هل يمكن لرواية ما أن تغير واقعا صار معلوما لدى الآخر، غير مستعد للتخلي عنه؟ كيف يمكنها أن تمحو صورة الإسلام المشوه التي تطل من على شاشات الميديا، وتشير إلى حقيقة بعض من مسلمي اليوم؟ وهل الاتهامات التي تصدر باسم التطرف والإرهاب بريئة، أم تحمل وراءها ضغائن الغرب وسدنته؟ ومهما يكن كيف وصلت الانسانية إلى زمن التعصب والنفي وازدراء الأديان؟ ما جدوى أن نكتب عن آلامنا في زمن ينطبع بالدم والاستبداد، بالتعصب والاستيلاب؟ وهل تعدو الكتابة استشفاءا chimiothérapieمن انجراحات الوجود، لتصحيح وبناء وضع أنطولوجي جديد للإنسان المسلم، يعوض وضعا انطولوجيا مهترئا ووهنا صنعته سيرورة تاريخية؟ تلك بداهة صارت لا تخفى على أحد، وصارت بموجبها صكوك الاتهام تتوجه نحو الإسلام والمسلمين، بعلم أو بغيره، ظن الجميع أن الغرب زمن اختفاء القطبية الثنائية شيَّع خطر شبح السوفيات إلى غير رجعة، وسينصرف بأحلامه الرومانسية نحو عالم بلا رعب، كما كانت تبشر بذلك أدبياته ومرجعياته الفكرية، فإذا به يستفيق على هول صدمة الفراغ التي تركها رحيل الامبراطورية الحمراء عن ساحة الوغى الدولية، لتبدأ مسيرة البحث عن عدو محتمل، قد يهدد استقرار الغرب وراحته، فكان أن وجد ملاذه في الاسلام، باستعانة من دهاقنته الاستراتيجيين فوكوياما وهانتغتون وبرنار لويس وآخرين. والحال، يبحر الأدب بعيدا في توصيف الواقع، منصتا إلى حثيث العشب وهو ينمو في غفلة من الناس،ليلتقط منه سكنات الأحياء، وهمسات تجاويف الأثير منهم، من أجل أن يرسم عالما جديدا، قادر على التجاوز والتغيير، تغيير رائحة الدماء والجثث المتفحمةوغلو التطرف. إنهأشبه بمن يمارس طقسا سحريا وثنيا يُمكنه من العبور والبوح عن تصورات بديلة، لأشكال حياة ممكنة بعيدة عن لغة الإرهاب والعنف والاستبداد. قد يقول البعض، من أجل أن نرسم معالم هكذا وضع، على الأديب أن ينطلق من أرض ثابتة تحت قدميه حتى يكتب، غير متموجة، لكن علينا أن نعترف أن لا وجود للثبات والستاتيكو في الكتابة، لأن فعل الكتابة ليس رفاها أو ترفا، بقدر ما يغدو حاجة مجتمعية وحضارية نصبو بها جميعا نحو أنسنة الوجود، من حيث هو روح وأخلاق وعقل، حتى نتملك جميعا الحق في الحياة كحق مقدس نافحت كل شرائع الأديان. أَوَ ليست كل كتابات كيمياء العقل البشري،بمختلف مداخلها المعرفيةسوى مساهمة بشكل أو بآخر في معركة الإنسانية التاريخية ضد أقانيم التعصب والاستبداد والاقصاء. صورة تعمي وتظل، تظهر الإسلام في الواجهة، واجهة الإدانة،تصير مألوفة من على عدسات الإعلام، منغرسة في الوجدان الدولي، تحت وقع استيلاب الإعلام وتوجيهاته بتوصيف من فيلسوف الصورة جون بوديار، هي من جعلت الروائية التونسية خولة حمدي تتعبأ لكتابة رواية جديدة، وسمتها بعنوان مثير ودال»في قلبي أنثى عبرية»،تحكي عن رحلة البحث عن الانا الروحي في زمانية التعصب والاستقواء، عن الذات والروح، الخلاص والتطهير، عن دين العقل بدل دين الوراثة، عن فضاء انساني مشترك مُنحل