هذا كتاب سجن بامتياز، أو لنقل إنه سِفر سجن وثائقي بامتياز.فهو كتاب كثيف في حجمه (332 صفحة من القطع المتوسط). كثيف بوقائعه وفواجعه، كثيف بمعاناته ومكابدته، بصموده وجلده، وكثيف أيضا بحرارة لغته وتوهج عبارته. إنه سِفر يسجل بأمانة وشفافية وسخرية مرة، عذابات وتباريح ليل الأسر الغاشم، ويؤرخ أو يوثق لمرحلة قاسية وعاتية من تاريخ المغرب المعاصر، تنداح على امتداد السبعينيات من القرن الفارط، مرحلة مظلمة وظالمة بكل الحمولة الدلالية والجناسية لكلمتي الظلام والظلم. هذا كتاب سجن بامتياز، أو لنقل إنه سِفر سجن وثائقي بامتياز.فهو كتاب كثيف في حجمه (332 صفحة من القطع المتوسط). كثيف بوقائعه وفواجعه، كثيف بمعاناته ومكابدته، بصموده وجلده، وكثيف أيضا بحرارة لغته وتوهج عبارته. إنه سِفر يسجل بأمانة وشفافية وسخرية مرة، عذابات وتباريح ليل الأسر الغاشم، ويؤرخ أو يوثق لمرحلة قاسية وعاتية من تاريخ المغرب المعاصر، تنداح على امتداد السبعينيات من القرن الفارط، مرحلة مظلمة وظالمة بكل الحمولة الدلالية والجناسية لكلمتي الظلام والظلم. مرحلة زجت بالمغرب في أفق «هاديسي» حالك، واقتنصت بسادية ضارية خيرة وخميرة شباب ورموز الأمة..لا ذنب ولا جرم لهم سوى الدفاع عن كرامة هذه الأمة وحقها في العيش والحرية والمساواة. ومنذ البدء يضع الكاتب في أيدينا مفتاح الدخول. يقول في المقدمة: [ هذا الكتاب شهادة صادقة على فترة عصيبة من تاريخ المغرب، عرفت بسنوات الرصاص، حيث واجه الشعب وقواه الحية الاستبداد والظلم والقهر. ونتيجة لهذه المواجهة الغير المتكافئة، امتلأت السجون بمئات المعتقلين، واستقبلت المنافي العديد من المناضلين]. السجن إذن، هو فضاء وهاجس هذا الكتاب. السجن هو مؤلف هذا الكتاب. والكاتب يؤرخ ويوثق هنا للمصير التراجيدي الذي تعرض له اليسار الجديد ممثلا في فصيله (إلى الأمام) و(23 مارس)، لكنه على وجه التحديد يؤرخ ويوثق للفصيل الذي كان ينتمي إليه وينشط داخله وهو (النقابة الوطنية للتلاميذ)، التي عرفت لدى جلادي السلطة بمجموعة 36/42 أو مجموعة (بوغابة ومن معه). والكاتب على حق حين يقول: [ وإذا كانت الكتابات المتعلقة بهذه الفترة العصيبة نادرة، فإن الحديث والتعريف بمجموعة 36 منعدمان تماما]. ذلك أن جل الكتابات الأدبية-السجنية التي قاربت هذه الفترة العصيبة، تدور في فلك التنظيمين المعروفين والرئيسين (إلى الأمام) و(23 مارس)، وأفكر هنا بخاصة في كتابات كل من عبد القادر الشاوي وعبد اللطيف اللعبي وصلاح الوديع وجواد مديدش وبويوسف الركاب والأمين مشبال.. أما تنظيم (النقابة الوطنية للتلاميذ) فلم يقيض له قلم يميط عنه النقاب، في حدود علمي، سوى قلم الطاهر محفوظي. وحسنا فعل هذا الطاهر، فمن خلال حديثه عن فصيله التنظيمي، أدخلنا في متاه مرحلة كاملة، بعجرها وبجرها. أدخلنا في ليل حكي عجيب وغريب. فأي ليل هذا إذن في (أفول الليل)؟!