لم تكن الحرارة الشديدة التي رمت بشواظها على مدينة مراكش لتمنع المراكشيين من متابعة الحدث السياسي المتميز، والمتمثل في الندوة التي نظمها المكتب الإقليمي للنقابة الوطنية للتجار و المهنيين بمراكش مساء الجمعة 15 أبريل في موضوع الإصلاحات الدستورية و السياسية : مقاربة اقتصادية واجتماعية.. عبد الله بن بوشتة الذي أبدع في تسيير أشغال الندوة أثلج صدور الحاضرين من خلال أسلوبه في الربط بين فقرات الندوة وهو المدرك لما يختلج صدور المغاربة في هذه اللحظة التاريخية المفصلية التي ستؤسس لبناء مغرب يحدوه الأمل في الانخراط في «نادي» الدول الديمقراطية.. الكاتب الإقليمي خالد زريكم الملتصق دائما بهموم التجار والحرفيين والمهنيين قال : «نريد أن تكون هذه اللحظة مرحلة انطلاقة حقيقية لبناء مغرب جديد، مغرب الحداثة والديمقراطية الحقيقية التي تعطي هذا الوطن صورة لائقة على المستوى الدولي وإقلاعا حقيقيا للتنمية والتطور». مضيفا أن «هذه المرحلة نريدها جميعا أن تكون قطيعة مع سيادة اقتصاد الريع ومختلف أنواع الزبونية والمحسوبية والامتيازات الخيالية وارتباط السياسة والشأن العام بالمال وسيادة الرشوة، هذه الظاهرة التي تعد من أشد أنواع الفساد خطورة».. وبعد ما تحدث عن الهدف من تنظيم هذه الندوة وعن الدور الفعال للتجار والمهنيين في النقاش الوطني حول الإصلاحات الدستورية والسياسية، أكد على ضرورة إجراءات استعجالية لتنقية وتصفية الأجواء حتى يكون الإصلاح والتغيير حقيقيا وفي المستوى المرغوب، بل يجب أن تكون هناك خريطة طريق واضحة للإصلاح المنشود. ودعا خالد زريكم إلى ضرورة تفعيل المتابعة القضائية في جميع ملفات الفساد المالي وخاصة تلك التي ضبطها المجلس الأعلى للحسابات من خلال ما شابها من خروقات مالية واختلاسات وسوء تدبير للمال العام الوطني والمحلي، وأعطى في هذا الشأن الكثير من أمثلة نهب المال العام بمدينة مراكش من طرف المتعاقبين على تسيير الشأن العام المحلي، مؤكدا اعتزاز النقابة بالحراك الذي يعرفه الشارع مساندا جملة وتفصيلا مطالب حركة شباب 20 فبراير والتي قال بأنها ردت الاعتبار للعمل السياسي.. أحمد أبوه الكاتب الوطني للنقابة الوطنية للتجار والمهنيين، بهدوئه المعهود، أكد أن منظمته التي خرجت من رحم الحركة الوطنية وترعرعت في المحيط التقدمي هاهي اليوم تنخرط في سياق التحولات السياسية التي يعرفها المغرب من خلال ورش الإصلاحات الدستورية والإرهاصات المواكبة لهذا الحدث، مذكرا بخطاب الملك ليوم 9 مارس معتبرا أن هذا الأمر يعد تحولا كبيرا في المسار السياسي للبلاد. وحيى أبوه حركة شباب ال20 فبراير مساندا كل مطالبها ومذكرا بأن النقابة الوطنية للتجار والمهنيين ساندت هذه الحركة منذ البداية وأصدرت بيانا في هذا الشأن. وبعدما تحدث عن مختلف الجوانب التي شكلت للنقابة أهمية خاصة في ما يتعلق بالإصلاحات، شدد على استقلالية القضاء باعتباره المحور الأساسي الذي تدور حوله كل الجوانب، مؤكدا على ضمان شروط فصل السلط الذي يعتبر أساس الاشتغال الديمقراطي لمؤسسة الدولة. وركز الكاتب الوطني للنقابة الوطنية للتجار والمهنيين على ضرورة تمتين وتقوية مؤسسة رئيس الحكومة لجعل المسؤولية مقرونة بالقابلية للمحاسبة. وتحدث نجيب أيت عبد المالك رئيس غرفة الصناعة التقليدية بمراكش وهو العارف بقضايا هذه الفئة، عن الدور الهام الذي تلعبه الغرف