أطباء بالقطاع العام يضربون ل3 أيام مطالبين الوزارة بفتح باب الحوار    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نُبْلُ ياسر عرفات والقضية الفلسطينية    المغرب يحتل المركز الثاني في كأس أمم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية بين المغرب والاتحاد الأوروبي    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    ذكر وأنثى فقط.. ترامب يتعهد بوقف جنون التحول الجنسي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    أسرة المدرسة العليا للتربية والتكوين بجامعة ابن طفيل تستنكر "المس بالأعراض" الذي يتعرض له بعض أطر المؤسسة    الإيليزي يستعد للإعلان عن الحكومة الجديدة    الكرملين ينفي صحة تقارير إعلامية تركية عن حياة الأسد وزوجته بموسكو    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة .. اغتراب حلم
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 09 - 12 - 2016

استيقظ طه من نومه سعيداً، حلمه بين يديه، والمستقبل في انتظاره. تناول فطوراً سريعاً، فنجان قهوة بحليب مع قطعة خبز محمصة وزبدة البندق. كان إحساسه باللحظة بطعم العسل الذي أضافه على قطعة الخبز. ظل لسنوات يمني النفس بالأمل، وتحقيق ذاته التي بدأت تتلاشى في متاهات الإحباط وهو ينتظر معانقة الوظيفة التي طالما حلم بها .شهاداته الجامعية صدأت في درج مكتبه. لم تأت الوظيفة في البلد،لكن كندا كانت تطرق باب حلمه. دون أن يسأل فتح الباب . كان قد راكم شهادات في الاقتصاد، قدم بحوثاً عن صندوق التقاعد، حتى أنه ظن نفسه قادراً على إيجاد حل لأزمة قانون المالية،واقتراح بدائل موضوعية تجنب الفقراء المزيد من الفقر. تبخرت اقتراحاته وآماله وهو يدخنها لفائف من النسيان...لكن نفس ملف ترشيحه للوظيفة العمومية هو نفسه الذي جعل مكتب الهجرة بموريال يطلب وده.
كانت الشوارع نظيفة قد كنستها أيادي المسؤولية ليلاً، خياله الذي طالما أتعبه بدا وكأنه يستحم في منتجع الواقع. فبين الواقع والخيال مسافة طوتها رحلته من الدار البيضاء إلى مطار موريال الدولي، على أرض خالية من الغبار ولميكا، وأعقاب السجائر. هنا بكندا، يحترمون حتى الإسفلت، لا يسمحون أبدا بإتلاف رونقه ولمعانه لا يدري كيف انساب النوم إلى جفنيه أول ليلة .
أشجار وأزهار حيته هذا الصباح وهو في طريقه إلى عمله بشركة تابعة للطيران الخاص. قدم شهاداته وأوراقه، وكان واثقاً من نفسه وهو يعرض إمكانياته. لم يرن تليفون لمؤازرته، ولم يقدم مظروفاً يحسم في تشغيله. سلاحه كفاءته ولا شيء غيرها. بمحطة الميترو، الكل يجري وفي كل الاتجاهات تتفرق الجموع لتلتقي في بيت فسيح اسمه الوطن. كان بإمكانه أن يضبط حياته بانتظام أوقات كل المواصلات العمومية. إنها بداية سنته الثالثة، ولم يحصل أبداً أن تأخرت حافلة أو قطار أو ميترو عن الموعد. الوقت عندهم من ذهب. ولا يسمح بتبديده أبدا. لكل واحد حقوق وعليه واجبات. و «من حقوقك احترام وقتك ومن واجباتك احترام وقت الآخرين». فكر طه، وهو يستقل المترو،» كل شيء هنا يدور في فلك الاحترام و الاحترام المتبادل». ابتسم وهو يتذكر معاناته في بداية مجيئه. كان قد تعود وهو في بلده أن يتفحص في تضاريس النساء ويتغزل بأنوثتهن. كان يعتبره تصرفاً طبيعياً. كان ينظر إلى المرأة وهو يقرأ كل حروفها متمعناً دون خجل، فكم من مرة فاه بعبارات إعجاب لا تخلو من سوقية. «بس بس أزين ما نشوفوكش؟...