لا مِراء إن قلنا: إن شعرية قصيدة النثر تكمن بالأساس في الخلطة السحرية التي ابتكرها أربابها ، حين عمدوا إلى خلق ازدواج بين الشعر والنثر، ومبدأ الازدواج هذا تحقق ?في تقديري ?من خلال إلباس الشكل ثوب الشعر مع ترك الروح شعثرية ، حيث أدى هذا المزيج ، أو الازدواج إلى ولادة قصيدة النثر بالصورة التي شهدتها الأعين وتداولتها الألسن حتى طارت في الناس كل مطار. وسنسعى من خلال هذه الورقة - المقتضبة - إلى استجلاء نتف جمالية من قصيدة النثر المغربية، وذلك عبر إجراء حفريات في ديوان(في ذمة الضوء)، للشاعر مصطفى قشنني ، هذا الشاعر المضيء، المؤمن بضوء فراشاته إيمان اللون بفضيلة الضوء. وقد ارتأيت أن أحصر نظري في ملمحين جماليين: 1 - جماليات القصيدة - المشهد: معلوم أن ديوان "في ذمة الضوء" هو الإصدار الشعري الخامس للشاعر المغربي مصطفى قشنني، وقد صدر عن الدار العربية للعلوم(ناشرون)، سنة 2014، في طبعة أنيقة ، ضمت بين دفتيها 88 نصا شعريا، توزع على 101 صفحة من الحجم المتوسط. والناظر في ديوان الشاعر مصطفى قشنني1 ، يجد أن الخطاب الشعري عنده، ينبني في جزء كبير منه على المشهدية، باعتبارها آلية جمالية تقوم على مبدأين : مبدإ الصورة الأدنى، ومبدإ الاقتصاد. فما المقصود بمبدإ الصورة الأدنى؟ نقصد بمبدإ الصورة الأدنى، اقتصار الشاعر مصطفى قشنني في بناء قصائده على صورة مشهدية واحدة، يزدوج فيها الموقف بالتجربة. فقد احتلت القصائد المشهدية مساحة واسعة في فضاء الديوان، بلغ عدد ها تسعا وعشرين قصيدة، تركب/تشكل كل نص منها من مشهد واحد لاغير. ولبيان سمات القصيدة المشهد عند شاعرنا نسوق النماذج النصية الآتية: يقول الشاعر في قصيدته المشهدية - في ذمة الضوء -التي حمل الديوان اسمها :(ترضع الفراشة/من أثداء النور/ترشف/ رضابه/ لتتهاوى/ في هاوية/سحيقة/ رمادَ عشق)2-انتهى النص المشهد-. وفي قصيدة (فداء للضوء) يقول :"الفراشة لا تهدي الضوء /عشقا أقل من احتراقها "3. ويقول في قصيدته المشهدية الموسومة ب"تلك الغيمة":(ترش نداها /في تخوم/المزهريات/لتورق/شقائق//أحزان)4 . من خلال هذه النماذج النصية، نستشف أن القصيدة المشهد عند الشاعر مصطفى قشنني، بناء لغوي- مشهدي يقوم على مبدإ الصورة الأدنى و يتركب من عدد محصور من الجمل القصيرة ، مرتبطة فيما بينها بعلاقات دلالية تسمح بالانفتاح على امكانات تأويلية متكاثرة تكاثر القراء و القراءات. إذ الصورة المشهدية في شعر مصطفى قشنني ليست مجرد وضعية فنية ناقلة للواقع الخارجي، بأساليب البيان العربي"من تشبيه واستعارة وكناية، ومفارقة ..."، ولكنها طريقة مخصوصة في العرض تقوم على التدرج التصويري،كأن الصورة الكلية للقصيدة المشهد -عند شاعرنا- في تدرجها كومة الثلج في تدحرجها، حيث تجلى هذا التدرج في غير قصيدة من الديوان، نحو قوله في قصيدة"مغمى على أحلامها": بخبطة من ضوء/ سقطت الخفافيش/ من أعلى / شجرة/ الليل/ مغمى/على أحلامها)5. وقد مكن هذا التدرج القصيدة المشهد من التقلب في أحوال دلالية متعددة أخرجتها من ضيق الوظيفة الإحالية إلى سعة الوظيفة الرمزية،التي تفرض على القارئ بذل الجهد في الفهم والتأويل لإمساك المعنى وإدراك مقاصد