في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، داعيا إلى ضرورة توسيع صلاحياتها حتى يتأتى لها القيام بدورها الفعال خاصة في محاربة الهشاشة والفقر وسط المهنيين، ولتشارك بدينامية أكثر في التنمية المحلية والجهوية، مؤكدا أن الغرف تعمل على دعم المقاولات وتساهم في التكوين والتكوين المستمر كما تعمل على وضع الآليات المناسبة للتسويق.. مبرزا أن التحولات التي يقبل عليها المغرب في مجالات الإصلاحات السياسية والدستورية من شأنها أن تقوي من دور الغرف، وبالتالي تعزيز آليات التطور الاقتصادي محليا وجهويا ووطنيا. عبد العالي دومو البرلماني الاتحادي وبأسلوبه المبسط المتميز بالسهل الممتنع في إيصال الفكرة للحضور بمختلف مشاربهم ومواقعهم، ركز على ضرورة أن تسهر السلطات العمومية على التوزيع العادل لمداخيل الدولة و المجالس الجماعية بين الأفراد و بين المجالات الترابية بناء على معايير موضوعية مؤكدا على ضرورة التنصيص عليها في الدستور المرتقب . و أضاف في مداخلته المتميزة أن من بين التدقيقات التي هيأها الفريق البرلماني الاشتراكي بخصوص الإصلاحات الدستورية ، يوجد التنصيص على واجب الدولة في توفير الحماية الاجتماعية للمواطن و حماية الأسرة والطفل ، إلى جانب اقتراحات تتعلق بالشأن الاقتصادي المحض من مثل تعديل الفصل 50 بالشكل الذي يضمن إشراك البرلمان في وضع الميزانية و تمكينه من مراقبة تنفيذها، وكذا إعادة النظر في الفصل 51 ووضع القرارات المالية و الاقتصادية التي ترهن مستقبل البلاد ( الدين العمومي ) تحت رقابة البرلمان مع جعل تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلزامية بشكل أوتوماتيكي مع ضرورة عرضه أمام البرلمان ومناقشته . كما شدد عبد العالي دومو على ضرورة دسترة تقنين الامتيازات الاقتصادية وتحويل الملك العمومي مع إعادة النظر في الفصل 15 بالتنصيص على منع الاحتكار وضمان تكافؤ الفرص والمنافسة . واعتبر أن الإصلاح الدستوري لا يهم فقط الشأن السياسي وإنما يتعداه إلى الإشكال الاقتصادي و الاجتماعي ، موضحا أن رؤية الاتحاد الاشتراكي للإصلاح تقوم على أربعة جوانب يتعلق أولها بتوسيع مجال الحريات العامة ودسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بإخضاع الحكامة الأمنية لمعايير دستورية واضحة تتحكم فيها حكومة مسؤولة سياسيا وقضاء مستقل . وثانيها يتعلق بإعادة توزيع السلط بين المؤسسات من خلال ملكية برلمانية يحتفظ فيها الملك بدوره كضامن للوحدة و كأمير للمؤمنين لأن الملكية تقوم اليوم بدور تقدمي في هذا المجال. وماعدا ذلك فللحكومة مسؤولية تامة في الجوانب التنفيذية لكي تكون قابلة للمحاسبة وكذلك الأمر بالنسبة للبرلمان الذي ينبغي أن يتحمل مسؤوليته في التشريع والمراقبة. وثالثها يتعلق باستقلال القضاء من خلال النزاهة والعدل وعبر إعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء وتمثيل الجمعيات الحقوقية فيه وتمتين وتقوية المجلس الدستوري . ورابعها يهم الحكامة الترابية التي لها وقع مباشر على المواطن محليا. وأشار إلى مقترحات اللجنة الملكية في ما يخص تنظيم الجهات المتمثلة في اعتبار رئيس المجلس الجهوي وهو الآمر بالصرف وليس الوالي و هي النقطة التي تختلف فيها رؤية الاتحاد مع مقترح اللجنة لأن الميزانية الأهم تباشرها المصالح الخارجية للدولة التي لا تخضع لمراقبة المجالس الجهوية . وهكذا فاقتراح اللجنة الملكية لم يكن في مستوى