9 مارس 2011، يوم دخل التاريخ المغربي عنوانا لمرحلة جديدة في ذاكرة الأىام، التي تعنينا جميعا كمغاربة. بل إن المرء يكاد يجزم، أنه منذ قرن من الزمان (منذ مشروع دستور 1908)، لم يخطو المغاربة خطوة تاريخية هائلة، مثل خارطة الطريق المعلن عنها في الخطاب الملكي لليلة الأربعاء الماضية. إن منطوق الخطاب، مضامينه، قراراته، يجعلنا أمام مشروع حكم، قوته أنه يترجم مشروع مجتمع من أجل ملكية برلمانية، ويكاد المرء يقول إن عهد محمد السادس كأثر في التاريخ، قد ولد. والأكثر قوة فيه، أنه ترجمان لشكل جديد من ذلك الشعار المغربي الخاص، الذي لا أشباه له في باقي التجارب المجتمعية العربية والإسلامية، الذي هو «ثورة الملك والشعب». بل أكثر من ذلك، بعد قرن كامل من الزمان، منذ البدايات الجنينية الأولى لوعي الإصلاح بالمغرب، انطلاقا من أواسط القرن 19 وصولا إلى بدايات القرن العشرين، والذي كان وعي نخبة في الحكم (أساسا السلاطين محمد بن عبد الله، محمد بن عبد الرحمان، الحسن الأول)، وفي المجتمع المديني (خاصة مدن تطوان وطنجة وفاس، التي كانت تصدر بها عدد من الجرائد القومية الوطنية)، هذا ثاني مشروع دستور مغربي مئة بالمئة. ينطلق من تجاوب مع مطالب شعبية في الإصلاح والتغيير، لها امتداد في الشارع وفي الجسم السياسي الحزبي الوطني بتعدد عائلاته الفكرية والسياسية، من أجل ملكية برلمانية، سينجزه فقهاء علوم متعددة مغاربة مئة بالمئة. وهذا عنوان أول كبير. ثاني العناوين، هو رأس اللجنة المكلفة بإعداد مسودة الدستور الجديد، الذي سيعرف تغييرا شاملا، أي الأستاذ عبد اللطيف المانوني. فهذا الرجل له رأسمال مهم، هو نزاهته الأخلاقية والسلوكية، وأيضا كونه حجة في مجال تخصصه كفقيه دستوري، من ذلك الجيل من الفقهاء الدستوريين الذين أنجبتهم الجامعة المغربية، وأطرتهم مدرسة الحركة الوطنية في معمدان الفعل السياسي، في شقها الإتحادي التقدمي والوطني الأصيل، زمن القائد الكاريزمي الكبير الراحل عبد الرحيم بوعبيد. وهو ابن أصيل لمدرسة فقهاء دستوريين مغاربة من حجم الراحل عبد الرحمان القادري. بالتالي، فهو ضمانة أكيدة على أن الأمور جد في جد، وأنها لحظة تأسيسية لتطور تاريخي في بلادنا. وتأسيسا على المثل الروسي الشهير، أن «السمكة تفسد من رأسها»، فإن المطمئن أن رأس اللجنة المكلفة ليس فاسدا، وهو ضمانة قوية أن المنجز المغربي دستوريا، لأول مرة، سيكون مخصبا للأمل في التحول التاريخي المرتجى. ثالث العناوين، هو النقط السبع للإصلاح الدستوري، التي أعلنها الملك محمد السادس، التي في القلب منها استقلالية دستورية للقضاء، دسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.. حقوق الإنسان في أبعادها السياسية، الثقافية، الإقتصادية والبيئية.. دسترة التعدد اللغوي والثقافي للمغاربة.. تقوية سلطة البرلمان والحكومة وجعلها من صميم الإختيار الشعبي المباشر والحر والنزيه.. مشروع الجهوية كمشروع حكم، يقعد دستوريا لتسيير