الناص/الشاعر. ولا يخفى أن ألفاظ القصيدة المشهد عند الشاعر مصطفى قشنني مأخوذة من دوائر حسية مختلفة، أهمها دائرة الإدراك البصري واللمسي، مثال ذلك قوله في قصيدة "ما يشبه اللوحة": (الأفق مطرز/بغيوم سوداء/والأمطار فقاقيع/زرق/تتلاشى على أجنحة من هباء/ والسماء حرير من ريش/وشرشف/ تطوق الإطار) 6، وقوله في قصيدة (قابض على جمر لذته):"يستحلب لذة / يمسك بتلابيبها /يمسد على شَرْشَفِها/يمشط ريشها/يتوجها بإكليل/من دفق نداه/ويجترح لها /دِمَقْسًا وثّابا/في أبهى رعشته..."7، فهذان النموذجان ينمان عن تصور خاص للقصيدة المشهد، وترتيب مخصوص للألفاظ الحسية حيث أخرجها الشاعر من دائرة الدلالة الحسية ورفعها إلى دائرة التذوق الباطني المدرك بالقلب. وعلى الإجمال ،فالشاعر مصطفى قشنني شاعر واع بالوظيفة الجمالية للمشهدية المقيدة القائمة على مبدإ الصورة الأدنى، ومبدإ التدرج، ومبدإ الاقتصاد اللغوي. 2- جماليات التعدد الصوتي: غني عن البيان أن "نظرية تعدد الأصوات"من بين النظريات المقررة في مجال تحليل الخطاب"ومدارها على أن القول المنطوق لاتقوم به ذات واحدة،وإنما تشارك في القيام به ذوات كثيرة كما لو كانت أصواتا مختلفة تأتلف فيما بينها للنطق به في مرة واحدة"8. ومن خلال حفرنا في ديوان(في ذمة الضوء) يتكشف لنا أن الشاعر مصطفى قشنني قد ألبس قصائده لباسا حواريا تعددت أصواته بتعدد أغراض الكلام التي انطوت عليها نصوص الديوان. حيث ألفينا الشاعر ينتقل في النص الواحد من مقام الناص/القائل إلى مقام المتلقي المقول له، إلى مقام المخاطَب المتفاعل مع القول الشعري، ومثال ذلك قوله في قصيدته" اُنظر ترَ":( اُنظر كيف يحاكي الضوء أطيافها/كيف يستعير ذاكرة الألوان/المندلعة في كمنجاتها/كيف يرتب موسيقى الماء/ المُطَرَّزٍ بجفون طوفانها/ كيف يُسدِل جفنيه أمام جلالها/اُنظر تر كيف تتهتك/ له السُّتُرُ/ وكيف يتجلى/له السر)9. هذا النموذج النصي خير مثال على التعدد الصوتي الذي طبع نصوص الديوان، حيث استثمر فيه الشاعر صيغ الكلام الثلاث: " صيغة المتكلم (أنا المخاطِب)، وصيغة الخطاب' أنت المخاطَب/ المتلقي"، وصيغة الغيبة" هي الفراشة/الحبيبة، هو الضوء/الشاعر المحب"، كما أضحى الناص/الشاعر عن طريق المزاوجة بين الضمائر واستعارة الأصوات ذواتا متعددة، فهو ذات ناطقة من خلال الصيغة الآمرية (اُنظر)، وهو ذات مخاطبة من خلال الفعل المجزوم في الصيغة الشرطية " اُنظرْ ترَ " التي تقديرها "إن تنظر تر/إذا نظرت رأيت/ وحيث تنظر ترَ..."-وما أشبه ذلك-، وهو ذات متفاعلة مع القول الشعري، إذ مكنت البنية الخطابية للصيغة الشرطية ذات الشاعر من التذاوت والتحاور مع ذات المتلقي، ومع أناها التقديري الذي أنزلته منزلة المحاور الخارجي ،عبر استراتيجية تشقيق الذات، واستعارة الصوت التي يترتب عنها تشقيق القول الشعري و توليده-إن شئنا- على النحو الآتي :"ياروح/انظري تري كيف تتهتك/للضوء الستر /و كيف يتجلى لي السر من نور الفراشات ". حيث قصد الشاعر من هذه الحوارية/ المنولوغ الداخلي تبيان ما ألمَّ به وبمعادله الوجودي (الضوء)، حين تجلى لهما نور الفراشة/ الحبيبة، وجلالها، كما عمد إلى إضمار اسم ذات الجلال ليوهم القارئ بأنها ذات خارجية مستقرة في الغياب ، مستقلة عن الذوات غير متفاعلة معها ،و كذا ليفجر دينامية النص ويفتحه على امكانات تأويلية متعددة تعدد الأصوات التي ضمها القول الشعري في الديوان. ولا يخفى أن الصبغة الحوارية قد تجلت- أيضا- في البنى التركيبية لعتبات عناوين النصوص، حيث دلت كل عتبة على أدوار خطابية متنوعة تنوع الألبسة التركيبية التي تركبت منها، (أمضي إلى حيث ينتظرني سواي-اسأل العتمة من أين يأتي الضوء- لاغبار عليه- نكاية في جرحك-الهاوية أنت-صرخة ضوء تشي بفراشاتها-من يكتب من؟- انظر تر...)وغيرها من العتبات الدالة بنياتها على التعدد الصوتي. وقد ساهم التناص-أيضا- في تعدد أصوات الديوان ، باعتباره محاورة بعيدة تقوم على تعالق النصوص بعضها ببعض10، حيث تعالقت نصوص الديوان مع نصوص/أصوات عدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أ* تناص قصيدة "أمضي إلى حيث ينتظرني سواي" مع قصيدة الشاعر اللبناني أنسي الحاج بواسطة آلية التضمين، حيث ضمن الشاعر قصيدته "أمضي إلى حيث ينتظرني سواي" قول أنسي الحاج " وأنا لا أخرج من ظلمتك إلا لأحتمي بعريك ولا من نورك إلا لأسكر بظلمتك"11. ب* تناص قصيدة "اسأل العتمة من أين يأتي الضوء؟" مع عدة قصائد من ديوان (عظمة أخرى لكلب القبيلة) للشاعر العراقي سركون بولص بواسطة آلية التهجين النصي 12، وآلية التعليق حيث ذيل الشاعر مصطفى قشنني قصيدته بتعليق مفاده (أن النص مستوحى من فضاءات قصائد الآشوري التائه سركون بولص الموسومة ب" عظمة أخرى لكلب القبيلة). ج*تناص مع محمود درويش ، من حيث دال الفراشة ورمزيته13، بواسطة آلية الامتصاص. د* تناص مماثلة مع الشاعر "إلياس أبي شبكة" ، من حيث البنية التركيبية لعتبة عنوان الديوان " في ذمة الضوء" التي ماثلت من حيث الصورة التركيبية عنوان قصيدة أبي شبكة الموسومة ب"في ذمة الماضي" . هذا فضلا عن التناص الأسطوري؟ استدعاء أسطورة أورفيوس14-، والتناص التراثي، - في شقيه: المكتوب والشفهي15- اللذين تما بواسطة آليات الاستدعاء والتحويل. وتجدر الإشارة إلى أن توظيف الشاعر مصطفى قشنني للتناص ، لم يكن توظيفا مجانيا، بل كان بغرض حصر مشاركة الأصوات المستدعاة في تكوين النص، ومغايرتها، لإظهار انفراده بالتكوين الجمالي لقصائده وخصوصية تجربته وتفردها. وإجمالا، فإن ديوان "في ذمة الضوء" للشاعر مصطفى قشنني، مائدة طافحة بالجماليات الحديثة، يأخذ كل متلق منها ما يشتهيه، ... (*) إسماعيل علالي، شاعر وناقد مغربي هوامش: 1) الشاعر مصطفى قشنني شاعر وإعلامي مغربي، يشغل حاليا منصب الكاتب العام لاتحاد كتاب المغرب فرع الشرق. 2) في ذمة الضوء، ص:17 3) في ذمة الضوء، ص:74 4) في ذمة الضوء، ص:18 5) في ذمة الضوء، ص:71 6) في ذمة الضوء، ص:84 7) في ذمة الضوء، ص:84 8) - للتوسع ينظر باختين وديكرو. 9) ديوان في ذمة الضوء، ص:85 10) للتوسع ينظر جوليا كريستيفا،وجرار جنيت. 11) ينظر قصيدة: (كل قصيدة، كل حب) 12) أقصد بالتهجين تناص قصيدة واحدة مع نصوص عدة.12 13) ينظر ديوان "أثر الفراشة" لمحمود درويش 14) ينظر قصيدة "تغريبة أرفيوس" 15) ينظر الفاصلة الضوئية رقم7 من الديوان:" قالت الظلمة:/هذا وجهي عندكم".