1 الأزمة، كمصطلح وكقضية وإشكالية، انتقلت في زمن الألفية الثالثة، من قواميس الدول الفقيرة/ المتخلفة/ التي تعاني من الجوع والبطالة والفساد والتهميش والحروب الأهلية، إلى قواميس الدول النامية، المصنعة، لتصبح مصطلحا عولميا، يؤطر قضايا البنك الدولي وهيئة الأممالمتحدة والبيت الأبيض وتصور الملوك والرؤساء في العالم المتمدن الذي كان قبل حين يصنع الأزمات ويصدرها للعالم الآخر. الأزمة في زمن الألفية الثالثة، أصبحت هي القاسم المشترك بين الشمال والجنوب، بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا وآسيا، وبين إفريقيا وأمريكا اللاتينية... الكل يعاني منها على طريقته الخاصة، إذ أصبحت هنا وهناك لا تقف عند حدود المال والاقتصاد والسياسية، بل تسربت إلى المجتمع والثقافة والفنون، لتصبح أزمة شاملة. ولان حضورها قوي ومتعدد في السياسة والاقتصاد والثقافة، أصبح الزعماء والوزراء والمدراء والمثقفون والإعلاميون يستعملونها بكثافة، كل من موقعه واختصاصه، بعضهم يوظفها في خطاباته المذهبية والسياسية وبعضهم الآخر يتحدث عنها ويشرحها، ويقلب أوراقها، يفككها ويعيد تركيبها بمناهج وأساليب وصيغ مختلفة ومتباينة. جرائدنا ومجلاتنا وفضائياتنا وكتبنا ومنابرنا الإذاعية ملئى بالأزمات... وبالكلام عن الأزمات التي تؤطرنا وتحيط بنا من كل جانب، فأزمة الحكم والسلطة، كأزمة الثقة وأزمة الاقتصاد وأزمة التشغيل وأزمة التخطيط كأزمة النص وأزمة المنهج وأزمة النقد وأزمة القراءة، كلها تصب في أزمة بنيوية/ هيكلية/ شاملة، تحيط بنا من كل زاوية، ومن كل جانب. 2 منذ عقود بعيدة، انتقلت هذه المفردة العجيبة بهدوء من تعابير المبدعين والمثقفين والنقاد، إلى تعابير السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين والرياضيين، فأصبح كل في مجال تخصصه، يعاني من الأزمة، يشرح الأزمة، أو يفعل آليات مواجهتها. ففي المؤتمرات السياسية والملتقيات الثقافية والفكرية والندوات الصحفية والمجالس الحكومية، كما في الحملات الانتخابية تتحول الأزمة إلى أداة للعمل، وإلى خريطة طريق سالكة إلى عقول المناضلين والناخبين والرياضيين والاقتصاديين، والمثقفين، تتحول إلى عملة رائجة للذين يرفضون الأزمة والذين "يبحثون لها عن حلول. ومنذ عقود بعيدة، لم يتوقف خطاب الأزمة على المستوى الشعبي، كما على المستوى الرسمي في الدول السائرة في طريق النمو، لتصبح الأزمة حالة بارزة في العالم المتمدن بعدما مست عدواها كل البيوت والمرافق والمؤسسات والقطاعات، لتصبح شاملة تمس كل الأحاسيس والمشاعر، وتسكن كل العقول والقلوب، وبعدما اتخذت لنفسها بسبب الظرفية التاريخية أوسع مجال في الحياة العامة، أصبحت هذه الأزمة سيدة اللغة والتعبير والبلاغة في خطابنا السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي، وأصبحت سيدة الموقف في كل خطاب وبرنامج وإيديولوجية، تنتقل من مفهومها المادي إلى مفاهيمها الحسية، تتخذ صورتها في الواقع، من خلال صورتها في مكونات وهياكل هذا الواقع. يعني ذلك أيضا أن الأزمة في حياتنا المعاصرة/ في واقع العالم الراهن، ليست حالة اعتراضية، فهي تمتد، تتوسع عبر مساحات لا نهائية، وكأنها قدر محتوم، تتعمق في الوجدان، على جدارية الأخلاق، تتجاوز حدود الذات الفردية، لتشمل الذات الإنسانية الشاملة. 