كان إدريس يدرع البهو ذهابا وإيابا،بخطوات متثاقلة،لم يتجاوز سنه الخمسين، لكنه كان يرزح تحت ثقلها. حتى ركبتيه خانتاه، لم ينفع معهما كل الوصفات التقليدية والمراهم الطبية، ولبرهة وجيزة فكر أن لعنة الغش قد أصابت حتى صناعة الأدوية... ابتسم متحسرا في قرارة نفسه على زمن كان يعدو فيه كالحصان حافياً،لا يهمه شوك أو حجر، حتى أن أقرانه كانوا ينادونه بعويطة لسرعته.. لعن المدينة، وفكر بصوت عال: لو بقيت في البادية لربما كان لي شأن آخر، أقله، لن أعاني من هذا الروماتيزم الذي نهش عظمي.... ولم يفهم متى وكيف أضاع المادة اللزجة في ركبتيه، وهو الذي لم يضيع شيئا في حياته، كان دائماً حريصاً على وقته ونقوده،ماعدا بعض الساعات والورقات النقدية التي كان يفارقها عن مضض حتى يجالس صديقه حسن، يشاركه هماً وكأساً وهما يتفرجان على عرض للشيخات،لم يكن له أن يظهر أقل شأناً من حسن، كان يبادر هو أيضا بوضع ورقة من خمسين درهما في صندوق خديجة الدافئ،منبع الحنان، وهي ترمقه بنظرات ناعسة وتغرقه برائحة الحركوس والقرنفل المنبعثة من شعرها وجسمها المشتعل..تبسم وهو يتذكر كيف أغرم بها وبرقصتها المثيرة وهزها للبطن، أدمنها حتى الألم،وأصبح مواظباً على موعدها... كانت تشعره أنه الذكر الوحيد بين الرجال، نظراتها تخاطبه وتناديه، ورقصتها تبدد ما بقي من وقاره. استعاذ بالله من سحر خديجة الذي بات يسكنه، ربما يخبر أمه يوماً، دون أن تعرف زوجته بمعاناته، قد تجد له فقيهاً يحرره من عشق يعذبه ويؤرقه... وتساءل:هل تقبل خديجة أن تتزوجه إذا طلب منها ذلك؟ فتح باب الغرفة، وخرج إسماعيل، الطبيب الشاب،ابن صديقه حسن الذي كان يعاين أباه، بعد أن اشتد عليه المرض، وأصبحت سعلته لا تفارقه ليل نهار. كان بوعزة يسعل إلى أن ينقطع نفسه وتجحظ عيناه.. «عمي بوعزة ،حالته لا تطمئن، يجب نقله إلى المستشفى، وكل تأخير يكلفه حياته» أكد الطبيب إسماعيل. لم يكن إدريس يظن أن حالة والده بهذه الخطورة،ولبرهة فكر ربما يريد إسماعيل إبعاد والده عن البيت قد يكون سعاله الصاخب المتلاحق يزعج الجيران ويحرمهم من النوم ليلا.»إن بعض الظن إثم،همهم إدريس،إسماعيل شاب متخلق،ابن صديقه وجاره حسن كاتم أسراره، وصديق ابنه طه، تربيا معاً ودرسا معاً. والآن يزورهم دائما حتى في غياب ابنه المسافر. يطمئن على كل مريض ويحضر له المرهم الطبي المسكن لالتهاب ركبته. «حسنا أولدي، الله يرضي عليك،سأذهب لرؤية عمك الحسين إذا كان بدكانه ليأخذنا بسيارته إلى المستشفى، إن شاء الله خير.» «عندما تصلون إلى المستشفى، اسألوا عني سأكون بانتظاركم «أضاف إسماعيل. وفجأة لمعت فكرة في ذهن إدريس، أثلجت صدره،وتساءل ألا يكون إسماعيل مغرماً بابنته زاهية،عريس ولد الناس،سيأخذ باله من صحة الجميع ولن نقلق بعد ذلك... في منتصف النهار كانت سيارة الحسين تقف أمام المستشفى، لم يكن من الممكن حمل بوعزة السبعيني، عظمه كان ثقيلا، لم يشتك أبدا من الروماتيزم،الفضل في ذلك، ربما لشمس البادية التي قضى فيها الجزء الأكبر من حياته، ربما لهوائها ولقمحها أيضا... اقتصر الحسين وإدريس على إسناده... قرب باب المدخل، كان العشرات من الرجال والنساء يتكدسون، منهم الواقف، والجالس وحتى المتمدد على الأرض. منعهم البواب من الدخول صارخا،» هناك ناس تنتظر من الفجر.» لحسن الحظ، تواجد في المكان العربي ولد الدرب،كان قريباً منهم وسمع الحديث،هو حارس السيارات، يحترمه الجميع ربما خوفاً منه وتفادياً لغضبه، زار السجن مرات كثيرات،يشرب الكحول بشراهة ويتعارك بعد ذلك. لكنه لا يؤذي جيرانه أبدا. ومرات عديدة، يصبح مهماً جداً،كل الأعناق تشرئب إليه،والكل يطلب وده ورضاه. يصبح ورقة رابحة في لعبة الانتخابات، وورقة السعد لمن يستميله إلى جانبه من المنتخبين.