يبدو واضحا للعيان، ومنذ طلة العنوان، أنه ليل رصاصي أليل. ليل ولا ليل امرئ القيس المأثور:وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي وما أشده بلاء وابتلاء. ليل مغربي مشحون بالويل. وفي أمثال العرب (الليل أخفى للويل). لذلك عمدت قوى القمع الظلامية إلى «السرية الممنهجة» في الاعتقال والتعذيب وتمشيط البلاد من عصاة العباد، وذلك في مقابل «السرية النضالية» التي مارسها الرفاق أيضا تحت جنح الظلام، نظرا لشراسة النظام ودهاقنته. لكن ليس هذا الليل الأليل وحده، ما يعطي هذا الكتاب/السفر أهميته وقوته، فهو هاجسه وشجنه وجرحه الراعف، بل أيضا وأساسا طريقته وصنعته في لملمة خيوط هذا الليل ونسجها كتابة وإبداعا. بما يعني أن الليل هنا، بقدر ما يؤرخ ويوثق وينشر حبل غسيله على الناس، يعاد خلقه وإبداعه بواسطة الكتابة التي تجسد هنا أيضا تحديثا ونقيضا ونفيا لليل السجن. والكتاب مصوغ في شكل (يوميات) كما يشف عن ذلك العنوان المحايث (يوميات من سنوات الرصاص). ويبلغ تعداد هذه اليوميات النصية المعنونة 136 يومية، مع إغفال ذكر التواريخ والاقتصار فحسب على العناوين، حسب سياقات هذه اليوميات. وهي سياقات متداخلة ومتقاطعة تتحرك في دوامة مكوكية ذهابا وإيابا مدا وجزرا. وهذا ما يحيد بهذه اليوميات عن طقوس اليوميات والمذكرات ويجعلها، في رأي، أقرب ما تكون إلى «المحكيات» و«الصور القصصية» التي يرقى بعضها إلى مستوى رفيع من القص القصير. لذلك أخالف الكاتب، وأرى أن مصطلح «محكيات من سنوات الرصاص»، أبلغ في الدلالة على مضمون الكتاب وشكله من مصطلح «يوميات من سنوات الرصاص». والحق أن كتاب (أفول الليل) يطرح في المحصلة، إشكالا على مستوى التصنيف الأدبي، حيث يحاذي ويتاخم أجناسا أدبية عدة، دون أن يقع في أحدها. فلا هو رواية بمعنى الكلمة، ولا هو سيرة ذاتية أو غيرية، ولا هو مجموعة قصص، ولا هو مجموعة نصوص شعرية، ولا هو أدب رسائل.. إنه كل ذلك، وغير ذلك. ولعل الأقرب إلى الصواب وفصل الخطاب، هو القول إن (أفول الليل) هو كتاب سجن وكفى. وكم من كتب جميلة وعصية خرجت من قضبان السجون، وتأبت تحديدات وتصنيفات النقاد والدارسين. وأظن أن هذا الطابع القزحي للكتاب، هو الذي يمنحه قيمة أدبية مضافة، ويجعله سهل القراءة، يجعله مغريا بالقراءة. ولعله لهذا، أعيد طبع الكتاب في أقل من أربع سنوات. يعتمد الكتاب إذن، آلية التداخل والتفاعل بين الأجناس والأشكال الأدبية. كما يعتمد أيضا آلية التداخل والتفاعل بين الضمائر السردية (أنا/ أنت/ هو). وآلية التداخل والتفاعل بين الأزمنة والأمكنة، أزمنة وأمكنة غابرة وأزمنة وأمكنة حاضرة. أو لنقل بعبارة محددة، إن الزمن في (أفول الليل) يتمفصل على الشكل التالي: زمن ما قبل السجن / زمن السجن / زمن ما بعد السجن. ونقطة الانطلاق الزمني في (أفول الليل)، هي 3 مارس 1973، وهو اليوم الذي اعتقل فيه الكاتب وزج به في سيارة الشرطة. والمفارقة