3 إلى منتصف القرن الماضي، كانت "الأزمة" في أوربا الغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية نتاج طبيعي ومباشر للخلخلة الاقتصادية التي عرفتها هذه القارة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تكن تمس المناحي الأخرى في حياة الناس كما هو الأمر في الوقت الراهن، لأنها كانت محاصرة بموانع الثقافية والفكر، وبأسس التربية الأولية للأفراد، لكن يبدو أن أزمة العالم السائر في طريق النمو تتخذ اليوم منحى آخر، تطورت كمفهوم وكواقع اقتصادي/ اجتماعي/ سياسي/ ثقافي عام، إلى الحد الذي أصبحت شاملة تتحدى كل الموانع الموضوعة في طريقها. وإلى منتصف القرن الماضي أيضا، كانت "الأزمة" في المغرب وهو نموذج "للعالم السائر في طريق النمو" اقتصادية بحثه، ولكن وبسببها، بدأت المقومات الأخلاقية في الانهيار، وبدأت التوازنات الاجتماعية في الانحدار، وأصبحت الأزمة تأخذ حجم الغول الذي يلتهم كل ما في طريقه فلم تترك لجيل الاستقلال وقتا يتنفس فيه الصعداء، ليعقلن أوضاعه، ولم تتح له الفرصة للخروج بالتاريخ إلى مرحلة أشمل وأرحب وأكبر، فبقي هذا الجيل أسير أزماته المتميزة بعنف الصراعات، والمنغمسة حتى القعر في الفساد والسوداوية، فطبعت حياته وسلوكه الفردي والجماعي، وأصبحت جزء لا يتجزأ من كينونته ومن سيرورته النفسية والأخلاقية. الجيل المغربي الجديد الذي تربى وترعرع على أزمات عهد الاستقلال، يغطي في مغرب اليوم مساحة هامة في تراثنا البشري (حوالي 80% من الساكنة الوطنية)، أزماته تختلف –بكل تأكيد- عن أزمات الجيل الذي قبله، فهي اليوم، أزمات... وأزمات تغطي كل حياته، فهو جيل ملئ بالتمزقات المؤلمة، ملئ بالفراغ الروحي والجسدي، يعيش بين آلام الفقر والمرض والأمية، وبين آلام التهميش والبؤس الاجتماعي والحضاري والإنساني، يتفرج على أزماته وهي تكبر أمامه بتحد صارخ وهو لا حول له ولا قوة. فتح الجيل المغربي الجديد، عينيه على مغرب مطوق بالأزمات، وجد نفسه يتحمل العديد من المسؤوليات الموروثة عن الأجيال الماضية، ومن ضمنها حماية الاستقلال/ حماية الوحدة الترابية/ تأمين الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون/ توسيع دائرة التنمية والعدالة الاجتماعية/ ترسيخ قيم المواطنة... ووجد نفسه يتحمل مسؤوليات أخرى ترتبط بشروط المواطنة الكريمة ويدخل ضمن ذلك الإرث العظيم الذي ورثه من الإدارة الاستعمارية، والمتعلق بضعف وفساد الإدارة والاقتصاد والسياسة والمال العام. على المستوى الاجتماعي، وجد الجيل المغربي الجديد نفسه داخل أكبر الطبقات اكتظاظا وأكبرها حجما، وهي طبقة الفقراء والعاطلين والمعطلين والمهمشين والبؤساء، يتصارع مع الخبز والصحة والشغل والتعليم والسكن، في بلد ما زالت بنياته، تشتكي من أمراض الماضي بسبب التخلف الذي يهاجمه من كل الزوايا، ويدفعه إلى التصنيف ضمن أكثر بلاد العالم فقرا وتخلفا... وبفعل هذا التواجد القهري، يتفاعل هذا الجيل مع كل السلبيات المخيفة: الأمية/ البطالة/ الفراغ/ التهميش/ المرض... ليكون رصيده القوي من الأزمات الروحية والمادية الخفية والظاهرة مبهرا ومخيفا وخارج كل التصورات الممكنة والمستحيلة. على المستوى السياسي، وجد هذا الجيل نفسه ينخرط في نضالات متعددة الأهداف، أنه يطمح أن يلعب وطنه المغرب دوره التاريخي على الساحتين الوطنية والدولية، وهو في حالة تسمح له أن يوفر لأبنائه/ مواطنيه الكرامة والعيش الكريم والتربية والصحة والشغل، وأن يلعبوا دورهم بإثقان في الدفاع عن الوحدة الوطنية، ووحدة التراب الوطني، وأن يأخذ هذا الوطن، حقه من وسائل الازدهار والتقدم الحضاري والتكنولوجي، وأن ينخرط بجدارة في المنظومة الحضارية الحديثة، للعالم الحديث. المفارقة العجيبة التي صنعها هذا الجيل، أنه هو نفسه الذي