كان يتمنع وينظر إلى أحسن عرض قبل أن يعطي موافقته . أيام الانتخابات تراه شخصاً آخر، يتكلم بهدوء، ولا يغمض له جفن، كالنحلة يتنقل من بيت إلى بيت، ومن شخص لآخر. سعيد بأهميته ومسؤوليته، لم يفهم أبداً كنه توهجه ونشاطه، ربما اللحم المشوي والعصائر والزرود،هي السبب. كان يعيش أسعد أيامه منتشياً، شبعاناً، مهماً، يستمع إليه الكبار ويأخذون برأيه. يضمن دائما أصواتاً لمرشحه لم يكن ليحلم بها،كان وما يزال مدافعاً شرساً عن بنات الحي من أي تحرش قد يطولهن من الأحياء البعيدة، حتى ذاع صيته وعرف بالأخ الأكبر والابن الأكبر ، كل أصوات النساء له،هو سندهم في الشارع ورجل يعتمد عليه. « إنهم من عائلة الدكتور إسماعيل، صرخ العربي في البواب .. «لم أكن أعرف، تفضلوا.» أسرعت زاهية إلى ممرضة الاستقبال، تخبرها أنهم من عائلة الدكتور إسماعيل،لم يتأخر في الحضور، ساعد زاهية في ملء البيانات،كانت تنقصهم شهادة الاحتياج، فوعد إدريس بإحضارها لاحقاً. لحسن حظ الحاج بوعزة، كانت هناك حالة وفاة في الصباح، فأصبح سرير في جناح أمراض الصدر شاغراً. حرصت زاهية على أن تفرش سرير جدها بلحاف جديد أحضرته معها، قد تكون هناك ميكروبات تزيد حالة جدها سوءاً. وبحذر شديد مدد إدريس والده المنهك على السرير النظيف،بمساعدة الحسين، التاجر الطيب،دمعت عيناه وهو يرى با بوعزة شاحب الوجه، تكاد عيناه تخرج من مقلتيه من شدة سعاله، تذكر والده حماد،الذي لم يره منذ مدة ، سنة أو أكثر ، تذكر برد جبال الأطلس وظروف الجو القاسية، ودعا أن يكون أبوه غير مريض، معافى ولا يسعل. لن ينتظر عيد الأضحى للذهاب إلى بلدته، سيزورها قريباً ولن يغيب عنها مرة أخرى طويلا.. كان با بوعزة، يسعل بشدة وهو يحاول جاهدا أن يسمع الجميع دعواته ورضاه عنهم «اذهبوا الآن ، قال إسماعيل، با بوعزة في عهدتي الآن، كونوا مطمئنين، أحضروا له شوربة خضر في السادسة» كان الدكتور إسماعيل يتحدث بجدية، وإدريس يقرأ في نظراته، يبحث عن إشارة، عن ومضة يلمحها،تحقق ما يتمناه،أن تكون الزاهية من نصيب إدريس، ويجتمع بمعشوقته خديجة بعدها... و بخيبة أمل، لم يقرأ شيئاً ولم يسجل شيئا.. « ربما هو يستحيي، شاب خلوق، متربي، قال في نفسه» عندما رجعوا إلى البيت،كان خبر دخول با بوعزة المستشفى قد أصبح حديث الحي، باب البيت مفتوح والنساء تدخل محملة بأطباق الحلوى والمسمن، وتخرج محملة بأخبار مرض با بوعزة. تنحنح إدريس وهو يقرع الباب المفتوح على مصراعيه، لاستقبال الجارات،حتى تعلم زوجته مينة برجوعه،هرولت نحوه تسأله عن أخبار عمها بوعزة، سألته معاتبة، لأنه لم يأخذها معه إلى المستشفى، «لم يكن هناك مكان بسيارة الحسين» أجابها، ولم تفهم لم أخذ ابنتهما زاهية ولم يأخذها مكانها « أبي بين يدي الله وإسماعيل، الله يرضي عليه.»قال لها. لمح نعيمة زوجة صديقه حسن وأم إسماعيل، في المطبخ تهيئ الشاي للجارات. ألقى عليها التحية، وأطرى على ابنها حتى احمرت وجنتاها فخرا و زهوا ، تم انتبه أن ابنته زاهية. دخلت غرفتها ولم تذهب لمساعدة خالتها نعيمة. ناداها بصوته الجوهري»الزاهية تعالي لتساعدي خالتك نعيمة» تم نظر إلى نعيمة وأطرى على ابنته « الله يرضي عليها، تسمع الكلام ، مطيعة وحنونة جدا» كان سيضيف، تنفع ابنة ثانية لك، وزوجة لإسماعيل لكنه بلع كلامه وعيناه تقول الكثير .. تم دخل إلى غرفته، ليضع المرهم المسكن لألم ركبته، ويستريح