و فين..؟ حرام الزين يمشي بوحدو..»كان يطلق للسانه العنان ولا يلجمه أبداً، سعيداً برجولته ووسامته. بكندا، اختلف الوضع وأصبح عليه أن يقمع إحساسه، ويسكت نظراته . ف»التحنزيز « يعد تحرشاً جنسياً، قد تكون عواقبه وخيمة. أما إذا اشتكت أي امرأة من أسلوب لم يعجبها، أو لإحساس، مجرد إحساس بمصادرة حريتها والتطفل على خصوصياتها، فالسجن لا محالة في انتظار المتربص. لم يعرف لم حضرته بقوة صورة الطفلة القاصر من آكادير التي اغتصبت وأرغمت على الزواج من وحشها المغتصب. فعاشت طيلة ستة أشهر اغتصاباً متكرراً يومياً تطالع فيه وجه قاتلها وهو يتلذذ بقتلها كل يوم ألف مرة. علاقة ناشز أجهزت على كل ما تبقى من آدميتها، فوجدت في الانتحار خلاصاً لها.كانت شهيدة أعراف خاطئة، وعقل ذكوري جامد،شهيدة مجتمع يعتبر الضحية مشاركة في الجريمة وإن لم تكن مسؤولة عنها. تذكر طه كيف تألم لمصابها ونهايتها المأساوية،سنتان كانتا كافيتين كي يغتسل من أدران الفحولة المتخيلة والذكورة الفجة والتخلف،ويولد من جديد. لقد تعود أن ينظر للمرأة كإنسان وليس كبضاعة في سوق. شارك في موريال بالمسيرات التي خرجت تندد بهذه الجريمة النكراء طالما أن الاغتصاب بكندا يعد من أكبر الجرائم فظاعة.عقوبته قد تصل للمؤبد . لا ترى أبدا الشرطة هنا، إنهم غائبون حاضرون، في لمحة البصر تجدهم أمامك وكأنهم خرجوا لتوهم من الجدران والطرقات والأزقة، أو نزلوا من السماء العالية وكأنهم ملائكة لا ترى منهم سوى حنو الابتسامة. ربما رأى فيها الزاهية ،وكم مرة دخل في شد وجذب ساخن مع أناه وهو يرى في نساء مغربه السحيق الزاهية. لقد تعلم كيف يصبح الاحترام عدا كونه تربية، كما التطوع، ثقافة تزرع في النشء منذ الصغر..» و تمنى في قرارة نفسه أن تتحرر أخته الزاهية من خوفها كلما خرجت للشارع و لو في وضح النهار. تمنى أن يصبح احترام المرأة في بلده، تربية وثقافة. وهو يناجي نفسه التي أتعبها الحنين الجارف للوطن انتبه لمتشرد صعد إلى نفس عربته بالميترو. كانت ثيابه رثة توحي بشدة البؤس. تطلع طه حوله، راصدا تصرفات الراكبين تجاه هذا المتشرد المثير للفضول. لم ينتبه له أحد ولم ينظر أي راكب إليه بتقزز أو تأفف. وهو يبني ويهدم الأفكار تلو الأخرى لم ينتبه طه لأي راكب يحملق فيه أو يحرج هذا المتشرد القادم من أقاصي المحنة والألم. بكندا لا يعير الناس اهتماماً للمظاهر ولا يصدرون أحكاما مسبقة على الآخرين، من ثيابهم أو مكان سكنهم... بالتأكيد لم يولد المتشرد متشرداً، ولا الفقير فقيراً، لا يدري كيف استحضر طه سقراط، حين قال:» لا يجب أن تختار أقصر طريق لتكون شخصاً فاضلا . لتكون كذلك عليك أن تعبر وترى ما وراء حدودك «.فكر طه متألماً، أن بالمغرب للأسف، أغلبية الناس لا تهتم سوى بالمظاهر الخادعة، وبما يملكه الآخر من مال وأرصدة، حتى أصبح التباهي وقيم الثراء هي سبب الفساد الإداري والمالي، واتسعت مساحات التهميش والتفقير والاستعباد الاجتماعي والثقافي والسياسي حتى بات البلد ضيعة كبيرة.