يخوض معارك الديمقراطية والتنمية وحقوق الانسان على واجهة الأزمات الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية القائمة، وهو نفسه الذي يوظف مكاسب الأجيال المغربية السابقة ونضالاتها من أجل بناء مغرب جديد قادر على السير والاستمرارية والانتقال، مدمج ومنخرط في المنظومة العربية الإسلامية، كما في العصر الحديث ومنظومته الحضارية. يعني ذلك بوضوح، أن الأزمة المغربية، أزمة سوريالية، إذ تختلف شكلا ومضمونا عن أزمات العالم الآخر... فإنها تحمل كل ألوان الطيف، لتصبح خارقة للعادة ولا يمكن الاكتفاء بتسميتها أزمة. 4 لنحاول استقراء الأرقام الناتجة عن أزماتنا، خلال الخمسين سنة الماضية. من سنة 1956 إلى سنة 2000، ارتفع عدد سكان المغرب، من اثني عشرة مليونا ( تقريبا ) إلى ثلاثين مليونا ( تقريبا)، وهو ما يعني ارتفاع عدد القادرين على العمل من مليونيين، إلى أزيد من اثني عشرة مليونا. ولأن الزيادة الديموغرافية، بشهادة الأرقام الرسمية، ارتفعت بنسبة تفوق 3.5 في المائة خلال الخمسين سنة الماضية، فإن عدد الفقراء، وعدد العاطلين، وعدد الأميين، وعدد المعطلين عن الدراسة، وعدد المعطلين الحاصلين على الشواهد الجامعية العليا وعدد المرضى والمهمشين والمجرمين، ارتفع بصفة مهولة، نتيجة لافتقار البلاد إلى البنيات الأساسية للنهوض والتنمية من جهة. ومن جهة أخرى، نتيجة لتخلف وسائلها الانتخابية، وفوضوية تركيب طبقات مجتمعها . بذلك، أصبحت أزمة الديمغرافية، التي هي أم الأزمات الأخرى، تتميز بالقتامة والتشاؤم في مطلع الألفية الثالثة، لا بسبب الديون والضغوط المالية وحدها، ولكن أساسا، بسبب فساد السياسات وعجزها في عهد الاستقلال (1956-2013 ) تذويب المشاكل والأزمات التي ورثتها الدولة المغربية عن العهد الاستعماري (1912-1956 ) ذلك لأن تصاعد النمو الديمغرافي كتصاعد الديون الخارجية، تحد واجه/ يواجه كل طموح، وكل إصلاح، وأصبح من الصعب التحكم فيه أو الانتصار عليه، خارج شروطه وآلياته الموضوعية. السؤال الذي يطرحه المشكل الديمغرافي على مغرب اليوم، والذي يتردد على السنة العديد من الأخصائيين والباحثين والخبراء : كيف سيصبح الوضع في المغرب سنة 2020، حيث من المنتظر أن يصل عدد السكان إلى حوالي أربعين مليونا، أو يزيد؟ في نظرنا تتعاظم أهمية هذا السؤال في كل القطاعات الحيوية بالبلاد، وخاصة في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، كلما نظرنا إليه من زاوية الاختلالات التي ما زالت تضرب التعليم و"سوق الشغل " والتي تؤثر سلبا على مختلف القطاعات الإنتاجية، وبالتالي على مسار التنمية المستدامة... كما تتعاظم أهميته، من جانب آخر أمام المؤهلات المحدودة للاقتصاد المغربي في توسيع هذه السوق، أو في إصلاح منظومة التعليم والتقلص المستمر لإمكانيات الهجرة والعمل خارج الحدود. يعني ذلك، أن مغرب اليوم، الذي يسعى إلى ترسيخ الديمقراطية ودولة الحق والقانون/ دولة المؤسسات، يواجه تحديات "تقيلة" متعددة ومتداخلة ومتشابكة. فالنمو الديمغرافي، ومحدودية الاقتصاد وتقليص الهجرة، لا تعني فقط التراكم المستمر للأزمة الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية ولكنها أيضا تعني "تحفيز" الأزمات الراكدة، على الظهور والتأثير. تقول المؤشرات، أن نسبة البطالة قد تصل خلال السنوات القليلة القادمة، إذا لم يعالج الأمر بصرامة، إلى 25 في المائة من إجمالي السكان النشطين، بمن فيهم الخريجين، والذين لا حرفة ولا تكوين لهم. وتقول الأرقام أن حوالي مليون مهاجر