنسبة لي جد عاد، صحيح توقفت ليوم واحد فقط بعد العمل الإرهابي الغاشم، لكن بعد ذلك كل الأشياء عادية باستثناء مشهد الخراب الذي شوه بناية المقهى والذي يصدمني كلما تأملت خلف عربتي..» تختلط الأصوات المرتفعة للهيئات التي جاءت لتستنكر الحادث الإجرامي الذي طال مقهى أركانة، بإيقاعات الساحة لتعطي للمكان مدلولا آخر.. بائعات الخبز، ومحلات البازارات والأزقة المؤدية من الساحة إلى سوق البهجة والسمارين يكتظ فيها الآدميون... الإقبال متواصل على معروضات هذه المحلات بشكل كبير.. كل اللغات حاضرة.. ما يدحض أن السياح فروا من مراكش.. إنهم هنا في الساحة، في الفنادق، في الأسواق العتيقة.. مراكش الآن كونية، تتحدث كل لغات العالم بل هي اليوم العالم كله.. هكذا أحسست وأنا أرى حشودا من السياح الأجانب في كل فضاءات الساحة وتلك التي تحيط بها. سحنات شهباء تمتزج بالسحنات السمراء لتشكل تضامنا إنسانيا يؤِمن بأن تواصل الشعوب لن توقفه الأيادي الوسخة الملطخة بالدماء.. راينا سائحات يشعلن الشمع في مكان الحادث، أخرون لم ينزعجوا من المنددين بما وقع، بل أخذوا يلتقطون الصور لهذا الحراك التضامني الذي انخرطت فيه كل فئات الشعب المغربي.. قال سائح أسترالي: « رائع هذا الشعب الذي من خلال كل هذا التضامن يبعث برسالة إنسانية أن المغرب بلد للأمن والتعايش والتسامح.» لو قيل لي هذا في ظرف عادي لقلت بأن هذه مجاملة تقتضيها لباقة الحوار، لكن أن يكون وضع الساحة ومراكش هذه الأيام استثنائيا ويأتي هذا الكلام بكل هذه الحمولة الإنسانية، فمعنى ذلك أن مراكش تحتل بالفعل مساحات شاسعة من الحب من كل شعوب العالم.. إذا تغيرت واجهة مقهى أركانة من خلال الخراب المطل على الساحة، والذي فرض نفسه بلا شك، فإن وظيفة الساحة لم تتغير وأصبحت الحلقات تروي قصة ما حصل بمختلف سيناريوهاتها وتنسج حكايات وحكايات، وتسخر بلمسة المراكشيين الممزوجة بالنكتة اللاذعة من أولئك المجرمين المسخرين من جهة ما لضرب شعب حضاري متشبع بقيم النبل والتسامح.. وها هو فعلهم يؤدي إلى عكس مبتغاهم والقلب النابض لمراكش يتنفس بكل الحيوية ..