من وقوفه هذا اليوم لساعات. وضع كاسيت لأم كلثوم، ونيسته الروحية، تمدد على سريره البارد، وحلق بعيداً وهو ينظر للسقف، حيث خديجة معشوقته، أغمض عينيه على طيفها ، شعر بالدفء و هو يردد مع أم كلثوم ذكريات.. .. بعد يومين كانت غرفة با بوعزة تعج بالضيوف ،وكأنه موعد لاجتماع أهل الحي، جاءوا محملين بالحليب والفواكه، لاحظ الجميع تحسن صحة الجد نسبياً، لكنه لم ينم جيداً، «لقد آنس مواء قطط لم ينقطع وكأنها تناجيه بالليل، أخبره صديقه محمد الذي تعرف عليه، والذي يرقد بقربه، أنه تعود على وجودها، هو هنا ما يقارب الشهر. يقول أن القطط وفية، لم تخلف موعدها ولم تترك المكان، أصبحت جزءا من المستشفى، أظنها أدمنت رائحة الدواء والمرض والمرضى.... «حتى في عز ألمه ومرضه، لم يفقد با بوعزة، روحه المرحة وابتسامته الجميلة،، فحظي بحب الجميع له. طلب من زاهية أن توزع الخيرات على رفقاء غرفته، وانتبه إلى محمد ابن خريبكة الذي أفنى حياته في مناجم الفوسفاط حتى تغلغل في رئتيه و زاحم الهواء فيهما،يكاد نفسه ينقطع، وهو يحاول أن يداري ألمه وامتعاضه، وتساءل لم يرغب محمد رغم كل معاناته أن يلحق ابنه الذي أكمل دراسته الجامعية والعاطل عن العمل بمناجم الفوسفاط. كان يرى أن أبناء العمال يجب أن تكون لهم الأسبقية في الالتحاق بالشغل.. ربما تذمره وسخطه وخوفه من ضياع ابنه كان سبباً في سوء حالته.. توجه با بوعزة بالكلام لابنه إدريس:» لا تخبر حبيبي طه بمرضي، ستزيد غربته قسوة، لا أريد أن ينغص عليه خبر مرضي حياته، الله يرضي عليه، ربما يحضر قريبا، اشتقت لرؤيته..» كان إدريس، خائفا على أبيه با بوعزة، لم يراه أبدا بهذا الضعف والوهن، وما زاد في رعبه، هو رغبته في رؤية حفيده المسافر، وكأنه يريد توديعه الوداع الأخير ... لم يتحمل الفكرة ودمعت عيناه، لم يتخيل أبداً حياة تخلو من وجود با بوعزة، المكافح الطيب الذي لم يكره أبداً أحداً وليس له عداوة مع أي كان... كان يقول له دائماً: « أحب لأخيك ما تحبه لنفسك،إن بعد العسر يسرا، لا يقفل الله باباً إلا ليفتح باباً أفسح..»الله يحفظك يا أبي، حتى ترى أبناء طه والزاهية» آميين. انتبه إلى أنه فكر بصوت عال والجميع يدعون معه... في رواق المستشفى لمحت الزاهية إسماعيل،توجهت إليه متلهفة فاتحة صدر حنانها واشتياقها إليه، لم يكونا بمفردهما منذ مدة ليست بالقصيرة، حياها بفتور، وسألها عن جدها وطه... انتظرت أن يسأل عنها لم يفعل...نظرت في عينيه تبحث عن حبيب غائب، حب مفقود، شوق دفين، لكنها لم تجد إلا الفراغ وبرودة اقشعرت لها أناملها، خمدت نارها ونظرت إليه بعتاب وهي تجيبه عن أسئلته المموهة... أحست بضياع، وقلبها يعتصر ألما، مدت له أصابع باردة وخرجت لا تلوي على شيء، ظلت تسأل نفسها، كيف لحبها الكبير له الذي يملأ كل قلبها وحياتها، بل هو حياتها .كيف لا يعني له شيئاً ولا يشعر به... ربما كان عليها أن تعاتبه،لامت نفسها لأنها لم تفصح له عن حبها، وتساءلت أكان عليها أن تعاتبه ؟أو تنتظر فرصة أخرى لذلك، تمنت أن يطول مكوث جدها بالمستشفى حتى تراه، كرهت نفسها لهذه الفكرة، لربما انقشعت الغيمة من أمام عينيه ورآها من جديد كما في البداية، وتساءلت لم البدايات دائما أجمل؟ فكرت للحظة، واقتنعت أنها لن تعاتبه ربما لأنه المشاعر كما الحقوق، لا تطلب، الحقوق تؤخذ ولو عنوة، ولو بالقوة، لكن المشاعر نفسها تمنح بعفوية وعن طوع خاطر.. ابتسم قلبها، لا تملك سوى حلماً ، أملاً تعيش به وعليه،ربما يبتسم قلبه لها ثانية ، يعانق حلمها و يعيشان الأمل. * كاتبة وقاصة مغربية مقيمة في كندا