مغربي، سيعودون إلى وطنهم من أوروبا وأمريكا وكندا بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، قبل نهاية سنة2015، للانخراط في القافلة الضخمة للفقراء والعاطلين، وهو ما يعني أن فئات اجتماعية جديدة، قد تنتقل خلال نهاية هذا العقد إلى العيش تحت مستوى الفقر. وتقول الأرقام أن عدد المعاقين في مغرب اليوم يتجاوز مليون ونصف معاق، (حوالي 5.5%) من الساكنة. تواجههم السياسات الحكومية بلا قدرة ولا قوة. وتقول الأرقام، أن حوالي مليون طفل في سن التمدرس، لم يحصلوا على مقعد دراسي خلال العقد القادم، وأن 500 ألف طفل يتخذون/ سيتخذون من الشوارع مأوى لهم، وأن مثل هذا العدد من الأطفال يعملون في حرف وصنائع وحقول تتنافى مع براءة طفولتهم، من أجل إعالة أسرهم... وأن 300 ألف طفل متخلى عنهم ومشردون، يعيشون خارج الأوفاق الإنسانية. وتقول الأرقام أن أكثر من 25 مليون من المغاربة، يعانون من ضعف القدرة الشرائية، نتيجة الفقر والبطالة، وأن أربعة ملايين مغربي لا يتوفرون على سكن لائق بالكرامة الإنسانية وأن حوالي مليون وثلاثمائة ألف مواطن مازالوا يعيشون في مدن القصدير. وتقول الأرقام أن عدد الأشخاص المسنين بالمغرب، قد تضاعف ثلاث مرات في عهد الاستقلال (1956-2013)، حيث يتواجد اليوم حوالي 2.5 مليون مسن على الهرم السكاني الذي يتوجه بخطى سريعة نحو الشيخوخة، أغلبهم من الفقراء والمعدمين، لا يملكون تقاعدا... ولا تغطية صحية. وتقول الأرقام، أن الفاقة والفقر دفع بآلاف الفتيات المغربيات داخل المغرب، وفي دول أوروبا والشرق الأوسط والخليج العربي وإسرائيل، إلى بيع أجسادهن من أجل العيش، على مرأى ومسمع من الأخلاق والفضيلة والقيم الدينية والإنسانية. ليست هذه الأرقام وحدها، ما يشكل ملامح الأزمة الشاملة التي تصيب الجسم المغربي بما يشبه الشلل، هناك أرقام قاسية أخرى بدأت تفرض نفسها بقوة، تتعلق بالجريمة وتعاطي المخدرات والكحول، وبتزايد عدد نزلاء السجون وتفاقم الأمراض التي تفتك بما تبقى من هذا الجسم في غياب إستراتيجية واضحة للإنقاذ... أو للعلاج. -5- في مغرب الألفية الثالثة، ودون الأمراض الفتاكة التي أصبحت تنهك الصحة العامة، ونعني بها أمراض"الإيدز"/ فقدان المناعة المكتسبة، وأمراض السرطان، وأمراض القلب، وأمراض التنفس، وأمراض الكبد، وأمراض الزهيمر والأمراض العقلية (الجنون) التي تحصد يوميا آلاف الأرواح، والتي لا تتوفر لأحد حتى الآن أرقام دقيقة عنها، هناك على الساحة الاجتماعية، سلسلة من الأمراض الأخرى، أرقامها مفزعة، تلخصها لنا الأزمة الصحية بشفافية ووضوح، كقضية وكواقع. تقول الأرقام أن أربعة ملايين من المغاربة، مصابين بداء السكري (أي حوالي 12% من الساكنة الوطنية)، وهو داء يفتك بالقدرات البشرية المغربية من المهد إلى اللحد، تزداد خطورته اتساعا سنة بعد أخرى، خارج أي مقاومة علمية. تقول الأرقام كذلك، أن مليون من المغاربة، يعانون من القصور الكلوي المزمن، وأن 300 ألف حالة جديدة تنضاف إلى هذا العدد المفزع كل سنة، وأن 7000 مصاب فقط يخضعون أسبوعيا لعملية تصفية الدم. وتقول الأرقام أيضا، أن عدد المغاربة المصابين بأمراض الروماتيزم والذين لا يستفيدون من أية تغطية صحية، يتجاوز 350 ألف مواطن مغربي. وتقول الأرقام أيضا أن سرطان الغدد اللمفاوية يصيب أزيد من 2000 مواطن مغربي سنويا، يتوفى أغلبيتهم بسبب الجهل بالمرض، وعدم الكشف عن تداعياته مبكرا. وتقول الأرقام أن داء الصرع (الابليبسيا) يصيب حوالي 300 ألف شخص سنويا، 200 ألف منهم من الأطفال والمراهقين الذين