من كلالبراديغمات المستحكمة فيعالم مليء بالتعصب وبالحروب. رحلة مضنية تلك التي ستقودها ندى الفتاة العبرية في تمردها على تقاليد طائفتها اليهودية، وهي تتسلح بأسئلة النقد والاستقصا عن الأصول لا المظاهر، أملا في رصد حقيقة الأديان وتعايشها الممكن، من أجل الايمان بالإنسانية قبل أن تفترق بسبب تأويلات الأديان. فسحة إبداعية لاكتشاف حقيقة المجتمع اليهودي المغلق، وتحديدا اليهود العرب، ضمن سرد يدور حول المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوبلبنان، عبر سفر سردي يروم البحث عن حقيقة الذات الروحية، ومساءلة النصوص الدينية من أجل معركة الخلاص الروحي من أتون التقاليد الدينية، باختصار كتابة عن الذات والحب والحرب والايمان. رواية انسلت من جدران الواقع الافتراضي نحو مكاشفة الواقع، واقع التعصب الديني بعالم اليوم، عن قصة حقيقية لفتاة عبرية تدعى ندى من أم يهودية وأب مسلم غير آبه بإسلامه وبصورته لدى الآخر، تقطن بمدينة قانا جنوبلبنان، ترتبط بشاب مسلم يدعى أحمد، ناشط في صفوف المقاومة اللبنانية ضد العدوان الاسرائيلي،تجمعهما علاقة عشق وغرام تصطدم برفض العائلة بسبب الدين والطائفة والانتماء. عبر ندى بطلة القصة تسبر خولة حمدي خبايا التعصب الديني ، وتكشف عن الواقع الديني بين المسلمين واليهود والمسيحيين في كل من قانا اللبنانية وجربة التونسية وباريس الفرنسية، بمسحة لا تخلو من خيال وابداع. «ما شأن ديانتي بالعمل الانساني؟ ألا يحثك دينك على الرحمة والرأفة وتقديم يد المساعدة إلى من يحتاجها، مهما كان انتماؤه وعقيدته؟ أليست تلك هي رسالة جميع الأديان السماوية»، قالتها ندى العبرية وهي تُسعف أحمد المصاب من جراء قذيفة اسرائيلية ، كيف لقناة يهودية أن تلقنه درسا في الأخلاق، وتستطرد قائلة «لا عليك، فما يحصل حولنا ينسينا أننا نعبد الها واحدا، وإن اختلفت التفاصيل والملابسات». (ص31) ندى تنحدر من أم يهودية وأب مسلم، ربما لم يكن والدها ملتزما كثيرا بدينه، لكنه مسلم على أية حال، أما أمها سونيا فهي من أسرة يهودية محافظة تهتم بتطبيق الدين وإقامة شعائره.إذ العلاقة بين الأب والأم لم يكتب لها أن تستمر نتيجة معارضة الأهل، وكأن قدر البنت أن تحاكي قصة الأم بتفاصيل جديدة. تغوص خولة حمدي في ثنايا اليهودية وتصوراتها للتوراة والوجود، من خلال معرفة دقيقة بالعقيدة اليهودية، تبرز استيضاحها لمفاهيم الحتمية والقدر، والصراع المستميت لتغيير القدر كمفاهيم راسخة في معتقدات اليهود، ويظهر ذلك أكثر في توقفها عند طائفة «الناتوراي كارتا»كطائفة تعتقد أن اليهود استحقوا الحكم الإلهي الوارد في التوراة القائم على الشتات، كما تحلل صفات المرأة اليهودية التقليدية كامرأة خاضعة للرجل باستمرار، واتصاف اليهود بصفة عامة بالشح والبخل الشديدين، من خلال تجربة جاكوب لحظة تبرعه بأقمشة من مصنعه(ص97)،وتسبر عميقا نظرة اليهود للمرأة كامرأة نجسة أبديا، مستغورة بشكل فاحص ودقيقللنصوص القديمة اليهودية