هنا، أن هذا اليوم صادف عيد العرش في العهد الماضي. نقرأ في صفحة 12: [ وما كنت أخشاه أن تتجه السيارة في الاتجاه المعاكس. أي إلى درب مولاي الشريف! وكان الضابط يقول لرجال الشرطة الذين يوقفونه: إننا فرقة جنائية من فاس ومعنا معتقلون، افسحوا لنا المجال دعونا نذهب إلى المعاريف.. وكانت الشوارع مليئة بالفتيات اللائي يغنين بصوت مرتفع يوم عيد العرش. تنفست الصعداء. هؤلاء من الشرطة القضائية إذن وليس من مراقبة التراب الوطني DST. ويأخذوننا إلى المعاريف وليس إلى الدرب اللعين]. وبعد هذا اليوم المشهود بالضبط، يبدأ الليل الأليل. تبدأ «الواقعة» على حد تعبير عبد القادر الشاوي، أحد شهود هذه الواقعة أو الوقيعة الليلية.. وليس من السهل الدخول في متاه هذا الليل المغربي، ونقض مكنوناته ومخزوناته، وولوج سراديبه ودهاليزه. فالكتاب من ألفه إلى يائه غاص بهذه المادة، وناضج ب «تلك الرائحة». وهذا الليل، أصبح نهارا مكشوفا، لكن حسبي الاكتفاء هنا، بالإشارة إلى ظاهرتين متناقضتين ومتفاعلتين في الكتاب، وهما ظاهرة التعذيب، وظاهرة «السخرية» من العذاب، علما بأن رحلة الليل في (أفول الليل)، تبتدئ من مفوضية الشرطة بالمعاريف، إلى سجن اغبيلة. وهما مكانان مغربيان، غنيان عن البيان. نقرأ في صفحة 15، وتحت عنوان (ركوب الطائرة بالمجان): [ اليدان مغلولتان، متشابكتان مع الرجلين كديك أو خروف معد للشي، وجسمك بين السماء والأرض. الدم يتجمد والألم قاس. لكن للرجلين القسط الأوفر من العناية، وبواسطة سوط صنع من عصب الثور، تنهال الضربات على باطن الرجلين بوتيرة احترافية في العمل. ولزيادة الألم، يأخذ الشرطي خرقة قذرة يملأها بما هو أقذر منها، ويضعها على الفم، يصير التنفس صعبا بل مستحيلا. لعلها الطائرة قد ارتفعت فوق السحاب ونفد الهواء]. ونقرأ في الصفحة 30: [ خلال المحاكمة، ستحضر الشرطة المناشير والنشرات السرية والرونيو والآلة الكاتبة والكتب الممنوعة وكذا حجري شعيب! ولأنهما كانا مهمين، كنا نطلق عليهما «الأحجار القمرية»، قد أحضرهما البوليس ضمن المحجوزات لتثبت تهمة العنف الثوري ونوعية السلاح المستخدم لقلب النظام وإقامة دكتاتورية البروليتاريا]. ونقرأ في صفحة 31، تحت عنوان (الأساور المستوردة حول المعصمين): [ بما أننا لم نكن نتوفر على ما نقرأ، فإننا كنا نقلب أصفادنا لنكتشف سنة صنعها، أو الدولة المصدرة لهذا النوع من البضائع التي تدخل في إطار التبادل التجاري مع المغرب. هناك أصفاد فرنسا،وهي كبيرة نسبيا، وهناك الإسبانية، صغيرة وفاشية، إذ بمجرد أن تحرك إحدى اليدين حتى تشتد الأنياب حول معصمك محدثة ألما شديدا. أيها الفاشي قاتل لوركا، ووائد الجمهورية. إن أصفادك تليق بك، حيز ضيق من الحرية والحركة. وعذاب لأدنى حركة! القيود الفرنسية مستوحاة من الحرية والمساواة والأخوة]. إلى آخر المفارقات، المبكيات المضحكات، التي يزخر بها الكتاب على نحو