يقل سنهم عن عشرين سنة. وتقول الأرقام كذلك أن عدد المصابين بداء السل الذين تم إحصاؤهم سنة (2008) قد وصل 25500 مصاب وهي نسبة تؤكد أن القضاء على هذا الداء ما تزال بعيدة وتقول الأرقام أن 300 ألف من المغاربة يعانون من داء المياه الزرقاء الذي يشكل سببا رئيسيا للعمى، وأن هذا الرقم سيعرف ارتفاعا خلال السنوات القليلة القادمة بسبب التطور الذي تعرفه الأمراض الأخرى، خاصة ضغط الدم. وتقول الأرقام أيضا أن ثلاثة ملايين من المغاربة مصابون بأمراض مزمنة، وأن غالبيتهم عاجز عن مواصلة العلاج نظرا لغلاء التكاليف وغياب التغطية الصحية التي لا تشمل حتى الآن سوى 30% من السكان. وتقول الأرقام أن أكثر من ثلث المغاربة، يعانون من أمراض ذات صلة بالاكتئاب، كالأمراض الذهانية، وأمراض الرهاب الاجتماعي وأمراض الخوف والوسواس القهري، وهو ما يضع المغرب على لائحة الأمراض المقلقة. تقول الأرقام أن المغرب يعرف 600 حالة إجهاض يوميا، يتم العديد منها من قبل المشعوذين. -6- يعني ذلك بوضوح، أن الوضعية المغربية الراهنة مثقلة بسلسلة من الأزمات وتتطلب من الحكومة/ الحكومات، إصلاحات جذرية في هياكل المؤسسات لخلق ملايين من مناصب الشغل، وإعادة التوازن لخدمات الدولة في التعليم والصحة والتشغيل والثقافة والسياحة والخدمات والسكن وغيرها من القطاعات الفاعلة في التوازن الاجتماعي. وهو ما يواجه بتحديات صارمة للعهد العالمي الجديد، القائم على العولمة والتنافسية والديمقراطية. ومن باب الاستئناس، يمكن أن نذكر أن وضعية المغرب الراهنة، لا تتطلب فقط إصلاحات هيكلية في إدارتها لمواجهة تحديات العولمة، ولكن أيضا تتطلب إحداث خمسة ملايين منصب شغل. ومضاعفة عدد المعلمين والأساتذة ومكوني التكوين المهني والأطر التربوية والإدارية. ومضاعفة عدد الفصول الدراسية في المدارس الابتدائية والثانوية. ومضاعفة عدد المعاهد العلمية والجامعات لتأمين المقاعد المدرسية والجامعية ولتكوينية/ من إصلاح وتوسيع وإعادة هيكلية، للصحة والصناعة، والصناعة التقليدية والزراعة والتجارة وكل المجالات والقطاعات الحيوية الأخرى... وهو ما يجعل الأزمة حادة، وثقيلة،... وربما خطيرة أيضا. ويعني ذلك من جانب آخر، أن «الحالة المغربية" أصبحت تواجهها تحديات متنوعة ومتداخلة ومرتبطة بسلسلة من السلبيات، منها ما يتصل بالنمو الديمغرافي ومنها ما يتصل بالتخطيط الاقتصادي/ الاجتماعي. ومنها ما يتصل بالمناهج الدراسية وحالة الإنتاج، وتسمى هذه المسميات جميعا بالسياسات الحكومية، ولأن المغرب على أبواب تحوله التاريخي، وعليه استكمال الشروط الموضوعية لهذا التحول، فإن العراقيل السياسية وحدها تبقى واقفة في وجه هذا التحول.. وهي العراقيل التي تذوب عادة أمام الإرادة الجمعية إرادة الانتقال إلى مرحلة جديدة من التاريخ. العديد من المحللين والباحثين في "الحالة المغربية" يعتبرون أن مسألة التحول والانتقال والخروج من الأزمات أو من بعضها على الأقل، هي مسؤولية سياسية جماعية، مسؤولية الدولة والحكومة والأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والحقوقية. ومسؤولية الأبناك ورجال الأعمال والمثقفين والأساتذة والمعلمين والخبراء.... ذلك لأن النخبة الواعية بظروف هذه "الحالة" وخلفياتها التاريخية والمادية وأثارها السلبية على الحاضر والمستقبل، هي الأكثر مسؤولية والأكثر وعيا بها. وهي وحدها القادرة على تقريب الانتقال المطلوب إلى وضعه المطلوب. إن الأرقام الواضحة والصريحة والبليغة، لتي حاولنا من خلالها رسم صورة الأزمة القائمة على