شهدت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، يوم الخميس 10 نونبر 2016 بقاعة عبد الواحد خيري، في ما بين التاسعة والنصف صباحا والثانية ظهرا، مناقشة أطروحة دكتوراه في الآداب، تقدم بها الطالب الباحث ميلود الهرمودي، تحت عنوان «أنساق ثقافية في الخطاب الروائي لعبد الله العروي»، ضمن «مركز الدراسات في الدكتوراه: الإنسان والمجال التواصل والفنون»؛ دكتوراه تحليل الخطاب السردي بمختبر السرديات والخطابات الثقافية. وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: الأستاذ شعيب حليفي رئيسا ومقررا الأستاذ عبد الفتاح الحجمري مشرفا ومقررا الأستاذ إدريس قصوري ممتحنا ومقررا الأستاذ عبد الرحمان غانمي ممتحنا ومقررا. وفي تقريره الذي قدمه أمام اللجنة تحدث الطالب ميلود الهرمودي عن دوافع اختياره للمنجز الروائي عند عبد الله العروي، معتبرا أن مشروعه النقدي والنهضوي قد استأثر باهتمام كبير من لدن الباحثين والمفكرين، لما يكتسيه من طابع الجدة والشمولية والتميز، سواء المبتوت بالكتب المتعلقة بالإيديولوجيا أو بكتب المفاهيم. غير أن أعماله الروائية لم تحظ بالدرجة نفسها من الأهمية، إذ تفتقر المكتبة العربية إلى دراسة كلية ووافية عن إنتاجاته الروائية، الأمر الذي حفزه على مواكبة الأنساق الثقافية وارتحالاتها عبر المتن الروائي الذي يطرح قضايا جوهرية شهدها المغرب على مدى القرن العشرين. فقد كان العروي دائم البحث عن الشكل التعبيري الأنسب للمجتمع العربي، مهتديا إلى جنس الرواية ضمن مشروع فني يلائم متطلبات العصر ونمط الثقافة العربية، باعتبار الرواية الفضاء المحتضن للعوالم المتعددة التي يمور بها المجتمع المغربي بشكل خاص، والقضايا الكبرى والمصيرية في وجوده، والتحولات العميقة التي واكبت سيرورته وصيرورته عبر الأحداث التي شهدها خلال القرن العشرين. وبهذا تتيح الأعمال الروائية لعبد الله العروي إمكانية تصنيفها ضمن بنيات كبرى، نظرا لوجود روابط مشتركة بينها، وكونها تغطي حقبة هامة من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، الأمر الذي استدعى دراسة الأنساق الثقافية في كلياتها، أي في التأثيرات المزدوجة فيما بينها؛ كتأثير البنية الذهنية في التوجهات الفكرية، وتأثير المحيط الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية على سلوكيات الأفراد، وإبراز فعالية الأنساق الثقافية التقليدية في تكريس التأخر التاريخي. ولذلك، استدعت القراءة النسقية لنصوص العروي الروائية، الوصف والتأمل والشك والتفكيك وإعادة البناء، من أجل قراءة مستوعبة لسياقات إنتاج الخطاب، تمنح النصوص صفة تداولية تعلي من شأن المدلولات، وتجعل النصوص ناطقة باسم الأنساق الظاهرة والمضمرة، التقليدية والحديثة، العقلانية واللاعقلانية، المفتوحة والمغلقة. إنها عمليات تمكن القارئ من اكتشاف الزوايا المظلمة من الذات، والعوائق التي تحول دون تحقيق نهضة حداثية ممكنة. وركزالباحث في عمله على مشروع العروي في تساوقه مع العصر الراهن، وعلى الإشكالات المرتبطة بإمكانية تحيينه أو الدعوة إلى تجاوزه، مع وضع الاعتبار للتحولات التي شهدها المجتمع العربيمطلع العقد الثاني من هذا القرن. وإلى أي مدى ظل المثقف يعاني من تنكر رجل السياسة في مقدرة الثقافة على إيجاد حلول للقضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية والتنبؤ بمصير ومسار المجتمع. وتطرق صاحب الأطروحةإلى النسق التقليدي الذي رسخته المؤسسة المخزنية مع تعاظم الخطاب الكولونيالي، ودوره البارز في تأكيد الفكر التقليدي الذي بدا متعالقاً مع النسق الديني، إذ أسهمت كثافتهما التاريخية في إهمال النسق الحداثي وتكريسهما لتيمة الإخفاق.وفيما يخص الواقع الاجتماعي، فإن النصوص الروائية رصدت بحسب صاحب الأطروحة نسقين متحكمين في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد؛ نسق منغلق، يتمثل في التقاليد والعادات والطقوس التي يخضع لها الأفراد أثناء التنشئة الاجتماعية، دون أن تكون لهم القدرة على التخلص منها، لأن ذلك سيؤدي إلى التفكك الاجتماعي. ونسق منفتح على الغرب بحمولته الحداثية، أدى هو الآخر إلى التفكك الاجتماعي، نتيجة الحيرة بين الماضي والحاضر بطبيعتهما الثقافية المتنوعة. وإذا كان العروي يرفض النسق السياسي التقليدي الذي يرى فيه وريثاً للممارسات الاستعمارية، خاصة مع غياب الحريات والعدالة، فإنه يرفض أيضا التدين الشعبي، لخطورته