فدرالي غير مسبوق في كل الخريطة العربية والإسلامية والإفريقية، يضمن العدالة في توزيع الثروة بين الجهات، ويحافظ بصلابة على وحدة التراب والبلد.. فهذه التعديلات المنتظرة، بما يجب لها من لغة دستورية حاسمة تحمي الإصلاح وتؤكده، هي ترجمان للإنتصار للمستقبل. أي استحقاق الدولة والمجتمع لحق التقدم المرتجى، تنظيميا، تدبيريا، وتنمويا، ضمن الثوابث الأربع للأمة (الإسلام كدين للدولة - إمارة المؤمنين - الوحدة الترابية - النظام الملكي). أي أن يكون المغاربة فعليا أبناء لزمنهم في القرن 21. بهذا المعنى، فإن خطاب ليلة الأربعاء، عنوان سياسي، سلوكي وثقافي غير مسبوق في تاريخ المغرب الحديث. لأن منطوق الخطاب، لغته، مضامينه ورسائله تترجم بداية فعلية لعهد ملكي جديد. وهو ما يجعلنا مغربيا ومغاربيا، أمام لحظة للتاريخ. التاريخ الذي تصنعه الشعوب ويصنعه الرجال، من أولئك القادة الذين لا يخطؤون صوت المستقبل، فيكون لخطوهم قيمة الأثر الأبقى الذي يسجل لهم في ذاكرة الأيام. وهذا ما يجعل المرء لا يتردد في الجزم أن سلوكا جديدا في الحكم قد دخل دفتر الرمزيات في بلادنا. بل، إنه في مكان ما، قد استفاد المغرب من عطب سنة 2002، بسبب «عدم احترام المنهجية الديمقراطية» كما أعلن ذلك البلاغ الشهير للمكتب السياسي للإتحاد الإشتراكي، وكذا ما تمت هندسته من نخب في تسيير كبريات المدن كالدارالبيضاء ومراكش والرباط، التي أبانت النتائج اليوم، أن حركة الشارع الشبابية والسياسية، قد وضعتها ووضعت مهندسيها في مجال الإحتجاج وصوبت نحوها مطالب التغيير. إن الحراك المغربي، يكاد يشبه في تفاصيل عدة، ما سجل في بلد يعنينا كثيرا مسار تطوراته (مع الإختلاف في الخصوصيات التنظيمية والرمزية والتاريخية طبعا ) هو تركيا. لقد عاش هذا البلد الذي نقع معه في تماس حاسم بين قارتين وحضارتين (نحن بين إفريقيا وأروبا. وتركيا بين آسيا وأروبا)، تحولات هائلة خلال العشرين سنة الأخيرة، انتصر فيها منطق الدولة، على منطق الفئويات المافياوية، في كافة الأصعدة: اقتصاديا، سياسيا، أمنيا، إعلاميا وتنمويا. وخطاب 9 مارس 2011، خارطة طريق للمغرب القادم، بالتحديات الداخلية والإقليمية التي قد تواجه هذه الخريطة الهامة غير المسبوقة. بمعنى من المعاني، قد نكون خرجنا مغربيا من جهاد أصغر، صوب جهاد أكبر، ومنطق التدافع وما سيفضي إليه من نجاح. والكرة اليوم في ضفة المجتمع لحماية المشروع ومنحه ألقه التاريخي. فقط، أذكر أنه في صيف سنة 1999، التقيت الراحل الفقيه البصري، مباشرة بعد عودته من أول لقاء له مع الملك الجديد، وقال جملة واحدة نافذة، بحضور شهود: «لقد جالست امتدادا نبيلا لمحمد الخامس»، وصمت الرجل.. هذا لربما، للتاريخ، حظ للمغرب والأجيال الجديدة، لأنه بالتفاعل بين مطالب الشعب (بشبابه وأحزابه الحقيقية ذات العمق المجتمعي) وبين طموح ملك واستجابته لدفتر تحملات مغرب القرن 21، يدخل المغاربة «ثورة ملك وشعب» جديدة.. والتاريخ يراقب ويسجل.