المشهد المغربي، لا تجسد لنا فقط الأزمة الاجتماعية التي أصبح المغرب يعيشها جراء الأزمة الديموغرافية وأزمات الفقر والبطالة والأمية والمرض، الناتجة عنها، بعد نصف قرن من حصوله على الاستقلال، ولكنها أبعد من ذلك حاولت تجسيد الواقع المغربي، المهدد بكل أصناف الأمراض القاتلة، المغرق في التخلف، الذي يعاني من ضعف التخطيط، كما يعاني من سياسات حكومية فاشلة. وطبعا، ليست هذه الأرقام وحدها التي ترسم الواقع المغربي بالسواد، فهناك أرقام المال العام الذي يهدره الفساد والريع العشوائي كل يوم، وأرقام الرشوة التي تفتك بالحياة كل دقيقة من الزمن المغربي، وأرقام التهميش الذي يضرب شبابنا في الصميم...وأرقام ديون الاستهلاك التي تقضي على راحة المواطنين، وأرقام العجز الذي يصيب الحياة المغربية، في المدارس والمستشفيات والجامعات و المساكن و المعامل و الخدمات، وهي أيضا ضخمة ورهيبة ومفزعة، وتقود الجسد المغربي إلى السكتة القلبية/ السكتة الديماغية... والى الهلاك. إن وضعية المغرب الراهنة بالأرقام المتوفرة عن الديموغرافية المتفجرة، وعن الأمراض المختلفة التي تؤطرها من كل جانب،وعن فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، تجعلنا نتساءل مرة أخرى : أي غد ينتظر الأجيال المغربية الصاعدة، وهي تكبر وتترعرع في أحضان هذا الجسم العليل بالأزمات والأمراض الفتاكة؟. -7- السؤال الصريح والواضح، الذي تطرحه «الأزمات المغربية المتراكمة» على مغرب اليوم/ مغرب الألفية الثالثة/ هو في الحقيقة يتوزع على عدة محاور : ماذا يمكن أن يحدث ببلد متخلف مثل المغرب الراهن، يعاني من فساد الإدارة. ومن البطالة، والفقر والأمية، ومن الجفاف وشح المواد الغذائية، وغلاء الأسعار، وتدني الأجور... في ظل سياسات حكومية فاشلة...؟ ماذا يمكن أن يحدث ببلد يعاني من أزمات الفساد الحزبي/ الفساد الانتخابي/ الفساد المالي... من ضعف الإرادات، وإلى جانبها، يعاني من شراسة الهاجس الأمني، ومن شراسة القرارات السلطوية اللامعقولة والقاسية، ومن تحديات المعطلين، ومن تردي الحريات العامة وحقوق الإنسان ومشاعر المواطنة...؟ ماذا يمكن أن يحدث ببلد، يلتقي على أرضيته غضب الجياع، وغضب العاطلين، وغضب المأجورين، وغضب النقابات، وغضب الأطفال العاملين، وغضب أطفال الشوارع، وغضب التلاميذ المطرودين من المدارس، وفساد السياسات على صعيد واحد...؟ ماذا يمكن أن يحدث إذا التقت كل هذه الأزمات...وكل الغضبات منها، بظروف أزمة دولية، اقتصادية، سياسية بالغة الصعوبة، يقترن فيها الجوع والتخلف وفساد السياسات في هذا القطر، بمنافع ضخمة تعود على أقطار أخرى. لا أريد ولا أسعى الإجابة عن السؤال المتعدد المحاور، فذلك شأن المختصين. ولكن إشكالية الأمن الغذائي، وارتفاع الأسعار، وتدني الأجور وتوسع دائرة الفقر والبطالة والتهميش، أصبحت تفرض نفسها على كل بلاد الدنيا. وخاصة على المتخلفة منها. وأصبحت تفرض على الصحفيين والكتاب والمفكرين والسياسيين والنقابين، الذين يملكون القرار، والذين لا يملكونه، التصدى لها، بالدراسة والتأمل والتحليل، والغضب والاحتجاج، ولو من باب التذكير والاستئناس والتساؤل. -8- ومعروف أن مشكلة الغذاء وحدها، وبعيدا عن السلبيات المؤثرة الأخرى، كانت وما تزال تحظى بأهمية قصوى لدى جميع دول العالم، وزاد الاهتمام بها في العقود الأخيرة، بعد أن تأزم الموقف الغذائي العالمي، وتزايد الطلب على الغذاء والمنتجات الزراعية. فلم تعد هذه المشكلة، اقتصادية فقط، وإنما أصبحت تشكل أزمة ذات أبعاد أخرى، سياسية وأمنية