من السهل الانطلاق من دعوى مؤداها أنه في غياب مشروع مجتمعي واضح المعالم لا يمكن أن نتحدث عن مشروع مؤسسة؛ فنحسم بذلك الخوض في الموضوع منذ البداية؟أو على الأقل من سؤال:هل مشاريع المؤسسات المتداولة سابقا وحاليا هي انعكاس بشكل أو بآخر لمشروع الوزارة أو الجهات الرسمية؟ طبيعي أن نقر بأن نجاح أو فشل أي مشروع رهين بالنتائج التي حققها أوسيحققها، وهنا لا داعي أن نذكر بوضعية القطاع أو بمشاريع الإصلاح التي قطعها حتى الآن، ومنه، فإن نتائج الإصلاح وضمنها مقتضيات مشاريع المؤسسات تنظيرا وتكوينا وتدبيرا لم تحقق نتائج على المستوى العام، أي على مستوى تحسين التعلم أو تطوير التعليم... باستثناء بعض المشاريع الجزئية ذات الصلة بجوانب كالتجهيز والبيئة وتحسين مظهر المؤسسة... والتي لا يمكن أن تعتبر نقلة نوعية على مستوى القطاع عامة؛ من هنا يحق لنا التساؤل حول: شرعية ومشروعية العمل بمشروع المؤسسة كغاية يروج لها في الخطاب التربوي منذ حين؟ ثم كيف يمكن بناء مشاريع تسايرالمشروع العام؛ أي مشروع الدولة والوزارة الوصية على القطاع؟ وهل يمكن أن نتحدث عن مشروع في غياب الاستقلالية؛ أي استقلالية المؤسسة والفاعلين؟ وهل يمكن ربط مشروع المؤسسة بالبعدين البيداغوجي والديداكتيكي في ظل صرامة وإلزامية الاختيارات والمقاربات المعتمدة في بناء المنهاج المغربي من جهة وتضخم مفردات البرامج الدراسية لكل المواد ؟ إضافة إلىمركزية المقررات الموحدة التي لا تستحضر البعد الجهوي في بنائها، ومركزية الامتحانات الإشهادية التي يبنى عليها الانتقال بين الأسلاك التعليمية في المنظومة التربوية رغم إحداث نظام الأكاديميات الجهوية للتعليم؟ هذه الأسئلة وغيرها، تستوجب منا أولا فهم فلسفة مشروع المؤسسة، لأنه لا يمكن أن نكون بالسذاجة التي ستجعلنا نؤمن بأن المؤسسة التعليمية كانت تشتغل بدون مشروع قبل هذه الموضة، وإلا حق لنا التساؤل: ما الضوابط التي كانت تحكم المؤسسة التعليمية قبل الحديث عن مشروع المؤسسة بشكل رسمي؟ فهل انتقلنا فعلا من اللامشروع إلى المشروع؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نفسر النجاحات السابقة التي حققتها المدرسة المغربية وعلى رأسها المدرسة العمومية؟ قد يقول قائل إن التطور الطبيعي للمؤسسة التعليمية، وتراكم التعقيد ودرجات التركيب ومستويات الحاجات التعلمية والتربوية فرضت نوعا من التدخل التنظيمي والتربوي لمسايرة الوضع، ولن يكون مشروع المؤسسة سوى درجة من درجات التدخل لتحقيق المسايرة، وسنرد على ذلك بكون قراءة بسيطة للمستويات التي وصلتها المؤسسة التعليمية ومعها القطاع الآن كفيلة بإفحامنا وخاصة حينما يُعلن عن تدني مستويات كانت المؤسسة قبل «المشروع» متميزة فيها، ولم تكن، حينها، تطرح أي مشكل من مثل: (الالتزام بالوقت، الصرامة الإدارية،انطلاق الدراسة في مواعيدها، مستويات القراءة، التحكم في اللغات...). وكيف ما كان الحال، وتفاديا لتناسل مثل هذه أسئلة، يمكن أن نقر أن المؤسسة التعليمية انتقلت عبر مرحلتين مفصليتين: من مدرسة الثقافة إلى الثقافة المدرسية ومعها تم الانتقال من مؤسسة المشروع إلى مشروع المؤسسة، أي من مؤسسة هي قلب المشروع إلى مؤسسة في حاجة إلى مشروع. سياق المفهوم بدأ الحديث عن مشروع المؤسسة منذ نهاية الثمانينيات بداية التسعينيات من القرن الماضي، وتعتبر المذكرة 73 بتاريخ 12 أبريل 1994 في موضوع: دعم التجديد التربوي في