* في شهادة للروائي جون فولز حول حافزه الأول للكتابة يذهب إلى أنه يكون في (نوع من الاحتشاد الكثيف)، وهو يعني بذلك "التحفز المستمر لالتقاط الأحداث" (1)، هذا التحفز – إذا صحّت ملازمته للروائيين جميعا - يُفترض أن يصير مضاعفا في الروايات التسجيلية والإحالية وفي كتابة ذاكرة المدن؛ ذلك أن الاحتشاد الكثيف فيها يشمل في الآن نفسه الراهن والماضي، ويشمل الطبقات الاجتماعية والحياة الخاصة لأفرادها، ويشمل التحولات المختلفة للحيز والشخصية والأفكار والأزمنة، كما يشمل أيضا اتصال هذه المكونات ببعضها في اللحظة الآنية. وإذا صحّ هذا الافتراض فإن اختلاف التقاط كاتب رواية عن التقاط كاتب قصة قصيرة جدا هو اختلاف في شمولية العلاقات بين المكونات السردية وللتفاصيل لدى الروائي مقابل الالتقاط الوامض للمفارقات وللغرابة وللمشهد الواحد المجتزأ لدى كاتب القصة القصيرة جدا. وهي مسألة لا فضل فيها لأحدهما عن الآخر إلا بمقدار التفوق في تحويل "الاحتشاد" إلى مادة فنية. فإذا قيّض لكاتب أن ينتقل بين الجنسين مثلا، فهل تترسب مورّثات اشتغال الجنس السابق في اللاحق؟ ، أم أن ثمة ملمحا عامّا للكتابة السردية أساسه أن للأجناس الأدبية قوالب ملقاة على الطريق -مثل المواضيع تماما- يصب فيها الكاتب الروايةَ أو القصة أو الشذرة كيفما يشاء؟. ما أثار هذا السؤال في الحقيقة هو الرواية الأخيرة للكاتب حميد ركاطة "مذكرات أعمى" (2) وهي عمل جاء بعد مجموعتين في القصة القصيرة جدا، وكتابين نقديين عن الجنس نفسه. الرواية تتشكل من مقاطع قصيرة وأحيانا قصيرة جدا، مرتبة من 0 إلى 99 ، وللقارئ أن يبدأ من حيث شاء، ويرتبها كيفما شاء. وهذا تعاقد فني معلن في الرواية حين : "استخرج الطبيب الأوراق، وطفق يقرأ العنوان بتلذذ: مذكرات أعمى"، سألته: • لماذا رقمتها من الصفر؟ • لست أدري، ربما هذه النصوص مرتبة اعتباطيا في قراءتها من الصفر، وسيكون لزاما على صاحبك الانطلاق من صفره الخاص" (ص 69) وابتداء من المقطع الثالث ستبدأ العناوين إلى جانب الأرقام، وسيكون أول عنوان هو "نص". وقبل هذا نقرأ في المقدمة أن (ذلك السفر المشوب بالمغامرة هو ما يمنح الرغبة في كتابة رواية). هذه الإضاءات، هي إشارات طريق لدخول عالم روائي مؤسس على المغامرة من جهة، أي التجريب واجتراح اشتغال سردي جديد يرتكز على خليط من الأجناس، ومؤسّس على حسابات دقيقة وصارمة –من جهة ثانية- هي حسابات كاتب منخرط في الإبداع وفي النقد معا، أي أننا أمام نص لكاتب نفترض أنه عارف بألاعيب الممارسة اللغوية والإبداعية، ومن جهة ثالثة فنحن أمام عالَم روائي شذري ومتشظٍ مبني بمقاطع مستقلة عن بعضها، وكل مقطع – في الغالب - يشكل وحدة سردية كاملة في بنائها وفي مادتها الحكائية.. فهل هي حقا رواية؟ أم أنها نص عابر للأجناس يؤسس اشتغاله على القصة، والأسطورة، والسيرة، والتأريخ.. وغيرها بأقساط متساوية؟ أم أنها متوالية سردية بنصوص قصصية مستقلة تربطها الفضاءات والشخوص فقط..؟ ثم أليست المذكرات جنسا خالصا لا يحتاج لتوجيه طباعي يحدد أن الكتاب "رواية"؟ وهل نثق في كاتبٍ رأسماله التخييل المطلق والإيهام بالواقع؟ بل ألم يقل الكاتب نفسه في المقدمة "لما خرجتُ بهذا الأعمى للوجود، بشّرتُ بجنوني"؟ فهل يركن أحدنا بيقين إلى هذا الجنون ويصدّقه؟ ألم تتساءل الشخصيات نفسها: - هل ما يتضمنه الملف رواية؟ - قد تكون كذلك وقد تكون شيئا آخر، عليك التنقيب بين هذه القصاصات لتتأكد بنفسك" (ص 69). وأيا كان تصنيف هذا العمل، فالأكيد أنه دائرة متشابكة من القلق ومن الأسئلة تُغري بخوضها والإنصات لحركاتها، يدخلها القارئ ببراءة، يتتبع خطو ذلك الأعمى فيتعاطف مرة، ويفرح أخرى أو يحزن، ويتفاعل ثالثة، لكنه فجأة سيجد نفسه منخرطا ليس فقط في إنتاج الدلالة والتأويل وفك الرموز، ولكن أيضا في محاورة الكاتب وإنتاج مسارات أخرى للحكاية، ليصير في النهاية هو صاحبها المتورط مع الكاتب اللصيق به الذي قد همس له: "لن أتركك تضيق بك حواشي القلب ولن أدع قصصك تختنق في جيوبك". في النص: "ليس بأعمى؟ كيف؟ ونحن طوال فصول هذه الرواية نعتمد عكس هذا الطرح. هذا أمر غير مقبول" و "الصندوق لن يسع سوى حكايتي، كما أنني أعمى وهو كان يبصر.." فهذا الإرباك من جهة، والتشظي من جهة ثانية، وتعدد المداخل وتعدد الأجناس من جهة ثالثة، هي في العامّ معادِلات روائية لعالم نعيشه، حيث اللايقين، وحيث التحولات المتسارعة، وحيث الضعف الموغل. وسيختار الكاتب مدينة خنيفرة وفضاءاتها وذاكرتها وشخوصها ليطل عبرها جميعا على عالم الهامش وتفاصيل الهشاشة من جهة، وعلى عالم الأقنعة والتعدد والنفي من جهة ثانية. ورغم أن الكاتب يُهدي العمل لهذه المدينة، ويعلن أن هذا العمل نصوص للسفر نحو "كل الأزمنة التي وشمت جسد هذه الهيفاء (خنيفرة)"، فإنه ستلزمنا نحن مسيرة 75 صفحة لنصادف (خنيفرة) لأول مرّة، أي حتى النص رقم 48 (بعد قراءة قرابة نصف النصوص)، ومع ذلك فسنجدها في تفاصيل سردية للأمكنة –حين ننهي العمل- وهي تصير المدينة الهوية، والمدينة الذاكرة، والمدينة الأسطورة: حيث الانتماء لثقافة واضحة بمعالم واضحة لها بصمتها في الناس وأفكارهم وفي تحولات الشخوص واختياراتهم، وحيث الحنين لما كان من تفاصيل المعمار والجمال والأعلام والساحات وأنشطتها، وحيث تتحوّل الهوية والذاكرة في تعمقهما إلى تصور المفترض الأسطوري للكاتب وللسارد الأعمى معا وتشكّل المدينة فيهما كفضاء مكاني وكزمن أيضا. وإذا كان المكان في الرواية مرجعيا وحقيقيا، فإنه تمّ التعامل مع تقطيعه بشكل واقعي، وبالتالي بعيدا عن "المشهد المضاعَف" حيث الحدث هنا وهناك، أو حيث الانتقال في الوقت نفسه إلى أكثر من مكانٍ وسردِ ما يحدث في الآن ذاته، وبالمقابل فالزمن سيصير ملتبسا، ضبابيا، ومونتاجه مُربك، وكمثال، فالشخصيات مرارا تتحدث عن الرواية ذاتها "مذكرات أعمى"، وتقرؤها، وتنقلها من يد ليد، فتصير منّا، ومعنا، وربما تالية لنا في زمن لاحق، كما لو أن زمن القراءة سابق لزمن الحدث، وما لو أن زمن طبع الكتاب نفسه سابق لزمن تشكّل حكايته في دوامة