في غاية الخطورة، على الدول الفقيرة التي أصبحت بفعل السياسات الحكومية الفاشلة المتعاقبة، تستورد الغذاء من الدول التي أصبحت تستعمل هذا الأخير سلاحا لا تصدره إلا بشروط مؤثرة، وهو ما يعني بوضوح أن اعتماد الدول المتخلفة والفقيرة على استيراد الغذاء يجعل، منها عرضة للخطر في أية لحظة ... وفي أي بلد. الغريب في الأمر، أن حكومات العديد من البلاد المتخلفة/ الفقيرة، جعلت في العقود الأخيرة، من الأمن الغذائي/ الاكتفاء الذاتي في التغذية، شعارا لسياساتها وبرامجها ومبادراتها. لأن الهدف من التنمية كان وما يزال في كل الأقطار والأمصار، يتمحور حول قضية الأمن الغذائي، لما لهذا القطاع من خطورة بالغة على ظاهرة الاستقرار السياسي داخليا وخارجيا، فهذا الأمن الذي يعني بوضوح، اكتساب القدرة الإنتاجية الذاتية القابلة للنمو والتطور تسمح للمواطن بمستوى معيشي لائق كريم، وتؤمن حاجاته من المواد الغذائية الضرورية، لا يقل أهمية عن الأمن العسكري، فكلاهما يحمي الوطن من الانهيار ومن الاندثار ومن السقوط . إن الأمن الغذائي، أصبح يكتسي أهمية قصوى في الظرفية المحلية/ الدولية الراهنة، ومن أجل تحقيقه وفق شروطه الموضوعية، كان لابد لبلد كالمغرب، ينتمي إلى منظومة العالم السائر في طريق النمو، من بناء إستراتيجية زراعية متطورة ومدروسة تقوم على فهم عميق لأبعاد الأمن الغذائي وإشكالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فهذا الأمن يعني في المفاهيم ( السياسية/ الاجتماعية/ الاقتصادية ) تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، تأسيسا على قدرة المجتمع على تحقيق ذلك، بموارده وإمكاناته الذاتية، أي بقدرته على إنتاج كل احتياجاته الغذائية محليا. الأمن الغذائي في زمن العولمة، وتحرير التبادل التجاري بجعله خيارا استراتيجيا لا يمكن التنازل عنه مهما كلف ذلك من ثمن ومن تضحيات، لما له من علاقة بالأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وإذا كانت حكومات العالم السائر في طريق النمو، قد رفعت هذا الشعار، في الماضي وأمضت أيامها بسلام، وانسحبت لتترك مكانها لحكومات أخرى، تبدأ من جديد في رفعه واتخاذه خريطة طريق. فإن حكومات الألفية الثالثة، التي صادفت وضعية دولية مخالفة، لربما لسوء حظها، جاءت في وقت، لا تستطيع لا الشعارات، ولا عصا الأمن الغليظة، ولا إحسان الدول الشقيقة والصديقة، ولا استرحام قلوب الدول الغنية، ولا إخفاء رؤوس وزرائها، المسؤولين عنها في الرمال، لم يعد كل ذلك ينفع في تمرير هذه المرحلة، لأن وضع العالم اليوم، يختلف عن وضعه بالأمس. على المستوى المغربي، يجب الاعتراف، أن الأخطاء التي ارتكبتها سياسات حكوماتنا في الماضي، خاصة قبل ظهور القطبية الأحادية، تجاه الأمن الغذائي. وتجاه الأمن الصناعي، وتجاه الأمن الاجتماعي. تراكمت على ساحتنا السياسية والاقتصادية أخطاء أخرى في استعمال الموارد الطبيعية والثروات الدفينة في الأرض، وتراكمت عليها جرائم نهب المال العام. والفساد الإداري إلى أن وصل الأمر إلى ما وصل إليه، من بطالة ومرض وأمية وتهميش، وغلاء وفقر، وتخلف عن ركب البشرية، يقاس بعدة قرون، إذا ما أضفنا إلى هذه السلبيات، سلبيات أخرى تتصل بأزماتنا في التعليم والرعاية الصحية وتوفير السكن، وتطوير البحث العلمي، سنجدها ازمات مترابطة حول التنمية المفترى عليها في المغرب الراهن. - 9 - في المغرب، البلد الزراعي/ الفلاحي، بلد المناجم، بلد البحرين، وبلد الشباب، وبلد الخدمات السياحية، وبلد التراث الحضاري/ الثقافي