في قصيدته الشهيرة " خبز ونبيذ"يطرح هلدرلين سؤاله الصعب : " لماذا الشعراء في زمن الشدة" كتبها في نهاية سنة 1800،وهو نفس السؤال الذي يطرح في هذا العصر المداهم بالحروب والخراب والخسارات، حيث يستقي السؤال أهميته من كونه يحمل حقيقة ثمينة في وقتنا الحاضروالأزمنة القادمة،الجواب على هذا السؤال هو انشغال العديد من الشعراء في أزمنة الشدة هذه حيث طغيان واكتساح الانشغالات الاقتصادية والمالية والعولمة المتوحشة في مقابل هيمنة الفقر الروحي والرمزي ، وتقزم الإنسان وتحوله لمجرد سلعة في سوق النخاسة، ماذا يملك الشعراء ليقولوه في هذه الأزمنة الصعبة؟ ماذا تملك القصيدة لتمنحه لذوات مغتربة فقيرة روحيا ورمزيا، هل يملك الشعر أن ينقد جحافل الأرواح الضائعة المفرغة التائهة ، هل يمكنه أن يمنح معنى للأشياء والوجود في مواجهة اكتساح اللامعنى والتوحش المادي المكتسح والمداهم والقاتل لملكوت الروح والجمال؟ "مايبقى يؤسسه الشعراء" يقول هلدرلين، تبدو هذه الفكرة مبعثا للسخرية أمام اللامبالاة العامة لجحافل المهووسين بواجهات وبريق العولمة وشياطينها ومفاتنها وسحرها الأسود، إن زمن الشعر مختلف عن زمن الاقتصاد والتقنية والسياسة، هو زمن بطيء في مواجهة زمن السرعة نتائجه أذا كانت هناك نتائج لا تقاس بما يمكن ان تصله سرعة العولمة في ديوانه " يسمونني لا أحد" للشاعر العراقي عبد الكريم الكيلاني، هذا الانشغال القديم للشاعر بأسئلة الوجود والشعر، فأمام الفراغ الذي تخلفه الحروب والخسارات وضياع قيم الجمال والخير والحب، هناك هذا الانشغال بالحفاظ على البعد الرمزي للإنسانمن أجل إعادة بناء للإنساني، تبدو مهمته صعبة وطويلة يزحف الحزن والعتمات والهاويات لكن قصيدته غناء شبه مستحيل للهبوط والبحث عن المعنى الصعب والمستحيل لوجود سمته الجمال الإشراق والانتصار على قيم القبح والرداءة والفقر الروحي، مهمة تحملها القصيدة على عاتقها حتى ولو الأبواب المغلقة تصطفق أمام تقدمها الموسوم بالأمل الصعب ديوان "يسمونني لا أحد"، للشاعر عبد الكريم الكيلاني هو ديوان حفر في هذا الهش، القابل الانهيار، والشحوب و الانطفاء، هو حفر في السواد، في هذا الذي يشتغل، يضيء، لكنه محكوم بالانطفاء، يوجد الشعر في زمن الحروب والخراب والانهيارات، في هذه المنطقة الهشة من الوجود والكائن، في هذا اللا استقرار واللا يقين، في انهيار الجدران التي يمكنُ أن تسند الظهر وفي الأقدام تمشي تراوغ ألغام الوجود. ثمة وجود لكنه غير مكتمل، موجود لينهار ليدور، ليغضب من انتظار ما لا يأتي، هناك الذات تمارس وجودها، قناعاتها، اشتعالاتها، وهناك واقع الخذلان، واقع ما يقتل الرغبة في مهدها، ما يتلاعب باحتراقها، يستخف يتلاعب بأبهتها، بانتطارها، لتقع في دوار انتظار ما لا يأتي، يقول الشاعر: "أطلقي عنان الصباح يا عرش الفتنة ورواق البذخ ووسادة الشهوات يا قفطان الطلوع يتوكأ على عكاز المسافة الطريدة نسامر ساعات الجنوح وتدور تدور كدولاب عتيق غاضب أنهكه الانتظار." هناك صوت لولادة واعية غنائية للموت، هناك هذا المشهد البدائي، مسكونة الذات بالوجود والظلال، حيث الاحتفاء باللاشيء كنتيجة لسلسلة طويلة من الانتظارات الخائبة، هناك الرأس الحاسرة، واللسان المتلعثم، والصمت الثقيل، هناك أقدام العابرين تستل من الحزن أرواحه وتسلمه "لأقدام عارية في مدن القلق الضاجة بفوارس من ورق". هناك هذا الموت الذي يصحو في نفس الآن وتوقُّدَ الحبِّ، ينفتح، ينتشر، يبسط جناحيه. تصبح القصيدةُ مسكونة به، تجمد أو تحجر أكثر إحساسا عارفا لا يتغير، كما أركيولوجيا شعرية حميمة للقاء