«عزلة صاخبة داخل ألبوم»* رواية كتبت برهافة حس، وبإنصات عميق للذات وللعالم، ربما لأنها اختارت تيمات مجاورة للحزن، للموت، للعزلة، للطفولة، للذكرى..وضجت في نفس الوقت بعالم صاخب مسكون بثرثرة الكتب وضجة المواقع الاجتماعية على الشبكة العنكبوتية وزحمة الحياة. وأجد أنها رواية كتبت بتخَفُّف كبير من قيود نمذجة الرواية، فهي كتابة حرة تقدم عالما شاسعا بانتقائية جمالية وبكثافة سردية ذكية اعتمادا على تطوير فكرة فريدة من نوعها تتعلق بتقديم رواية داخل ألبوم، ومساءلة عالم الصور. ويحضرني هنا قول الكاتب عبد الحميد الغرباوي «..أكاد، في مواجهة العالم، أشبه كائنا صغيرا في حجم حبة عدس، و لأن صور العالم لا تتسع لها حدقتا عيني، و تتجاوز مساحة الإبصار لدي فإني أقضم منه قضمات في توجس و حذر، قضمات لا أمضغها و أبلعها بل أكتفي بلفظها أمامي على الطاولة أتأملها برهة قبل الشروع في الكتابة عنها..»1 وأجد اليوم هذا القول دقيقا في التعبير عن الرؤية التي ينطلق منها الكاتب مقرا بشساعة العالم واستحالة القبض عليه، فالكتابة الشمولية الروائية التي تقدم عوالم بمداخل ومخارج محددة تقع في شرك الادعاء الفاضح المغرور لقوة الإبداع على امتلاك العالم، في حين أن ما تقدمه الرواية هنا هو صور لأثر الخطوات لا الطريق نفسها، انعكاس لبريق النجوم لا النجوم نفسها، ذاك الشعور بقطرات المطر تبللك لا السماء كلها. وعليه فإن الصور على « اعتبار أنها مصغرات للواقع يمكن لأي شخص أن يصنعها أو يكتسبها»2 ستكون مناسبة لتأثيث هذا العالم الروائي. ويهمني هنا الإشارة إلى ملاحظات سريعة أجملها فيما يلي: التصوير فن رثائي: جل الصور التي يستعرضها السارد شكلت فرصة لاستجلاب الحنين «صور فوتوغرافية تحرضنا بعزم على الحنين»3 وتؤكد كل صورة أكثر من الأخرى أن «التصوير هو فن رثائي»4 وكلما برع السارد في لف خيوط السرد وحبك الشخوص موضوع الصور كلما كان التأثير بليغا وقويا وأبان حقيقة أن التقاط صورة ما هو إلا « مساهمة في فناء شخص (أو شيء) آخر في سرعة تأثره، وفي قابليته للتحول»5 الصور لا يفترض أن تكون مضغوطة ومكثفة حاملة لموضوع رثاء أو ذكرى فحسب، فهي في كثير من المرات في ألبوم الرواية تحضر لإيقاظ الرغبة والوعي، كذريعة لمناقشة موضوع يفيض إنسانية أو ينبذ الكراهية والتطرف والحروب. الذاكرة والصورة: عادة تكون الذاكرة في المتون السردية المألوفة خزانا سرديا لا ينبض، وقد تم الاشتغال على الذاكرة في السرد الروائي إلى درجة أن أشكال استرجاعها والاشتغال عليها استنزفت إلى حد كبير، ومع ذلك لا زالت هناك اختيارات تضع القارئ في صلب إشكاليات جديدة وفريدة، لا سيما حين تصبح الصورة محفزة للذاكرة ومحرضة على السرد. على خلاف المألوف في السرد السائد: « إننا نفكر في الذاكرة أو بالأحرى في فعل التذكر بهذا الأسلوب إذ أننا عندما نتذكر شيئا ما؛ فإننا نستدعي الصورة المادية للشيء، وندرك هذه الصورة المتذكرة بوصفها حضورا للشيء نفسه الذي سبق وقد رأيناه ذات مرة، أو حدث لنا خبرة به»6 سنجد في سردية النص نزوعا نحو تذكر لحظات متعددة، تشحن اللحظة الثابتة التي تسجلها الصورة الواحدة، نحو تأكيد واضح على سيرورة ودينامية الذكرى لأن « تذكر لحظات متعددة ضروري لتكوين ذكرى كاملة»7 الخيال والصورة: الخيال حسب باشلار يهب معنى للعالم « ننفتح بنوع ما على العالم خلال تجاوز العالم المرئي الذي يكون، والذي قد كان سابقا على حلمنا به»8 إن السرد في الرواية يقدم تعويضا للصور المقترحة في ثناياها وذلك بكونه مادة تخييلية فهو يسيج الصور، خاصة وأن الخيال في الرواية يتغلغل كعلامة عميقة تلتصق بصيرورة نفسية السارد والشخوص: «الخيال، أكثر من الإرادة، وأكثر من الدفعة الحيوية، هو قوة الإنتاج النفسي ذاتها»9 يتساءل جاستون باشلار: « ما الذي نستطيع معرفته عن الآخر إن لم نتخيله؟ وأي لفحات سيكلوجية رقيقة لا نحسها حين نقرأ روائيا يبدع إنسانا»10 هي إذن دعوة لاستنهاض الصور وبعثها وجعلها مبررا لتنشيط ذاكرة مطمورة، وإن شئنا الدقة «الصورة الأدبية تدمر الصورة الكسولة للإدراك الحسي، فالخيال لا يعيد الإنتاج، إنما يعيد الإبداع والتخييل من جديد»11 وبذلك تقوم الصورة الأدبية على أنقاض صورة فوتوغرافية. المرئي واللامرئي: تضع رواية «عزلة صاخبة داخل ألبوم» قارئها في صلب هذه الإشكالية على مستوى الإبداع وعلى مستوى التلقي، فالرواية بوصفها محفل صاخب بالصور، تضع القارئ أمام معادلة الحضور والغياب: «الصور الفوتوغرافية هي حضور زائف ورمز للغياب»(ص03) وليس اعتباطا أن يقابل ذلك على المستوى التيمي في الرواية ثنائية الحياة والموت. إنها لعبة سردية تعي جماليات الفراغ والامتلاء، الجوع والإشباع، الإدمان والحرمان. ولعل ما يؤطر هذه الرؤية الجمالية هو استنادها على حوامل بصرية بعضها متبث داخل الكتاب تحت عنوان (ملحقات)_صور من خارج الألبوم_ (ص115)والباقي صور مقدمة عن طريق الوصف والسرد، ويبدو أن السرد عمل ببراعة على بعث الروح في العالم المرئي على اعتبار أن» ما ينقص تلك الأشياء التي يقدمها لنا المصور، هي الروح»12. هكذا يسير العالم المرئي في الرواية بموازاة مع عالم لا مرئي من منطلق أن « التصوير شعر يرى ولا يسمع، والشعر تصوير يسمع ولا يرى»13 وقد أفرد الفنان العالمي ليونارد دافنشي فصلا مثيرا ومفصلا في كتابه «نظرية التصوير» عن المقارنة والمفاضلة بين المصور والمكتوب والمسموع، ورغم أنه انتصر للمصور أي المرئي فإنه لم ينف أن الشعر أي الكلمات تتفوق على التصوير في مجال الإيحاء، وهذه الجزئية هي مفصل أساسي في مقاربة هذا العمل الروائي لأنه وإن كان ينهل من العالم المرئي فإنه كتب بلغة مرهفة بعيدة عن التقريرية وأقرب إلى الإيحاء الشعري. هكذا فإن قراءة هذا العمل تقودنا في كل مرة إلى ضرورة اقتران الذاكرة بالتخييل وتخصيب المرئي بالشعري، وأعتبر أن تطوير ذائقة القراءة رهين بتجاوز ما سماه جاستون باشلار «الذاكرة الحافظة» والانتقال إلى ما اصطلح عليه « الذاكرة الشعرية»14، لأننا لا يجب أن نفكر في الأدب كحاجة فقط بل كرغبة « الإنسان هو إبداع الرغبة، وليس إبداع الحاجة»15 *عزلة صاخبة داخل ألبوم. عبد الحميد الغرباوي.رواية. الطبعة الأولى2015. منشورات ديهيا. هوامش: من حوار قصير يحمل عنوان عين على القصة- الحلقة الأولى. أجريته مع الكاتب عبد الحميد الغرباوي سنة 2010 بجريدة عيون الجنوب. حول الفوتوغراف. سوزان سونتاغ. ترجمة عباس المفرجي. دار المدى. الطبعة الأولى 2013. ص11 حول الفوتوغراف. ص23 حول الفوتوغراف. ص23 حول الفوتوغراف. ص24 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. د. غادة الإمام. دار التنوير. الطبعة الأولى 2010 ص276-ص277 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص277 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص224 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص225 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص225 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص236 نظرية التصوير. ليوناردو دافنشي. ترجمة وتقديم عادل السيوى. مكتبة الأسرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. طبعة 2005. ص53 نظرية التصوير. ص59 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص279 جماليات الصورة/ جاستون باشلار. ص238