كالعهد القديم للتاناخ حول أسفار موسى. تقلب خولة حمدي نظرة القارئ لثنائية حكاية الصَرَّار والنَّملة المألوفة، فالنملة تظهر في الرواية كبورجوازية، تكد من أجل اكتناز المال وتوفيره، بينما يموت الصَرَّار الفنان من الجوع في مجتمع لا يؤمن إلا بالمادة، ولعلها تود بهذه الصورة أن تقلب فهما صار معتادا من طرف الناس بحثا عن بناء صورة جديدة. تظهر ندى بطلة القصة بمظهر الفتاة القارئة، المؤمنة بحرية الفكر من أجل رحلة البحث عن الحقيقة الروحية، من دافع علمي لا وراثي، ويبرز ذلك من خلال قراءتها لرواية الفيلسوف والكاتب الفرنسي روجي غارودي عن سيرته الذاتية»جولتي وحيدا عبر هذا القرن»، وهو الذي عرف بنقده للصهيونية وفكرها المتعصب من خلال مؤلفه المرجعي «الأساطير المؤسسة للسياسة الصهيونية»، وجرعليه حنق الأعداء والخصوم، وأيضا من خلال عالم الأحياء موريس بوكاي، صاحب كتاب «التوراة والقرآن والعلم». لعل ما يشد الانتباه من داخل ثنايا الرواية، هي شخصية ريما الفتاة المسلمة التي تربت في حضن أسرة يهودية، والتي سيثير حجابها حنق زوجة جاكوب، ولسوف تعتبر دخيلة على العائلة، وسيعمد جاكوب إلى ترحيلها نحو لبنان:»رحلت ريما، رحلت وهو الذي أخذها بنفسه لينفيها إلى أرض بعيدة، هل سيكون لحياته معنى، هل سينظر في وجهه في المرآة دون أن تنعكس أمام عينيه صورة السفاح الذي طرد ابنته الغالية، هل يستحق الانتماء إلى الانسانية بعد الآن»(ص 71). تصور خولة حمدي مشهدا من مشاهد القصف الاسرائيلي على بلدة قانا اللبنانية بوحشية وغطرسة عنجهية، وهو القصف الذي خلف ضحايا حتى «اختلطت قطع الطماطم المطحونة بدماء الشهداء»، إذ صارت البلدة في حداد مستمرة، وعمليات الانقاذ تواصلت لمدة يومين بعد العاصفة، كأن الأمطار تآمرت مع القوات الاسرائيلية في إثارة الرعب في قلوب السكان»(ص 159). قصف سيودي بحياة ريما، وسيترك جرحا وألما في نفسية ندى « لن أنساك يا ريما، لن أنساك، ستظل ذكراك محفورة في قلبي ما حييت، سأكون أنا عائلتك التيتذكرك، وإن محيت من ذاكرة العالم بأسره»، وتتابع «محت الأيام المتعاقبة الساعات المظلمة من ذاكرة المدينة، ومسحت نعمة النسيان الألم عن ثناياها، عادت المدينة إلى سالف عهدها، لكن ريما لم تعد»،لأن الموت خطف حياة يافعة لم تقطع سوى شوط يسير في رحلة الحياة»(ص )175. رحيل ريما سيجعل ندى تشترك في صفوف المقاومة اللبنانية ضد العدوان الاسرائيلي ، وهو أمر غير مسبوق. يوم 30 مايو 2000 سيكون تاريخا حاسما في حياة ندى، تاريخ ارتباط اسمها بإسم من تحب، تاريخ استقلالها عن سيطرة والدتها وتعسف شقيقتها، ف»حكايتها أشبه بكتاب حكايات، تسللت إلى ذاكرتها الأحداث البعيدة، وتسلل النعاس إلى جفونها المرهقة، فغاصت في كرسيها وسافرت بعيدا»(ص 203). تحكي أنابيلا الصديقة الايطالية لندى، أثناء زيارتهما للمسجد الكبير بباريس عن حقيقة صلاة المسلمين بالقول « حقيقة، الإسلام فيه كل شيء، إذا كانت صلاتكم بمثل هذا النظام، فلا شك أنكم تلتزمون