بالموت والفراغ والخيبة. سيرة ذاتية معتمة لإدراك الغفلية اللا تسمية التي تمنح للقراءة: لهذا الوجه الذي يرى ذاته ملسوعا بالعتمة بالخسارة وبالموت، يقول الشاعر: "نعبر أرتال الخوف والأسود يرقب أشلاء الدمع المنثور على الطرقات وتطوف عباءات الوقت على أرصفة القلب المكلوم يا هذا العابر ظلي ها أنذا وحدي في تابوت النرجس أداري قلقي اليومي وأندب خوفي." هناك هذا الذوبان لحياة الشاعر الذي يكتب في سواد ما يتلاشى يختفي، يضيع في الخطوات لمتعثرة في جمر الهزائم: "قليل من الحب كثير من الوجع ينكسر الضوء على وجه غيمة يبحث عن مسافات ممتدة إلى حيث لا مكان ليكتمل الوشم." وشم محفور بالغياب، بالهزيمة، وبخيبة للتوقعات. ليل من الخسائر ثقيل، وقليل من الضوء لا يكفي ليزيح هذه العتمات الزاحفة، معجونة هي القصيدةُ من "طين الوقت"، والقلب هذا الملكوت الجائع، وحدها تغذيه شظف الولادات الميتة، وما من وجود للذات المنكسرة القادمة من بلاد الكلام وثرثرة القيم سوى "هجير يلفح عند موائد فارغة" ومقاهي للهبوط عميقا في هذا الموت... وتصاعد الجدران وتكاثرها، تناسلها بالخوف قاتلِ الرغبة والانتظار والوعد بالحياة المشتهاة، يقول الشاعر: "تتنرجس روحي حين تمرين عليها كطاووس.. تلتحف بقلبك هذا الساهر في شرفة أوراقي أبعثر أزهاري حول ظلالك كل مساء.. وقطار العمر يسابق هذا الريح.. وأنت هنا.. في اللا قلب.. تلوذين بخوفك والخوف قصيدة هذا الزمن الصعب." ص (16) هناك هذه الحياة التي هي حياتنا أيضا، هناك هذه الكتابة في السواد حيث التلاشي، الحزن، اليأس والموت، اللغة، والضجيج الفوضوي للعالم تشكل كلها كتلة معتمة، كثافة للألم المختنق بالصمت والحزن، حيث الحفر في هذا الذي يتعذر تحمُّلهُ، تعمُّق في تفت العمر أمام لا مبالاة الألوف التي تشاهد ولا تحرك ساكنا. ثم هناك هذا الدوار، هذه الحركة يتشكل من هذه "اللَّا" تقاوم جغرافيا الموت والخراب، فماذا أمام اليائس سوى حلم تحطيم جدران الخيبة بحلم الحب والحرية، يقول الشاعر: "اقتلني يوميا باسم الحرية فأنا مقتول منذ سنين واصفع كلماتي المغموسة بالحرمان فالصفعة تنقذها من رائحة البارود اجعلني كرسيا أبديا يا وطن الموت واقعد فوقه طول الوقت واعزف خلف جراحي باسم الحرية أيضا سونيتة تشييع المحرومين فبلادي الحرة هذي تغمرها أوشحة من نوح وبكاء وأنين." حتى حين تبرق بارقة الحب في قصيدة الشاعر، فالانطفاء السريع هو النهاية، منذ تدثر الحب بالخيبات والهزائم أضحى مستحيل التحقق، مجرد كذبة تنتهي بانقشاع الوهم. يقول الشاعر: "حين أقول أحبك.. أكذب.. وأنت تكذبين فأنا وأنت شريدان في أرصفة الليل.. نلوذ بالوقت لنرسم الحلم." أو حين يقول الشاعر: "أنا وأنت نبلغ مراقي الوجد نحتفل باليتم.. ننسرب كالماء من فم الليل.. نطارح الشعر.. نلوذ بأطراف العمر.. ونرسم خيبتنا ونمضي." منذ أن فقد الشاعر أوريديسه وهو تائه يغني الألم الوحدة وتوقع الخيبات. مخلوق يعاقر غربته معلق على جدران قصيدته متأرجح بين الذاتي، وعوالم الدواخل مضطرب الروح بأحاسيس شتى تضطرب معها مياه القصيدة، في غنائية منوعة بتنوع أحاسيس الذات التي تتغنى بها. الحب، الحلم، الخيبة، اليأس، الموت في مواجهة عالم مهدد بتناقضاته، بخيباته، بهاوياته، بلا يقينه، بهوياته الآفلة. n ديوان" يسمونني لا أحد" للشاعر عبد الكريم الكيلاني هو ديوان جاء بعد سلسلة من الإصدارات شعرية ونقدية وروائية من بينها: ترانيم في الغربة، مجموعة شعرية، 1995 بقاياي، مجموعة شعرية، 1998 عري القناديل، مجموعة شعرية، 2008 خربشات على الهواء، كتاب نقدي 2009 تورين، رواية، 2011.