هنا تساءل طه في حيرة، هل يملك أي أحد ترف إلغاء إمكانية أن تطوله يد التشرد أو الفقر مستقبلا؟ فكم من مليونير أضاع ثروته في البورصة مثلا، وبات وأصبح لا يملك قوت يومه.. لم ينتبه طه أنه نزل من الميترو وأصبح قاب خطوات من الشركة إلا على صوت رقيق يسأله وهو غارق في تحليل ممارسات عاشها وشاب عليها، «أنا زميلة لك بالشغل، هل ترغب باحتساء قهوة معي في كافيتيريا الشركة؟ ربما تطلعني على بعض الأمور، أنا جوانا.» رفع رأسه، ولأول مرة بعد سنة، يدقق ويتفحص وينظر عشرات النظرات. كان سعيداً وهو يرى ملاكاً بعيون زرقاء، وشعر أشقر، وجسم مصقول، نحتته بإتقان يد الخالق. «بكل سرور ، يسعدني ذلك، قال طه». كان هذا تعارفهما الأول،وفنجانهما الأول، ولم يعد طه يرغب في احتساء قهوته وحيداً، أو الجلوس وحيداً تغلغلت جوانا في شرايينه حتى أصبحت أقرب إليه من حبل الوريد. عرفته على أسرتها، أبيها البناء، وأمها المعلمة، كانت أسرة متماسكة، والظروف المادية جيدة. وكم تعجب كثيراً عندما علم أن الاشتغال في البناء يدر دخلاً كبيراً على صاحبه. بكندا يقدرون الأعمال الشاقة، قال طه في نفسه وهو يتذكر آلاف البنائين والعطاشة بالمغرب الذين بالكاد يسدون رمق حناجرهم.» ينظر إليك باحتقار، ولا تشفع لك ساعات طويلة من الكد والعمل، حتى تشققات يديك لا تشفع لإنصافك! كم أنت مظلوم أيها المسكين»وجد طه نفسه يناجي الآلاف المكلومين. وكان أبو جوانا في قمة الافتخار، وهو يحكي عن عمله وأهميته. يستخلص عن كل ساعة عمل ثلاثين دولاراً ،وهو نفس المبلغ الذي تجنيه زوجته المعلمة...ورأى طه أن من أجمل الأفكار المبهرة والجميلة تخصيص جزء من الضريبة السنوية على السكن الخاص للنهوض بالتعليم. وتسمى الضريبة المدرسية. تعجب أكثر عندما حكت له جوانا عن وجود متخصص في التوجيه والإرشاد، ومتخصص في علم النفس، وممرضة في كل مؤسسة تعليمية لمصاحبة التلاميذ والطلبة .حتى الأساتذة بجميع المستويات متواجدون دائما لمساعدة الطلبة والتلاميذ وتقديم كل الدعم. انبهر أكثر بروح التضامن التي تسود البلد، برغم علاقاتهم الباردة نوعا ما لا يتدخل أحد في شؤون الآخر، حتى الأهل لا يفرضون على أبنائهم تخصصاتهم ونوعية دراستهم... تذكر كيف أن والده إدريس غضب لأنه لم يلج كلية الطب مثلما فعل صديقه إسماعيل. كان والده يريده أن يكون طبيباً... انبهر أيضاً بثقافة العمل التطوعي، الكل يساعد الكل بدون شعارات أو تبجج. حتى الطلبة والتلاميذ يقدمون خدماتهم في المستشفيات ودور المسنين. تحسب ساعات تطوعهم، وتضاف إلى ملف طلب الالتحاق بالجامعة وتؤخذ بعين الاعتبار حتى بالنسبة للحصول على الشغل... ترى يومياً في كل تقاطعات الشوارع، وقرب المدارس الابتدائية في وقت دخول وخروج التلاميذ، نساء بسترات زاهية، تمتثل لأوامرهن السيارات حتى يعبر الأطفال بأمان الشارع. يمنحن من وقتهن ساعات يوميا بدون مقابل...تذكر طه متحسراً كيف كان يجد صعوبات في قطع الشارع للوصول إلى مدرسته أمام سرعة السيارات وعدم اكتراث سائقيها لملائكة الله . لكن أجمل ما لاحظه طه بكندا هو أن الحياة، الدراسة والحب حق للجميع . قد تفكر في الالتحاق بتخصص ما وأنت في السبعين، ولن ينظر إليك إلا بكل احترام، ولن يسألوك عن شهادة الباكالوريا في أي سنة هي. وتذكر طه بألم كيف كان يسارع الزمن حتى يستطيع إجراء اختبارات ولوج المعاهد والمدارس العليا قبل أن يرفض طلبه وتصبح شهادة الباكالوريا عديمة الجدوى . لم يفهم أبدا ولم يستوعب كيف لها أن تتقادم؟ أما الحب، فهذا موضوع آخر، مادمت حيا تتنفس، فبإمكانك أن تحب وأن تكون سعيدا. ولو تجاوز سنك الثمانين. تحسر طه على المرأة المسنة في المغرب، وتذكر «مي هنية» جارتهم العجوز، وكيف يشعرها الأقربون منها أن نهايتها اقتربت . تقضي يومها تئن من المرض وتطلب المغفرة عن ذنوب لم ترتكبها ولا تذكرها. وفي منامها لا ترى سوى الموتى من العائلة. وفي الصباح وهي تتناول الحسوة، تقول لأبنائها: أبوكم زارني بالليل وكان يلبس أبيضاً في أبيض ويبتسم...تعيش وهي تفكر بالموت في كل ليلة وترى نهايتها القريبة في عيون الجميع.