بالصف في أعمالكم، وتركبون الحافلات بشكل منظم، كي تتركوا المجال لكمن يركب بعدكم، إنه لشيء مدهش حقا»(ص 217). حتى إن أحمد كذلك الذي أدخلها إلى الاسلام كان يقول لها «لا تجعلي المسلمين يُنفرونك من الاسلام، فتطبيقهم لتعاليمه متفاوت، لكن انظري في خلق رسول الإسلام، وحده ضمن كل البشر خلقه القرآن «(ص 218). تغوص الرواية بمناظرات دينية من أجل إثبات رجاحة دين على غيره، ففي واحدة بين ندى وميشيل الراهب المسيحي الذي سبق له أن أنجز دكتوراه حول صورة عيسى بن مريم في القرآن، تقول له ندى «لا تحكم على الإسلام هكذا، لا تنظر إلى ما يفعله المسلمون، بل انظر الى ما تنص عليه تعاليم الاسلام، أنت تعلم أكثر مني أن الاسلام يقوم على الأخلاق الحميدة، على النظام والأمانة واتقان العمل والنظافة، الإسلام برئ من كل هؤلاء، من الكاذب والمرتشي والمحتال والظالم والمبذر، أنا اخترت الاسلام لأنني وجدت فيه ذاتي، ولم أتساءل ماذا عن بقية المسلمين»(ص 239). فميشال يظهر بمظهر شخص متمكن من النصوص، من خلال أسئلته العميقة حول المرأة والعورة والارث والشهادة. ستستفيق جزيرة جربة التونسية يوم 11أبريل من سنة 2002 على وقع تفجير ارهابي، استهدف كنيس الغريبة اليهودي، وهو ما سيجر وراءه أصابع الاتهام نحو المسلمين، بشكل يجعل بطلة الرواية في موقف تبرير، متسائلة عن»هل انقضى زمن التعايش السلمي بين المسلمين واليهود في جزيرة الأحلام»(ص 277). بعد اختفاء أحمد، وفقدانه لذاكرته، سيعود مسيحيا يحمل معه صليبا، وإسما جديدا/ جون، وستبدأ مرحلة البحث عن الهوية والذاكرة المفقودة، حتى أن جون القديم يصارع أحمد الغريب في داخله، والذي يهم أساسا من سيرة أحمد هو ارتباطه بالأرض، التي تتخذ حمولة رمزية في الرواية. كانت مغامرة، حينما ارتبط أحمد بندى اليهودية ، وهو على الاسلام، واليوم وهي مغامرة جديدة، أن تحاول معه من جديد، وهو مسيحي وهي على الإسلام، يا للمفارقة بين مغامرتي الأمس واليوم، مفارقة بين حب المراهقة وقناعة العقل. تحضر الصورة بشكل أساسي داخل الرواية، فصورة المزرعة والعائلة حضرت في نهاية الرواية، مما يشي بمركزيتها في صناعة الواقع، «تلك الصورة/ الفوتوغرافية لم تذهب إلى النفايات، أقصد النفايات المادية، بل استقرت في يد من يمكن أن نصفهم بنفايات البشرية، صورة الظنون التي جعلت أحمد يدفع الثمن غاليا»(ص 376). يأتي صوت ندى خاتما الرواية برسالة معبرة تقول فيها «أنا اليوم مسلمة ومسؤولة عن صورة الإسلام في عيون غير معتنقيه، أنا اليوم مسؤولة مثل غيري من المسلمين، عن الاتهامات، عن الارهاب والتخلف والفوضى والفساد». باختصار، رواية خولة حمدي في «قلبي أنثى عبرية» سفر أثير في دروب الاقصاء والتعصب، المغلف بقراءات انتقائية، تبريرية واقصائية، من أجل اثبات الذات ونفي الآخر، عمل روائي ماتع ينتصر لحقيقة لعقل والنقد من أجل عالم ممكن لتعايش الأديان، وأخيرا ايمان عميق بدرى الانسانية في التواصل والتجاور ونبذ تمايزاتها العقدية.