محمد معتصم هو أحد النقاد الذين عملوا على حفر بصمة خاصة داخل المتن العام للنقدية العربية، عبر ما راكم من منجز عرف عنه غزارة إنتاجه وأصالة بحثه، سواء في أعماله النقدية أو التنظيرية، أو في المتابعات الكتابية السردية فأعماله تتميز بالرؤية والتجديد المتواصل لأدواته، ما أهله للفوز بجائزة المغرب للكتاب. في هذا الحوار نفتح زاوية مع صاحب (الشخصية والقول والحكي) و(الرؤية الفجائية) لنناقش مواضيع راهنية بالساحة الثقافية، ونسائل معه موضوع النقدية اليوم؟ p أنت من النقاد المغاربة المعروفين بغزارة إنتاجهم، وتأهبهم الدائم لمتابعة جديد الساحة الثقافية، ألا تجد معي أن المجهود الفردي وحده لن يكون حليف تطوير النقدية المغربية، في ظل غياب مؤسسات مستقلة تدعم الناقد وتكون سندا لاستقلاليته؟ n معك حق، المجهود الفردي يستنزف طاقة الباحث والناقد الأدبي، وهو ما يحد من فاعلية التأثير الإيجابي في الحركة الإبداعية من جهة، وفي الحركة النقدية من جهة أخرى. إلا أن العمل الفردي في ظل غياب أي سند ودعم مؤسساتي، يفرض على الباحث والناقد الاجتهاد ومقاومة كل أشكال الإحباط، نظرا للمكانة التي يوضع فيها الإبداع الفكري والأدبي والسياسي في البلدان العربية، عامة، وهي مكانة غير مشرفة، فالتنظيمات الرسمية والمدنية لا تضع اعتبارا للثقافة في مخططاتها ولا في برامجها الانتخابية، وتكتفي بدعم وتشجيع الظواهر الانفعالية والطارئة التي توهم بالفعل الثقافي وتسوق الادعاء السطحي، ويمكن التأكد من ذلك في شتى الميادين؛ البحث والإبداع والفن. p أنت روائي وشاعر أيضا إلا أن عملك النقدي غطى على ذلك كثيرا، حتى أننا لا نسمع إلا عن محمد معتصم الناقد، أمازلت إلى اليوم تجد نفسك في النقد أكثر؟ n نعم، كتبت رواية بعنوان «سيرة سفر»، وكان موضوعها خاصا جدا، ارتبط بمرحلة تحملت فيها مسؤولية نقابية، وكانت تجربة عنيفة، خاصة في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ولأنني كاتب، متفاعل مع الحياة عامة، ومع الواقع خاصة، ولأنني أعتقد أن من مهام الكاتب أن يكون كذلك، وأن يكون واعيا ليس فقط بالمرحلة ومتطلباتها وقضاياها، بل عليه أيضا أن يهتم بالخطاب، السياسي والثقافي والفكري والإبداعي، وأن يدرس آليات اشتغاله من حيث التأثير والتوجيه في المتلقي والمرحلة، ومن الفطنة الانتباه إلى الخطابات المضادة وميكانيزماتها كذلك، وبالمناسبة أيضا الانتباه إلى الخطابات الزائفة، وجدتني منخرطا في كتابة كل ما عشته وما رأيته واستخلصته من تلك التجربة التي لا تختلف عن باقي التجارب في الحياة، لها إيجابيات وسلبيات، في تلك الرواية. أما الشعر، فإنه متعة عميقة فكرية وفلسفية للوجود وتوسيع لآفاق الذات واختبار حقيقي للغة، وإنتاج الخطاب البياني (البلاغي) الذي احتضن منذ البدء الصراعات كلها. وأجمل من الشعر الذي كتبته قراءاتي للشعر العربية والعالمي، وما أكتبه حتى الآن كشذرات أعتبره بؤر تركيز أفكار ومشاعر خاصة بالحالة التراجيدية للوجود الإنساني، أحب مسحة الحزن في الشعر، والمأساة الوجودية للكائن. ويظل النقد الأدبي من أكثر المجالات إغراء عندي، لأنه يواقف القلق الذي أعيشه، ويسمح لي بالتكلم عبر كلام غيري، ويمتعني كثيرا الاشتغال على أفكار غيري وإعادة صياغتها وتجميلها من جهة وتحميلها من جهة أخرى كل ما أفكر فيه وما أراه، لذلك أعتقد أن النقد ضرورة قصوى لكل أدب ولكل مجتمع يسعى نحو الرقي، لأن النقد ميدان تعايش وتفاعل وسجال الأفكار التي تحبل بها المجتمعات وهو كذلك مهد التطلعات والتصورات الناشئة، بالإضافة إلى وظيفته التقليدية تمحيص الكتابات والوقوف على ما تميز بالإبداعية والجدة والانفتاح على العالم والوعي بالخصوصية المحلية... p كيف ترى واقع الحركة الشعرية اليوم؟ هل القصيدة المغربية بخير؟ n أهم ما يميز الحركة الشعرية، كما أقول دائما، أنها ميدان تتعايش فيه جل التجارب، من القصيدة التقليدية بموضوعاتها (الأغراض الشعرية) وعمود الشعر (بنية القصيدة ومراحلها)، إلى قصيدة التفعيلة، والنص الشعري المتحرر من أي قيد، كقصيدة النثر أو النص الشعري الأبيض الذي أطلق عليه البعض اللاقصيدة حيث تمَّحي الحدود الفاصلة بين الأنواع. هذا بالنسبة لي مظهر مهم جدا، لا شك في أنه سيفرز ظاهرة شعرية مغربية خاصة، وأرى ملامحها قوية في مواقع التواصل الاجتماعي ونسبة التفاعل مع نصوص دون غيرها. الملمح المميز كذلك للحركة الشعرية المغربية المعاصرة أجده في إنتاج الدواوين الشعرية، وطبع الكثير منها خارج المغرب، وهذا الملمح يدل على كسر الحواجز والأغلال التي فرضت على القصيدة المغربية تاريخيا، من جهة، وسياسيا، من جهة أخرى، ثم فكريا، لأن الشاعر المغربي يمتاز بتعامله الخاص مع اللغة الشعرية، وميله نحو التفكير الفلسفي والتنظير الإبداعي، وهذه جمالية خاصة مختلفة عن الجمالية الغنائية والإنشادية... كل هذا يدل على أن القصيدة المغربية، بعيدا عن التكتلات الضيقة، بخير، وتحتاج إلى مواكبة نقدية واعية بخصوصية الشخصية المغربية والموروث الشعري المغربي المدون وغير المدون، والإدراك العميق كذلك للتنوع الثقافي المغربي والجغرافي... p كيف ترى للتجارب الشعرية الشابة هل هي تكرار لسابقيها، أو هناك نوع من الجدة والأصالة في تجربتها، في وقت يرى عدد من النقاد أن هذه التجارب لم تجتز كثيرا مراحل بقصيدة النثر؟ n تجنبا للحساسية التي ترافق لفظ «الشابة»، أعود بالمناسبة إلى ما كنت أطلعته على الكتابات «الشابة» في الثمانينيات؛ «التجربة الجديدة»، لأن لفظ «شابة» قياس بالعمر، فالشباب مرحلة عمرية، بينما لفظ «الجديدة» يحيل على الخصوصية الإبداعية، أي أن هناك كتابة مغايرة، وهو ما يشمل أكثر من جيل، منخرط في بلورة رؤية شعرية موحدة، تنبثق عن استنزاف تجربة شعرية سابقة عليها، أو بروز متغيرات جديدة فكرية وسياسية وثقافية واجتماعية، والحق أن الواقع المغربي عرف في الآونة الأخيرة (العشرية الأخيرة) العديد من المتغيرات المحلية والمحيطة والدولية، وهي تحتمل دلالة أكثر من تعبير التحول، لأنها فعلا هزات وزلازل غيرت ملامح الخارطة السياسية وأنتجت فكرا كان محدودا ومحصورا وكامنا، كما في السياسة، اختفت دول كبرى وتجمعات كبيرى لصالح تكتلات صغرى وأقليات محدود التفاعل والتأثير، إنه انقلاب وانفجار كوني «مجتمعي»، ومن العيب أن يبقى الفكر والإبداع متشبثا بما قبل هذه الزلازل، ليس فقط «التجربة الجديدة» التي تقول عنها «شابة»، ولكن كل التجارب المتعايشة في الميدان. أما قصيدة النثر فهي تجربة إبداعية ووسيلة من وسائل التعبير، التي جاءت كضرورة للتفاعل الثقافي، وجاءت كرد فعل على الإحباط السياسي وخاصة انكسار الأفق الثقافي المغربي، أمام كتاب جدد، اصطدمت أحلامهم ليس بالفاعل السياسي وحده، كما في سنوات الستينيات من القرن الماضي، بل اصطدمت بالفاعل الثقافي، وهو نهاية أفق المثقف الإيديولوجي... وأعتقد أن قصيدة النثر ما تزال قادرة على لعب أدوار ريادية في اللحظة السياسية والثقافية والاجتماعية الآنية، أما ما عرف باللا نص أو باللا قصيدة، فهذه تحتاج إلى مزيد من الحفر في جمالياتها ووظائفها المعرفية من قِبلِ الشعراء جميع الأجيال، ونقاد الأدب، وأستبعد أن يبحث فيها الأكاديميون لأنها لم تنتج بعد نظريتها الخاصة أو منهجها ليتناقلوه فيما بينهم. p كيف ترى لواقع الساحة النقدية المغربية اليوم؟ n أنظر إلى النقد المغربي نظرة تعاطف، وقد أثبت الناقد المغربي حضوره عبر: الدراسات النقدية التحليلية، والبحوث الجامعية، والنقد الصحافي، والترجمة. ويقوم كل فرع من هذه الفروع العامة بوظائف ومهام تثري النص الأدبي وتكشف عن خصوصياته الجمالية. وإذا أضفنا إليها النقد الفكري (الفلسفي) نجد أن ما ينقص النقد المغربي هو الدعم المادي والمعنوي، وتهيئة ميدان الكتاب، طباعة ونشرا وتحفيزا وتخصيص وسائل دعائية متنوعة ومختلفة جادة، لأن في استغلال هذه الطاقات يمكننا الوقوف أمام كل الدعاوى المخربة التي تسعى جاهدة إلى فصل المغرب عن جذوره ومحيطه بضرب اللغة العربية الفصحى لصالح اللهجات المحلية العامية، والتي تسعى إلى طمس الهوية المغربية بتغريبها ... إلى غير ذلك من التهديدات الحقيقية للكينونة المغربية وخصوصياتها. p لا نرى زخما كميا للرواية المغربية، لكننا نجدها قوية وحاضرة نوعيا على المستوى العربي، ما مرد ذلك في نظركم؟ n ولكن هناك كتاب وكاتبات رواية جدد، الذي ينقص هو التعريف بهم، والتنقيب عنهم وعن أعمالهم، وتشجيعهم، محليا، أما عن النوعية، فانفتاح أفق وعي وتنوع تجربة الكتاب الجدد وفهمهم أكثر لحقيقة وجودهم ولحقيقة ذواتهم، أو تصالحهم مع الذات في قوتها وفي حالات ضعفها، هو ما خرج بالإبداع من الضيق الإيديولوجي والمحلي إلى المجال الإنساني الرحب. وهذا ما يحتاجه أي أدب حقيقي؛ أي نبذ كل تفكير عصبي ضيق. p كيف قرأتم تجاوز نوبل لأدونيس هذه السنة أيضا، رغم أنه أحد أقدم مطارديها؟ وهل تعتقد أنها لو منحت له لكان ذلك اعترافا ضمنيا إضافيا لقصيدة النثر العربية التي يعتبر من روادها الكبار؟ n أعتقد أن لجائزة نوبل للآداب منطقها الخاص، وأن أدونيس وكثير من الكتاب والكتابات العرب يستحقونها، إما لمساراتهم العلمية والأدبية والفكرية، أو لالتزامهم بقضايا مجتمعاتهم والمجتمع الإنساني، وبذلك يكونون قد قدموا إضافات مهمة للآداب العالمية، أو لإبداعياتهم، أي ابتداعهم طرائق جديدة في التعبير الأدبي شعرا وسردا ومسرحا، ولكن هناك قوانين خفية تتحكم في الجوائز، شخصيا لست مهتما بفوز أدونيس بالجائزة أو عدمها، لأن المسألة مرتبطة ببنية تحتية ثقافية عربية إسلامية (الدول العربية والدول الإسلامية)، فكيف يمكن مطالبة العالم بالاعتراف بآدابنا ونحن نضع الثقافة والأدب والفكر في آخر الاهتمامات السياسية وتخطيطات ومخططات التنمية، بل الأدهى أننا نضعها في موضع الشك والريبة ونتعامل معها كمحظورات وممنوعات، ونفرض عليها منطق الحذر، ونحاربها بنشر ثقافة مفرغة وسطحية مليئة بالضجيج بعيد عن الروح الخاصة لمجتمعاتنا، ونشجع على الاستجداء وتدمير الكيان والذات. نجيب محفوظ فلتة، وهو يستحق، أما بعد منح الجائزة للمغني بوب دايلن أو على أشعاره، وأنا من عشاقه، وكنت أحفظ عن ظهر قلب ألبومه في الثمانينيات المنصرمة «The train come back»، فهو دليل على وصول تأثير الرأسمال العالمي في تحديد الاختيارات الجديدة للعالم الجديد، وتحديد الأفق الشعري للإنسانية وكذلك الأدب والفكر.