عاش طه سنتين بعيدا عن وطنه، يستكشف عالماً جديداً، يحلم أن يعيشه أهله هناك .نظر في عيني جوانا، وسافر بعيداً إلى حيث رافقها أول مرة إلى بيتها. نامت في حضنه حتى الصباح، لم يستغرب كثيراً أنها لم تكن بكراً. وعندما سألها، قالت له أنها لا تتذكر متى كانت أول مرة، ربما بسن الخامسة عشرة أو أقل، ثم أضافت «هل تعرف أن قرب المدارس توزع أسبوعياً جمعيات المجتمع المدني الواقي الذكري على التلاميذ لحمايتهم من الأمراض... لم يستسغ في البداية الفكرة كثيراً، وهو المؤمن بالحديث «إذا ابتليتم فاستتروا». أصبح طه يفكر جدياً بالزواج بجوانا، فرغم كل شيء تعلق بها كثيراً. لم يكن بحاجة أن يتجمل أو ينافق أو يكذب. علمته أن يعبر بشفافية عن مشاعره، بدون خوف أو خجل. ثم تذكر بهيجة، حبه الذي دام ثلاث سنوات. كانت بهيجة سيدة في ريعان شبابها، طلقت نفسها بعدما وجدت أنها لم تكن أكثر من وعاء لزوجها، يفرغ فيها مكبوتاته، ومجرد مرعى لحيواناته. لم يكترث أبداً لأحاسيسها، ولم تلمس السماء أبداً وهي في حضنه، حتى أن لذتها بكت على أعتاب أنانيته، وغابت نشوتها وانتشاؤها، تباعدت انتظاراتهما وآفاقهما حتى تلاشت هي وأعلنت العصيان والتمرد على زواج آلمها وعلاقة لم تمنحها أبدا السعادة والفرح. ثم كان طه، وابتسمت أنوثتها من جديد وزغردت نشوتها، لكن طه رغم حبه لها وتعلقه بها لم يستطع أن ينسلخ عن تقاليد القبيلة التي كانت تسكنه ولم يغفر لها أنه لم يكن الأول في اكتشاف معالمها. وعندما سألته عن مستقبل علاقتهما تخلى عنها بكل بساطة. وها هو الآن مستعد للزحف على ركبتيه، حتى تقبل به جوانا زوجاً لها رغم معرفته بعلاقاتها الكثيرة المتعددة قبله، وبدون زواج. «فهل هناك تناقض أكبر من هذا؟ أو زيف أكبر مما هو فيه ؟»قال طه لنفسه. يعترف في قرارة نفسه أن جوانا علمته أن لايسيء الظن بها، وأن يثق بها حتى عندما كانت ترغب في الجلوس مع أصدقاء آخرين وبدونه حول كأس أو فنجان قهوة. تذكر كيف كان يستشيط غضباً من بهيجة لمجرد أنها تبادل أصدقاءه ابتساماتهم تأدباً. كان يرى في ذلك انتقاصاً لرجولته. ولم تنل ثقته أبداً.