مُقلقة يسميها الحبيب الدايم ربي "الذاكرة المقلوبة" (3) ومنها تذكّر ما لم يأتِ وقته، وتوصيلُه بصيغة الماضي. وهذا الربط بين الأزمنة هو في نظري خلاصة البناء الفني للعمل ككل، وعليه ترتكز المكونات السردية الأخرى، وليس اختيار الحلقة وصاحبها - (وهي من الذاكرة الشفهية العابرة) لتوثيقها، مع الإصرار على التفاصيل التي صارت مهددة بالانسحاب، كأسماء فنانين، وأزقة، ومجانين، وبائعي السندويتش.. وغيرها- ليس هذا الاختيار غير تشبث بما اعتبره الكاتب مناطق مضيئة سعى لحضورها في الأزمنة كلها غيرةً وحبًّا، وتوثيقا للزمنين معا. قال في رسالة "ميروش" إلى الأعمى: "نخبرك أن دار العسكري تحولت لرومبوان، والبلدية القديمة "قشلةً للبومبية"، وهْري عمور اختفت ملامحه.. ولا نعرف عنه شيئا" (ص 208). إنه يجعل من زمن الحكي نقطة تموضُع يطل منها القارئ على التحولات، وربما يصير زمن الحكي هذا تاريخا يُروى فقط في زمن لاحق من أزمنة تلقي النص وتحولات الأمكنة وهندستها التي لا تثبت أبدا، لذا فإن اختيار الأعمى ساردا لتفاصيل المدينة وأماكنها وذاكرتها ومنتقلا من السبعينيات إلى بداية التسعينات، مع إيقاظ لعدد من الشخصيات والأعلام والساحات، هو في الحقيقة "إحياء" داخل ظُلمة العمى، فهو اشتغال غير بصري، كما لو أنه اتصال أعمق بالمدينة وأبعد من الحسي والمرئي. ولعل اختيار صورة الغلاف الأولى من أعمال الفوتوغرافي الخنيفري "سعيد طعشي"، إلى جانب الارتكاز على العتمة ( ممثّلا في العمى) والضوء (ممثَّلا في الحكاية)، إضافة إلى الالتقاط السريع القصير (مثل الرافال) هو احتفاء بالتصوير كجمال وكتوثيق وكتذكّر ، وهو احتفاء بفن يستند إلى الحسي والمرئي نفسيهما. غير أن تشبّث الكاتب بومضات الضوء المتناثرة - تلك - في خيال الأعمى ورسمِها في نصوص وامضة قصيرة متناثرة هو سعي لجعل كل قصاصةٍ صورةً فوتوغرافية ترصد المدينة بعين المصوِّر التي لا تشاهد شيئا غير الموضوع كما لو أنها في عمى، ليس باعتباره سوادا وضياعا، ولكن باعتباره غوصا في الالتقاط وسعيا للصفاء وللجمال. لهذا فاختيار الكاتب للأعمى كقطب مهيمن في السرد وفي الأحداث لم يكن غير اختيار للإضاءة بواسطة العتمة، واختيار العمى هو انتصار للصفاء، والبياض، والعمق؛ وليس اختياره كذلك للمذكرات اختيارا للاشتغال على الذاكرة والحفر فيها ، ولكنه تتبّع للترسب الثخين في القلب ورسم ممتد للمدينة في التخييل وفي الحكاية، وبالتالي التقاط –ليس لنبض المدينة وناسها، ولكن للأجمل الذي يومض في الخيال . قال الأعمى: "كيف أتذكرها وأنا لم أرها قط.. لقد أحسست بها فقط، وصورتها في خيالي ستظل أجمل منك" (ص 199). (1) الفكرة الأصلية في الرواية المعاصرة- وليد أبو بكر- مجلة الكرمل- العدد 79- ربيع 2004 (2) مذكرات أعمى، حميد ركاطة، منشورات ديهيا وجمعية الأنصار للثقافة- ط 1- 2015 (3) الذاكرة المقلوبة، استشراف المتخيل السردي، الحبيب الدايم ربي- ضمن ندوة المهرجان العربي للقصة القصيرة بالصويرة، 2015 . * ناقد من المغرب.