المؤسسات التربوية، التي وجهت إلى مديري الأكاديميات والنواب والمفتشين ومديري المؤسسات التعليمية، من أوائل الوثائق الرسمية التي عرضت لهذا المفهوم في المنظومة التربوية المغربية. ولا يخفى على الجميع المناخ السياسي والاجتماعي الذي عاشه المغرب في هذه الفترة والذي اتسم عموما بتعبير الدولة عن رغبة غير أكيدة في مصالحة المجتمع، ومعه بدأ الحديث عن مفاهيم: الإشراك والشراكة، والكفايات، والمسؤوليات، والإصلاح... وهي شعارات صيغت في وثيقة اصطلح عليها فيما بعد بالميثاق الوطني للتربية والتكوين.تمت محاولة إضفاء صبغة الإجماع على الميثاق على الرغم من كونه لم يخضع لأي آلية من آليات المناقشة المؤسسية، ولكن حينها لم يكن باديا للعموم أن الميثاق يؤطره هدفان أساسيان هما:– التحكم في نسب النجاح وتحديد معدل ولوج المؤسسات العليا، وفي هذا المجال راهن الميثاق على استقلالية الجامعات وأسند لمجالسها مسؤولية انتقاء العدد الذي سيستفيد من الدراسة الجامعية، وهو ما سيجعل الجامعة في مواجهة مع المجتمع. – تقليص النفقات العمومية المرصودة للتعليم، إما بفرض ضرائب جديدة أو إشراك الخواص ليتحملوا نصيبا من عبء الخدمة التعليمية العمومية، وفي هذا المجال راهن الميثاق على التخلص من ربع المتعلمين من التعليم العمومي لصالح التعليم الخاص في نهاية العُشرية. في ظل هذا السياق سيطرح مفهوم مشروع المؤسسة في الحقل التربوي، وسيتأسس على خطوات تروم تدبير هذه الرؤية وتحقيق هذين الهدفين، ولكن برؤية تضع المؤسسة في مواجهة مع الشركاء والمجتمع، وفي غياب آليات قانونية تجعل المشروع يخضع لحكامة حقيقية، وتضمن تنزيله خارج مجال الإقناع والاقتناع الذاتي لا المؤسسي، وهو ما شكل وسيشكل تحديا إن على مستوى تقدير المردودية أو تحفيز المؤسسات على تحمل المسؤولية. المفهوم وسيرورة الإصلاح نعترف أن رهان العمل بالمشروع رافق كل مشاريع وخطط الإصلاح التي همت القطاع التعليمي، من الميثاق إلى الرؤية الاستراتيجية، وخلال هذه السيرورة يمكن أن نرصد أن صيغ مشاريع المؤسسة لم تتغير كثيرا على مستوى العمق النظري والآليات المنهجية والمفاهيم،لكنها تغيرت على مستوى المجالات التي استهدفتها؛ فعلى المستوى النظري كل صيغ مشاريع المؤسسات لم تخرج عن هذه الخطوات: تشخيص الوضعية، تحديد الأهداف، التخطيط للمشروع فتدبيره ثم التتبع والتقويم. أما على مستوى المجالات المستهدفة فيمكن حصرها في مرحلتين رئيستين:- مرحلة استهداف البنيات والتجهيزات وفضاءات المؤسسة؛- مرحلة استهداف التعلمات التي حاولت العمل على الرفع من مؤشرين:أولا: معدلات النجاح، وثانيا: نسب النجاح.وهي محاولة لإعطاء معنى للخريطة المدرسية خارج إكراهات التحكم في صبيب النجاح. وهنا يجب أن نعترف أن المتحكم في صياغة ومحاولة أجرأة المشاريع هوالحاجات الملحة للمؤسسة بناء على التقارير التي كانت تصدر إما عن مركز التقويم والامتحانات أوالمنظمات الدولية،وكانت الغاية الأساس هي ضمان ديمومة المساعدات الدولية للقطاع، والاجتهاد للانضباط للمعايير والمؤشرات الدولية للتنمية البشرية في إطار الحفاظ على العلاقات مع الشركاء الدوليين على الخصوص... وتبعا لذلك لم يكن الهدف من مشروع المؤسسة واضحا ولا دقيقا بما يجعل مبدأ الحكامة قابلا للقياس، ولم يعد الفاعل التربوي والمتتبع يحسم: هل الهدف هو فعلا تحسين مستوى المؤسسة بغض النظر عن بلوغ المؤشرات المطلوبة دوليا، أم تحقيق هذه