المتعدد، ونتيجة للأخطاء المتراكمة على مدى سنوات طوال في إدارة هذه الطاقات الطبيعية والبشرية، نشهد اليوم مثلنا، مثل بلدان العالم المتخلف، جفافا شديدا، دون أن نجد له حل. ونشهد تراجعا كبيرا ومخجلا في إنتاج الحبوب واللحوم والخضروات والسكريات دون أن نجد له حل. ونشهد ارتفاعا فاحشا في الأسعار دون أن نجد لها حل. ونشهد تراجعا في القدرة الشرائية، وفي التشغيل، وفي الصحة، وفي التعليم، وفي السكن، دون أن نجد لها الحل... ونشهد أمامنا حكومة/ حكومات تردد شعارات التنمية، التي لم تحدد لها مفهومها حتى الآن، ولم تجد لها هي الأخرى أي حل . طبعا، مثل هذه الحالة، دفعت حتى الآن، الشارع المغربي إلى الاحتقان . * المعطلون الكبار والصغار، الحاصلون على الشهادات العليا، والذين لم يتمكنوا من التعليم، ينزلون إلى الشوارع كل يوم، يرتمون عند أقدام القوات المساعدة أمام البرلمان وأمام وزارات الحكومة وأمام مكاتب القطاعات العمومية وأمام العمالات والولايات، في المدن الصغيرة والكبيرة وفي القرى النائية، ويسلمون أجسادهم ورؤوسهم كل يوم إلى عصى الأمن وعصى القوات المساعدة، لتفعل بها ما تريد. * الشباب اليائس من أزمات وطنه، ومن سياسات وطنه، ووعود رجالات السياسة في وطنه، يركب كل يوم مراكب الموت، في محاولة للهروب إلى الشاطئ الآخر، الذي يرفضه شكلا ومضمونا، ويغتاله في البر والبحر، ويعامله بعنصرية قاسية، ولكنه يبقى مع ذلك هو أمله الوحيد للاستمرار والعيش. * المأجورون في المصانع والمعامل والمتاجر، والموظفون الصغار في الإدارات العمومية وشبه العمومية، وفي المجالس المنتخبة والغرف المهنية الذين لم تعد أجورهم الضحلة تكفيهم، لا للعيش ولا للموت. أعياهم الاحتجاج، وأصبحوا يتوجهون جماعات وفرادى إلى الشوارع من أجل الصياح، والارتماء إن اقتضى الحال عند أحضان الموت من أجل الخلاص. * أطفال القرى، وأطفال أحزمة الفقر بالمدن، والأطفال المتخلى عنهم والأطفال المهمشون، والأطفال الذين يعملون من أجل خبزهم وخبز أسرهم، والأطفال المحرومين من التعليم، والمطرودين من المدارس، أصبحوا هم أيضا، يشكلون ظاهرة ملفتة، في الشوارع الكبرى، وفي الشوارع الخلفية، يتعاطون الرذيلة والتسول والسرقة والجريمة، على مرأى ومسمع من الأحزاب والمنظمات ... ومن الحكومة، ومن كافة قطاعاتها الاجتماعية، من أجل سد الرمق والاستمرار في الحياة، خارج أية رقابة أو اهتمام . * النقابات وجمعيات المجتمع المدني، تعلن بوضوح، أن الحوار مع الحكومة/ الحكومات المتعاقبة وصل إلى الباب المسدود. وأن لا حل في الأفق للأزمات المترابطة: للأمن الغذائي ولانخفاض الأجور ولإصلاح السياسات الاجتماعية. وللازمات المترابطة والمتشابكة على الجسد المغربي، وهو ما يعني، استمرار وضعية الفقر والغلاء والبطالة والتهميش، واستمرار الأزمة/ الأزمات وحالة الاحتقان... على حالها. وإلى إشعار آخر. -10- الذي لا شك فيه أن «الأزمات المغربية»، وهي مصبوغة بكل الألوان ،لا ترتبط فقط بالخلل الذي يمس القطاعات الحيوية : التعليم/ الصحة/ السكن/ الفلاحة/ الصناعة/ الشغل/ الخدمات/ الثقافة/ السياحة، ولكنها ترتبط أساسا بالخلل الذي مس/ يمس التخطيط منذ عدة عقود، وهو ما جعل/ يجعل التخلف حقيقة لا جدال فيها. في ظل هذه الحقيقة المقلقة، يأتي السؤال ملحا : ما هي صيغة المستقبل الذي ينتظر بلدا متخلفا، وجد نفسه كذلك في زمن التقدم العلمي والتكنولوجي والعولمة، وهو يعاني من أمراض وأزمات وإشكالات ورث بعضها عن الماضي الاستعماري. وكرس بعضها أو أغلبها في عهد الاستقلال...؟