الانتظارات لأنه يحافظ على الازدواجية المؤسساتية في نموذجها الفرنسي . و أوضح أن مقترح الاتحاد في هذا الباب يقوم على تجاوز هذه الازدواجية وبناء جهات على أساس الوحدة المؤسساتية . وشدد دومو على أهمية اليقظة المدنية في جعل الإصلاحات المرتقبة تحقق ما هو مأمول منها لأنه في نهاية المطاف، فموازين القوة هي التي ستحدد سقف هذه الإصلاح.. الدكتور إدريس لكريني بعمق تحليلاته الأكاديمية المنفتحة على المجتمع، أكد أن احتجاجات يوم 20 فبراير 2011 أفرزت مجموعة من الأسئلة في علاقتها بمدى جدّية الإصلاحات المختلفة التي باشرها المغرب في السنوات الأخيرة؛ ومدى فعاليتها وأهميتها في توفير شروط وأسس تدعم الانتقال الديمقراطي الذي بشَّرت به الدولة منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي، في ظل وجود مجموعة من مظاهر الاستهتار بالقانون؛ وانتشار الفساد بكل أشكاله واستمرار نهب الأموال العمومية؛ وفي ظل حكومة لا تتحكم في الشأن التنفيذي وبرلمان بصلاحيات محدودة؛ وفي ظل تأزم وضع قطاعات الصحة والقضاء والتعليم والسكن.. واعتبر الدكتور لكريني أن هذه الاحتجاجات تُسائل الأحزاب التي تعرف في غالبيتها مجموعة من الاختلالات بفعل حضورها الباهت في حياة المجتمع، وتحولها من مؤسسات تمثيلية للتأطير السياسي والتنشئة الاجتماعية وبلورة المطالب؛ إلى قنوات مغلقة تغيب فيها مظاهر الشفافية والممارسة الديمقراطية؛ وتنتج نخبا لا تستحضر سوى مصالحها وتبرر الخطابات الرائجة.. وقال الأستاذ المحاضر بأن ذلك يؤكده تفشّي ظاهرة التّرحال في البرلمان من حزب لآخر بصورة مستفزّة لإرادة المواطن/ الناخب ومسيئة لعمل هذه الأحزاب التي لم تعد قادرة على إنتاج نخب ملتزمة ومؤمنة ببرامجها وأفكارها؛ ومستعدة للتضحية في سبيل مبادئها وأهدافها في مواجهة كل إغراء. وأضاف إدريس لكريني وهو يحلل واقع الممارسة السياسية بأن بعض الأحزاب تؤكد عدم قدرتها على تحديث وتطوير بنائها ووظائفها الاجتماعية والسياسية؛ وعدم استحضار الكفاءة والموضوعية في تزكية المرشحين؛ والرغبة في الفوز بأكبر عدد من المقاعد بكل الطرق والوسائل، علاوة عن عدم تجدد نخبها وعدم انفتاحها بشكل كاف على النساء والشباب. وهو ما يجعلها تتهافت على استقطاب الأعيان خلال الانتخابات؛ وهو الأمر الذي كرّس رتابة وأزمة المشهد السياسي والحزبي وأسهم في عزوف فئات عريضة من المجتمع وعلى رأسها الشباب عن الشأن السياسي. الدكتور لكريني لم يستثن النقابات حيث أكد أن هذه الاحتجاجات تُسائل النقابات أيضا؛ حيث شهد المغرب في السنوات الأخيرة تنظيم مجموعة من الاحتجاجات والمظاهرات؛ غلب عليها الطابع التلقائي وتمت بشكل فردي وجماعي؛ ولم تخضع في غالبيتها لتأطير نقابي؛ بصورة تعكس تنامي المعضلة الاجتماعية؛ وتبرز أن الخطوات الملحوظة التي قطعها المغرب على مستوى توسيع هامش الحريات والحقوق السياسية والثقافية؛ لم يوازها نفس التطور على مستوى تعزيز الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالسكن والصحة والشغل والتعليم وتعزيز القدرة الشرائية.. من جهة؛ وتعكس ضعف القنوات الوسيطة وارتباكها في تمثيل وتأطير المواطنين ومعانقة قضاياهم وهمومهم اليومية من جهة أخرى. وتطرق الدكتور لكريني في عرضه القيم إلى الإعلام الرسمي غير المنفتح على نبض المجتمع ، مبرزا أن هذه الاحتجاجات تسائله أيضا مثلما تسائل صمت النخب. وقال أستاذ الحياة السياسية