النسب حفاظا على التعاقدات المبرمة. مشروع المؤسسة رؤية استشرافية ونحن نسوق كل هذه الإكراهات، والانتقادات، والخلفيات التي سايرت وأطرت مفهوم وتصور مشروع المؤسسة ومعه فلسفة الإصلاح عموما، لا ينبغي أن نترك انطباعا عدميا تجاه هذا التصور، ولا تجاه أي عمل،فقط لأنه فوقي، ولا نبغي أن نكون ممن يزرع اليأس ويعمق الإحساس بالإحباط تجاه المؤسسة التربوية، ولكن الذي حملني على هذا النحو من القول هو رغبة في الانطلاق من حقائق بادية للعيان، ولم تعد تخفى على أحد، لرسم ما يمكن أن نقدمه من اقتراحات في ظل وضعية يبدو أنها مستعصية على الممانعة سواء من خلال الانخراط في منظومة الإصلاح المقترح أو عبر التموقع خارج كل الرهانات الرسمية. لقد تم إجهاض المؤسسة المشروع لصالح مشروع المؤسسة، وتم التخلي عن مدرسة الثقافة لصالح الثقافة المدرسية، ففقدت المؤسسة مناعتها وتأثيرها على المجتمع، وبدل أن تصدر قيمها الثقافية الاستشرافية، تلوثت بقيم غريبة عنها (الغش، الانتهازية، المخدرات، الريع التربوي...) والأسئلة التي علينا الإجابة عنها هنا، هي الآتي: - ألا يمكن أن تكون المدرسة، وفي ظل وضعيتها المأزومة هذه، منطلقا لإصلاح المجتمع؟- في ظل وضعية متسمة بكل السلبيات السابقة، وفي ظل رفض الجهات الرسمية توفير الظروف الممكنة لإصلاح حقيقي على الأقل كما تقترحه الجهات الممانعة، كيف يمكن إصلاح المؤسسة لتصبح أسا لإصلاح المجتمع؟- في ظل المناهج والبرامج والمقررات وإكراهات الزمن المدرسي الحالي، ألا يمكن تربية متعلم حامل لفكر نقدي، وممتلك لأدوات انتقاد مؤسسته وواقعه، وكفيل بالقيام بالاختيارات الصحيحة؟ أليست في التاريخ تجارب لأمم تقدمت وازدهرت من منطلق المؤسسة التعليمية ذاتها؟- ألا يمكن التخلص من فكرة انتظار تحقق الإصلاح المجتمعي الشامل الذي سيقود بالضرورة الحتمية إلى إصلاح المدرسة؟ إن إسناد مهمة الإصلاح للمؤسسة بدل أن تكون موضوعا له لا يعني أن تصبح المؤسسة بديلا عن الدولة، ولا عن المجتمع، ولكن الغرض هو إعادة النظر في دور المدرسة من خلال الإيمانبمركزية الفاعلين فيها، وإيمان الفاعلين التربويين بها، فبالرغم من كل الإكراهات، ومهما كانت ظروف المدرسة فهي قادرة على بناء المجتمع من خلال تمكين المتعلم / المواطن من أدوات النقد والاختيار، من آليات ومهارات التفكير المنطقي والعقلاني، إن الأداة الأساسية لتحقيق ذلك هي العنصر البشري الواعي والمنخرط في بناء هذه المؤسسة/المشروع بعيدا عن البعد المادي الذي يؤدي إلى تسليع المؤسسة، فالمؤسسة المشروع تنتج النخب القادرة على التفكير وإنتاج الشروط الفكرية والعقلية القادرة على الخلق والإبداع، وباعتبار المدرسة مؤسسة للتنشئة الاجتماعية، ولا يمكن أن نستعيض عنها بأي مؤسسة بديلة، فإنها في وطننا هي الكفيلة برسم أفق الانتظار المجتمعي المأمول، تحقيق تكافؤ الفرص على مستوى امتلاك المعرفة والرقي الفكري والاجتماعي، ومن خلالها نستشرف المستقبل. لذلك فالمدخل نحو تخطيط مشروع الإصلاح والمؤسسة المشروع يجب أن يتم أولا على مستوى العقلية الفاعلة في المؤسسة، وأن يتجه نحو المتعلم ثانيا. إن الاضطلاع بهذه المهمة لا يدخل في ثقافة مسايرة الخصم، وإن التحايل على الواجب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتبر موقفا نضاليا ممانعا. إن المؤسسة إذن ليست مشروعا خاصا، بل هي مشروع مجتمع. المؤسسة هي في ذاتها مشروع. *مفتش تربوي / أسفي