في تكريس التخلف، سواء العقلاني أو اللاعقلاني، من طقوس رمزية ومعتقدات شعبية اتخذت صفة دينية. وفي المقابل، دعا الكاتب إلى تبني نسق فكري حداثي، من مقوماته العقلانية والفردانية والديمقراطية والماركسية الموضوعية، باعتباره المخرج من حالة التأخر التاريخي والتخلف الذهني. علاوة على استمرار المستعمر في استغلال خيرات البلاد، وربط الاقتصاد الوطني بالسوق الأوربية، مما أدى في بداية الستينيات إلى تدمر الفلاح، ومعاناة التجار، خاصة مع ظهور الإقطاعيين الجدد. نتيجة ذلك، ومع توسع اليسار، سنت السلطة المخزنية سياسة القمع والاعتقال والاغتيال السياسي، ومنع التظاهر وإغلاق مقار بعض الأحزاب، ومصادرة الصحف والمجلات والكتب الداعية إلى التحرر، وإصدار أحكام جائرة في حق النقابيين وأعضاء اليسار. وبذلك تكون أعمال العروي الروائية غطت حسب الباحث حقبة هامة من تاريخنا المعاصر، كشفت بعمق عن الثوابت والمتغيرات المتحكمة في البنى السياسية والاجتماعية والفكرية التي ميزت النظم الثقافية السائدة في المغرب، ضمن مقاربة أبانت عن الدور البارز لجنس الرواية في طرح ومعالجة إشكالات مصيرية يمور بها الواقع المغربي في تمظهراته المتعددة. في بداية مناقشة الطالب، والتي دامت حوالي خمس ساعات من النقاش العلمي في قاعة غصت بالباحثين في الدكتوراه والماستر، تدخل أ.د/ عبد الفتاح الحجمري( كلية الآداب بنمسيك- مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط) باعتباره مشرفا ومقررا، والذي أكد هذه الأطروحة اجتهاد محمود، يقف عند ثلاثة مفاهيم؛ وهي: النسق المضمر، والديناميةالتي قصد بها تفاعل الأجيال والثقافات، والمجاز الكلي عبر الانتقال من الجملة النحوية إلى الجملة الأدبية إلى الجملة الثقافية.رغم بقائها وفية للعروي فقط دون الانفتاح على نصوص أخرى تمثلت بدورها الأنساق الثقافية لغلاب وبنجلون.... كما أكد على ضرورة قراءة العروي بالعروي، والتمييز بين النسقين الثقافي والسياسي، وقراءة الأنساق المدمِّرة وفق منطق علم الاجتماع والفلسفة. أما أ.د/ إدريس قصوري( كلية الآداب بنمسيك) فتحدث عن فعالية العمل، وأهمية القضية التي يتناولها، وبهندسة البحث الشاملة وبنائه المتسق، وقدرة الباحث على استخراج العناوين. كما أشار إلى جوانب مهمة كان على الأطروحة اعتمادها منها: تبرير الغاية من دراسة الأنساق،والتركيز على كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ومحاولة قراءة العروي بعيدا عن الوسطاء،ودراسة نسق «التخلف» كعنصر مهيمن في نصوص العروي الروائية، بل وفي كل كتاباته، باعتباره نسقا وليدا لمسار تاريخي عميق ميز البنية الذهنية في المجتمع المغربي، والمؤسسة المخزنية التي رسخت التقليدية في شتى مناحي حياة الإنسان، وامتد ليشمل التأقلم مع الحضارة الغربية، وخيبة الفدائي والمقاوم، وإخفاق البورجوازية الصغرى، وتبخر آمال النخبة المثقفة. وسلط أ.د/ عبد الرحمان غانمي ( كلية الآداب بني ملال)الضوء على عنوان البحث الذي اعتبره عاما ومبهما، وعلى العروي العاشق للرواية التي يقول عنها أنه لو قُدِّر له أن يعيش في مجتمع حداثي سيختار أن يكون روائيا فقط. والتي يعتبرها (الرواية) كما جاء في تصريحاته الاعلامية مجالا للحرية التي يمتلكها المبدع ويصرفها نحو التخييل. كما لفت الانتباه إلى مجموعة من الملاحظات الأخرى الشكلية والمضمونية، مشددا على ضرورة ترتيب الروايات حسب صدورها الزمني، واستثمار مفاهيم النقد الثقافي، والاشتغال على المنجز الأدبي والفكري للعروي كوحدة كلية. ورفض إمكانية تصنيف النصوص الروائية على أنها دعوة للتاريخانية. المتدخل الأخير رئيس هذه الجلسة أ.د/ شعيب حليفي( كلية الآداب بنمسيك) انطلق من أهمية فكرة البحث التي تستحق التنويه، ودعا الطالب الباحث، وكافة الطلبة المقبلين على مناقشة أطاريحهم إلى الأخذ بملاحظات الأساتذة لما تحمله من قسوة علمية ضرورية في مثل هذا المقام، وتطرق لمجموعة من الملاحظات، تتعلق بالشكل والبناء العام للأطروحة ثم المنهج ، قبل أن يتوقف بشكل مفصل عند القضايا والمفاهيم ثم إشكالية البحث ومدى تفاعل الباحث معها من خلال ما مهد به نظريا ثم تحليليا . وبعد انتهاء المناقشة، وكلمة الطالب في رده على الملاحظات، اختلت اللجنة برئاسة السيد عميد الكلية للتداول، ثم عادت لتعلن أن الطالب ميلود الهرمودي قد نال شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص أدب حديث ، بميزة: مشرف جدا.