بجامعة القاضي عياض بأن الدولة بدأت في التعاطي بوتيرة غير معهودة وغير مسبقة مع بعض الملفات الاجتماعية؛ في خضمّ التطورات التي فرضها المحيط الإقليمي المتغير والحراك الداخلي كما أن خطاب الملك بتاريخ 9 مارس 2011؛ أعطى إشارات إيجابية بصدد مجموعة من المطالب المطروحة.. مبرزا أنه أمر جيد أن يلتقط صانعو القرار رسائل الجماهير ويبادروا إلى اتخاذ إجراءات ومبادرات إصلاحية استباقية قبل فوات الأوان.. غير أن الاستاذ المحاضر استطرد ليقول بأن الإصلاح الدستوري المنتظر وعلى أهميته؛ يظل بحاجة ماسة إلى تعزيزه بشروط الثقة التي تعيد الامل للمواطنين وتنبئ بوجود إرادة حقيقية في الإصلاح والتغيير؛ ذلك أن الممارسة تبرز بأن المقاربة القانونية والمؤسساتية لوحدها تظل غير كافية؛ ما لم تعزز بتدابير وإجراءات مستعجلة وذات أولوية من قبيل الصرامة مع مظاهر الفساد الذي أصبح مستشريا وتجاوز الوضعية السيئة للإعلام الرسمي.. وخلص الدكتور الكريني في ختام مداخلته الى أن الإصلاح الدستوري المرتقب ينبغي أن يدعّم بمبادرات سياسية تتجاوز تدبير المرحلة؛ وهذا لن يتأتى إلا من خلال انخراط كل مكونات المجتمع وإعادة الاعتبار لعمل الأحزاب السياسية التي ظهرت في خضم هذه التحولات وكأنها خارج السياق، وتوفير الشروط الأساسية والملائمة التي تكفل العيش الكريم للمواطن (السكن، الصحة، التعليم، الشغل..) ونهج الشفافية والوضوح على مستوى وضع السياسات العامة للدولة وتنفيذها، ومعاقبة الفساد بكل أشكاله؛ ودعم استقلالية القضاء، واعتماد معايير انتخابية مؤسسة على الكفاءة والمحاسبة والمصداقية، ومحاطة بضمانات سياسية وإدارية وقانونية وميدانية..، تكفل احترام إرادة المواطنين واختياراتهم.. النقاش كان عميقا وطرحت فيه الكثير من التساؤلات الكبيرة حول التفاصيل الصغيرة والذي صيغ على شكل توصيات لهذه الندوة نورد اهم ما جاء فيها: ضرورة تغيير الفصل 51 من دستور المملكة، قصد محاربة الاختلالات التنموية و تعميم الحقوق الاقتصادية على عموم التراب الوطني. ضرورة تأطير المبادرة الحرة وحرية الاقتصاد والمنافسة بالقانون، درءا للاحتكار وحماية التجار والمهنيين. أجرأة و دَمَقْرَطَة الفصل 15 من الدستور ، وعدم حجز القطاعات الاقتصادية لفائدة فئة معينة. التنصيص على دسترة العلاج و احترام حق كل المغاربة في الحياة و الكرامة وحماية العدالة وحقوق الأسرة. مناهضة كل مسلكيات التي ينتج عنها اقتصاد الريع، والعمل على إقرار مبدأ توزيع الثروات ومحاربة منطق الامتيازات وجيوب مقاومة الإصلاح. التغلب على كل أشكال الاختلالات التدبيرية و المالية، و التفاوتات التنموية من حيث الاعتمادات المخصصة من طرف الدولة للمؤسسات، مع إخضاع المسئولين الإداريين و التدبيريين للمسائلة السياسية. القطع مع أساليب التعامل بمنطق النوايا اتجاه الميزانية العامة للدولة و الميزانيات الفرعية المخصصة لكل قطاع. إقرار الرقابة القانونية، ودسترتها تجاه المجلس الأعلى للحسابات، و مناهضة سلوك الإفلات من العقاب. دسترة نزاهة القضاء وتفعيل مراقبته من طرف المجلس الدستوري، باشراك ممثلي الهيئات الحقوقية، وتقوية المجلس الأعلى للقضاء من خلال توسيع صلاحياته - توسيع مجال الحريات العامة قصد الوصول إلى الحكامة الأمنية . الزامية تفعيل تقارير المجلس الأعلى للحسابات و مناقشتها بالبرلمان كي تترتب عليها العقوبات و الجزاءات في ما يخص نهب المال العام.