تعلم من جوانا أن المرأة كيان مستقل بشخصيته وليست مجرد اكسسوار أو ملك خاص به، يتصرف به كما يشاء. تعلم أنها إنسان يجب احترامه ومنحه الثقة كاملة وهي أساس العلاقة، وإذا انتفت الثقة تنتهي العلاقة بكل احترام وتحضر. تعلم أن ينظر للمرأة كند له، نصفه الآخر، يكملان بعض، و لا يستغني أحدهما عن الآخر. ثم حل عيد الميلاد المسيحي من عامه الثاني بكندا. حضرت جدة جوانا محملة بالهدايا للجميع، أهدت لطه كنزة صوف نسجتها بيديها. ناعمة الملمس كنعومة روحها. امرأة مسنة حنونة طيبة، ما يزال ظهرها مستقيما، وشعرها كثيفاً مرتباً بعناية فائقة، بالرغم من أن الزمن حفر أخاديد على وجهها تروي ذكريات عشرات السنين... تعيش في إحدى العمارات المخصصة للمسنين، بها كل مظاهر الحياة من مسبح وقاعة رياضة ومكتبة بها مئات الكتب وبيانو . رأى طه في نظرتها حزناً وهي تحضن حفيدتها وابنها. لم ترهما منذ عيد الميلاد السابق، ولم تؤنبهما. تعيش في نفس المدينة. تألم طه كثيراً لحال الجدة التي باتت وحيدة في أقاصي العزلة ، وكره في لحظة حنينه لوطنه الحضارة والتقدم إذا كان الثمن هو عزلة الأحبة في خريف العمر. لأول مرة وجد تناقضاً صارخاً في المجتمع الكندي. يتطوعون ويحبون بعض ولا يحبون أحداً، وما الجدة إلا أصل لفرع تائه في دوامات مدنية الاسمنت ورتابة الحياة. عانقها بحرارة استغرب لها الجميع وكأنه يعتذر لها نيابة عنهم وعن جفاء الزمن القاسي. رأى فيها جدته عائشة الصارمة الحنون التي رغم تقدم سنها ما زالت الآمر الناهي. تنخفض لها أجنحة الذل من الرحمة. ولا يستطيع أحد أن يكسر كلمتها. قبلها ثانية على وجنتيها، ووعد نفسه أن يزورها دائماً، ويبدد وحدتها القاتلة.
للمرة الأولى من اغترابه، بات طه يشعر بحنين جارف لحضن وطنه، يرتمي بين ذراعيه ، و يبكي حتى يغتسل من آلام الغربة التي اشتدت نارها فجأة. حمله الحنين الجارف والشوق المنهمر كشلال أزود إلى زيارة كريم صديقه المغربي، المتزوج من ابنة خالته. لربما يجد ما افتقده منذ سنتين، ربما يهدأ حنينه وتخمد نار اشتياقه لاحتضان أمه مينة وجدته. احتفى به كريم، وكان طه منتشياً وهو يستمع لرائعة « الحياني « راحلة، ويغني معه: «فهل يرحل الطيب من ورده؟ وهل يهرب الغصن من ظله ؟ أحقاً كما ترحل شمس هذا المساء... « ويستمتع بشرب الشاي الأخضر ورائحة النعناع تعبق المكان. تذكر روائح سوق درب السلطان الدافئة. «ستتعشى معنا طه» قال له كريم مصراً، بالتأكيد سأبقى. لقد أسكرتني رائحة الحريرة، لم أشربها منذ سنتين. سأحرص إنشاء الله، رمضان القادم، على زيارة بلدي. أحن لأجواء رمضان و لياليه. أحن لروح وطني. وفجأة وهو يشرب الحريرة ويأكل التمر والشباكية، قرر أن يعيد النظر في زواجه بجوان، لا يريد أن يهرم بكندا، ويعيش الوحدة والعزلة. قرر أن يحيي حلمه من جديد ويعود من حيث أتى ذات غصة . سيلتحق بجمعيات، وينخرط بالسياسة ويكون فاعلاً يقوم بواجباته تجاه وطنه لكي يساهم في بناء مجتمع يتسع للجميع، ويحفظ الكرامة للجميع ولا يهان فيها إنسان.. وهو يناجي نفسه أحس أن حلمه يدثره من رجفة برد الاغتراب.... ابتسم وهو يمني نفسه بحضن الوطن وحضن بهيجة. سيعود ويقدم لهما باقة ورد وقصيدة اعتذار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.