تراجيكو-ميدي بليغ يظهر مادية الجلاد وصغره، وقوة المناضل وعظمته. ورغم جبروت هذا الليل البهيم الذي أرخى سدوله على الرفاق، رغم اكتوائهم بجمرة الهم الوطني، كان هناك أيضا إنصات لهموم العالم وأوجاعه، وانفتاح على قضاياه ونضاله، بدءا من فلسطين إلى أقطار وشعوب آسيا وأمريكا اللاتينية. نقرأ على سبيل التمثيل دائما، وتحت عنوان (يوسف النجار، كمال عدوان، وكمال ناصر): [ كنا أواخر أبريل أو بداية ماي، وفي أحد أعداد «باري ماتش» رأيت المجزرة. دخل الإسرائيليون إلى قلب بيروت غير المحروسة، ليلة 10 أبريل 1973، وقتلوا كمال عدوان ويوسف النجار وكمال ناصر، ومثلوا بالجثث وخرجوا كأنهم كانوا في رحلة سياحية. رئيس الأركان اللبناني كان في دار السينما تلك الليلة، والطريق ميسرة للقتلة. أيها الفلسطينيون، يا معلمينا، كم كنتم عظماء في ثباتكم وفي نضالكم وفي موتكم]. هكذا يلتحم النضال بالنضال، ويشمخ الصمود وسط الليل، ولو تكسرت النصال على النصال. وبعد، في كتاب (أفول الليل)، لم أتعرف إلى الطاهر محفوظي كمناضل رفيق معتقل فحسب، بل تعرفت إليه أيضا وأساسا، كأديب وكاتب، تنبجس اللغة من قلمه، كشكل جمالي آخر من أشكال النضال والمقاومة. ولعل تجربة السجن قد أفادته ورفدته، وشحذت أداته وسنانه، وأطلقت خبئ مواهبه الأدبية من عقال. ولا غرو، فالألم مداد القلم. كما قال التوحيدي. ومن هنا، هذا الشفوف اللغوي في كتابته. وهذا الإشراق الشعري في أسلوبه. وثمة نصوص قائمة بذاتها في الكتاب، تنحو منحى شعريا صرفا. وإنه لأمر رائع حقا، أن يخفق وتر الشعر وسط ليل السجن. إنه الصمود في أعلى وأبهى ذراه. والصمود هذا، هو العصب الساخن في الكتاب، وهو لحن قراره الأخير أيضا، إذ يرفض «المصالحة» وصكوك الغفران والصفح. ولنقرأ، على سبيل الختم، هذه الفقرة الأخيرة من الصفحة الأخيرة من الكتاب: [ أيها الرفيق الجلاد، أستطيع مما سبق ذكره وإغفاله عن طواعية أو نسيان، أو حتى عن شهامة أن أسامحك. لكن كيف أصفح عنك فيما عانى الشعب، كيف أتصالح معك وجموع من خيرة النساء والرجال والأطفال لم تعد لحضن الأحبة إلا في أكفان، وآخرون لم يرجعوا -البتة- لا في صناديق مغلقة ولا في نعوش، ولا شاهدة لهم في مقبرة، ولا قبر لهم في تلك القرية النائية حيث الترحم على الأموات فرض عين، كلما تذكروا نكبة غالبهم الأسى. أنا على استعداد للمصالحة والمسامحة والإنصات وما بينهما من متشابهات، إذ أحضرت كل الشهداء، وتنازلوا عن آلامهم ودمهم وعفوا عنك]. ويبقى السؤال الجارح المعلق، بعد السفر في هذا السفر: هل أفل الليل حقا؟! تلك هي المسألة، كما قال ماكبت. الهوامش: 1- الطاهر محفوظي : أفول الليل يوميات من سنوات الرصاص، ط .2، أبريل 2006، مطبعة القرويين، ص.7. 2- أفول الليل، ص. 7. 3- أفول الليل، ص.12 4- أفول الليل، ص. 15 5- أفول الليل، ص. 30 6- أفول الليل، ص.31 7- أفول الليل، ص. 182 8- أفول الليل، ص. 320