فيما مضى كانت الانتخابات الرئاسية للجمهورية الفرنسية، بشكل من الأشكال، نوعا من العرس الفرنسي الجماعي، حيث يختار الفرنسيون في إطار ديمقراطي نزيه من يعتبرونه أكثر كفاءة لممارسة هذه المهمة، التي كثيرا ما ارتبطت بمهمة الأب. فيختارون عموما شخصية لها تجربة سياسية كبيرة تمارس الدهاء السياسي والنفاق الإيديولوجي، شكليا، أقل من منافسيها. انطلاقا من هذه المبادئ العامة، كان الرئيس في اطار الجمهورية الرابعة، يُختار من طرف البرلمان الذي يعتبر أعلى سلطة تشريعية والذي هو نفسه من اختيار الأمة، فلا أحد يشك في نزاهته أو مشروعيته الشعبية التي تمثل فرنسا بكل أطيافها السياسية. غير أن في السياسة عموما هناك فرق شاسع بين النوايا المعلنة وبين الواقع. لذا فالتوافق بين البرلمانيين على شخص معين، غالبا ما يترجم باختيارهم لأضعف شخصية ليمارسوا عليها كل أنواع الضغوط والتأثير. انطلاقا من تشكيل الحكومة التي ينبغي أن تكون من الأحزاب التي ناصرت الرئيس وتكون بالضرورة حكومة ضعيفة، ولا تستمر طويلا. من هنا كل الاهتزازات السياسية والأزمات التي عرفتها الجمهورية الرابعة، والبلد خارج من توه من حرب العالمية الثانية المدمرة والقاتلة. لتغيير هذا الوضع كانت فرنسا في حاجة لشخصية قوية، أحد أبطال الحرب ومحرر فرنسا ليقترح نمطا آخر ويُخرج فرنسا من هذه الانتظارية المزمنة. فجاء الجنرال شارل دوغول واقترح عبر الاستفتاء الشعبي سنة 1962، شيئا بسيطا جدا، هو أن يُختار رئيس الجمهورية من طرف الشعب مباشرة عبر اقتراع مباشر في دورتين. وبهذا يُعطي للرئيس مشروعية شعبية وديمقراطية. في السياسة كل الأشكال تبدو للوهلة الأولى صحيحة، ولكنها تتلاشى مع الوقت. هكذا اقترح الجنرال هذا الحل، وصوت له الفرنسيون بغزارة . وترشح هو نفسه سنة 1965 لولاية تدوم سبع سنوات. خدعته الأرقام وصار هو الآمر والناهي ينصب الحكومات ويقيل الأخرى. ولكن هذه السلطة المطلقة مكنته من تمرير أشياء ثورية عظيمة : استقلال افريقيا على رأسها المغرب العربي وافريقيا «الفرنسية»، ومشاريع مُؤسسة في الثقافة بتعيين أندري مالرو، الذي لم يكن من حزبه، وزيرا للثقافة بكل السلط والإمكانات المادية. غير أن الحكم المفرد يزيغ بصاحبه إلى ارتكاب الأخطاء تلو الأخطاء. بدأ الأمر مع اختطاف المهدي بنبركة في قلب باريس ومن طرف بوليس فرنسي حقيقي، على الأقل في التوقيف الأول، كان شارل دوغول في عز الحملة الانتخابية الرئاسية، الشيء الذي لم يمنعه من اتخاذ مواقف مشرفة إزاء الحدث الكارثة. أمر فورا باعتقال الشرطيين المعنيين مباشرة بالحادثة وقطع العلاقات مع المغرب وبعث رسالة مواساة إلى أم الشهيد لا زلنا نحتفظ بنسخة منها، وأعلن اعلانا معروفا (ليس الموضوع هو الدخول في هذه التفاصيل المعروفة اليوم). المهم أن الجنرال لم ينتبه بما يكفي لهشاشة جمهوريته. هنا بدأ نزول الجنرال من غير أن يدري. فانفجرت في ماي 1968 مظاهرات الطلبة التي اتخذت شكل انقلاب غير معلن ، اضطر معه أكبر جنرالات فرنسا للهروب ليلا إلى ألمانيا حتى تستقر الأمور، لأن «الثوار» كانوا يعتزمون احتلال قصر الإليزيه. طرد كوهن بانديت الشاب الألماني الذي اعتقد أنه وراء كل هذا الحراك، وصار شارل دوغول يفكر في شيء يرجع مشروعيته المفتقدة. فجاءته أتعس فكرة في حياته (أو ما سمي فيما بعد بالانتحار السياسي): أن ينظم استفتاء شعبيا عاما لدمج الغرفة الثانية مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي مع التقليص من صلاحياتها. وإعادة تنظيم الجهوية أو الجماعات المحلية. أي كل الأشياء التي تمس النخبة السياسية يمينا ويسارا. وزاد من خطئه إعلانه أنه في حالة عدم التصويت على الاستفتاء بالأغلبية سيقدم استقالته حالا. بالطبع صوت الفرنسيون (بمن فيهم بعض حلفائه) ضد الاستفتاء وقدم شارل دوغول استقالته، وانتهى سياسيا نهاية مأسوية سنة 1989. وتوفي سنة 1970. نُظمت على الفور انتخابات رئاسية ونجح وزيره الأول السابق جورج بومبيدو لأن الفرنسيين لم يكونوا يكرهون شارل دوغول ولكن أسلوبه الشبه الديكتاتوري. كان جورج بومبيدو مريضا جدا، من غير أن يُعرف ذلك، وتوفي فجأة قبل نهاية ولايته سنة 1974. نُظمت مرة اخرى انتخابات رئاسية. هنا بدأت الفوضى وتجلت بعمق أخطار النظام «الرئاسي» الذي أقره شارل دوغول (ولو أنه ليس نظاما رئاسيا حقيقة) ولكنه سيصبح كذلك بالممارسة. كان المشهد السياسي على العموم يتكون من الأحزاب التالية : الحزب الدوغولي، ويمثل الأغلبية المطلقة مبدئيا، بعض حلفائهم من هنا وهناك ضمنهم الجمهوريون المستقلون على رأسهم فاليري جيسكار ديستان، الحزب الشيوعي كان يمثل حوالي 25 في المائة، الحزب الاشتراكي بزعامة فرانسوا ميتيران كان يمثل تقريبا أقل من 20 في المائة. إذا كان ضروريا أن نتحدث عن جون ماري لوبان، زعيم اليمين المتطرف، لأنه هو الذي يهمنا في نهاية هذه الورقة، لم يكن يمثل أكثر من 1 في المائة. دون الدخول في كل التفاصيل، جرت الانتخابات، وبقي في الدور الثاني فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتيران، وبمعجزة، أو تحالفات لا مبدئية، فاز فاليري جيسكار ديستان الذي كان يعتبر أضعف حلقة في اليمين. ولكن تلك مساوئ نظام شارل دوغول، الذي كان قد توفي من زمان حتى لا يرى ما آل إليه نظامه. بعد سبع سنوات رديئة جدا لفاليري جيسكار ديستان ، رغم تعاطفه مع العرب وافريقيا، تأتي انتخابات 1981 ويصعد فرانسوا ميتران لولايتين وبتفوق كبير، هو الذي كان يقر بأن اليسار ليست له أغلبية في فرنسا. بقي الدوغوليون بزعامة رجل استثنائي جاك شيراك يمثلون الأغلبية العددية ولكن بدون رئيس جمهورية، نزل الحزب الشيوعي إلى أقل من 2 في المائة، وظهر جون ماري لوبان كقوة جديدة حارب بها فرانسوا ميتران اليمين حتى أصبح لهم فريق برلماني بفضل الانتخاب النسبي. فيما بعد صعد شيراك رئيسا للجمهورية سنة 1988 ولولايتين. ليأتي من بعده دوغولي آخر ولكن من نوع خاص جدا هو نيكولا سركوزي، وسيعوضه الاشتراكي فرانسوا هولاند سنة 2012. ولكن اليمين المتطرف وصل اليوم عبر بنت جون ماري لوبان التي خلفته، بعد المحاكم والمشاكل، إلى أكثر من 25 في المائة، يعني أكبر حزب في فرنسا. من هنا تفتح الطبقة السياسية، من اليمين حتى اليسار مرورا بالوسط، عينيها وتغلقها كل يوم على ظاهرة مارين لوبان وحوالي 25 في المائة من الفرنسيين الذين يصوتون عليها، لماذا وكيف أخذت هذه الأصوات؟ ولماذا عدم محاولة تسويق أفكارها؟ هكذا كلما اقتربت الانتخابات الرئاسية في فرنسا، يعمد اليمين التقليدي الفرنسي، وأخيرا حتى اليمين العادي وبعض الفصائل المحسوبة على اليسار، إلى التلويح بثلاثة ياءات ( 3 i) : - Immigration الهجرة أو المهاجرين، -Identité Nationale الهوية الوطنية، Insécurité انعدام الأمن. ما هو مخيف وديماغوجي حقا هو الربط الآلي بين هذه العناصر الثلاثة بالادعاء أن المهاجرين الأجانب الذين يسكنون فرنسا، والأفارقة في مقدمتهم، هم المسؤولون عن انعدام الأمن لأنهم لا يتوفرون على هوية وطنية فرنسية، ولم يستطيعوا الاندماج في المجتمع الفرنسي بسبب عاداتهم ودينهم (المقصود هنا الاسلام). والهدف الحقيقي وراء هذا الخطاب السياسي المتطرف هو سرقة بعض الأصوات من حزب الجبهة الوطنية المتطرف الذي يعد في الأصل منتج هذا الخطاب، ليس فقط في زمن الانتخابات، بل طوال السنة. ماهو مثير في هذا الخطاب، كذلك، هو أن المهاجرين الذين يتم الحديث عنهم، خاصة ما يسمى بالجيل الثاني والثالث، ولدوا في فرنسا. وحسب القانون الفرنسي يمكن لأي شخص أن يحصل أوتوماتيكيا على الجنسية الفرنسية اذا كان أحد أبويه فرنسيا ( وهو ما يسمى بحق الدم). وإذا ولد بفرنسا (حق الأرض)، بمعنى أن الأمر يتعلق بمواطنين فرنسيين اختاروا عن طواعية الجنسية الفرنسية دون إكراه من أحد، وهم يساهمون في الاقتصاد الفرنسي بالعمل وتأدية ضرائبهم، ومنهم من يساهم بشكل متقدم في البحث العلمي في الجامعات الفرنسية. إن الذين يروجون لهذا الخطاب يعرفون حق المعرفة أن أكثر من نصف الفريق الفرنسي لكرة القدم مثلا ليس من أصل فرنسي. دون الحديث عن رئيس الجمهورية السابق الذي هو من أصل بولوني ودون الحديث عن الرئيس الحالي للوزراء وعمدة باريس من أصل إسباني. طبعا وراء هذا الخطاب قضية أخرى شديدة الحساسية هي أن بعض الدول، كالمغرب مثلا، يمكن لمن لهم أصل مغربي أن يحتفظوا بجنسيتهم الأصلية أو جنسية أحد والديهم حتى ولو حصلوا على جنسية أو جنسيات أخرى، لذلك سنلاحظ أن المهاجرين من أصل مغربي يتشبثون بهويتهم المغربية ويلحون على تجديد جوازاتهم المغربية وبطائقهم الوطنية، (خاصة عندما قرر جلالة الملك محمد السادس نصره الله أن بإمكان الأمهات المغربيات إعطاء جنسياتهم لأولادهم) إلى جانب أوراقهم الفرنسية وهذا اختيار ليس فيه أي تعارض ولا أي مبرر لطرح قضية الهوية الوطنية، لأن هؤلاء المواطنين اختاروا أن يعيشوا بهويتين، بقدر ما يحتفلون برأس السنة الميلادية دون أن يعطوا للأمر طابعا دينيا، بقدر ما يتشبثون بزيارة بلدهم المغرب في شهر رمضان وفي العيد الأضحى. لا ننسى في هذا السياق نقطتين أساسيتين : كيف أن هولندا مثلا تمارس ضغطا كبيرا على المغرب لإلغاء الجنسية المغربية عن كل مغربي قرر أن يتخذ الجنسية الهولندية، وتتبعنا كيف أن المغرب ظل صامدا في موقفه الرافض لهذا الضغط والمتشبث بمواطنيه في كل أنحاء المعمور. في نفس الإطار نتتبع باهتمام الإجراءات الجديدة التي استطاع السيد محمد عامر (لما كان وزير الجالية المغربية المقيمة في الخارج) أن يجعل هذه الجالية تستفيد منها، دون أن يتعارض ذلك مع كون أفرادها يتوفرون على جنسية أخرى، وأذكر هنا بعض هذه الإجراءات : إمكانية مساعدة العائلات التي اختارت أن تدفن أمواتها بالمغرب، وأحيانا تأدية فاتورة هذه العملية المعقدة. تسطير برنامج طموح وطلائعي لبناء شبكة من دور الثقافة المغربية في العالم، كنوع من تقريب الثقافة المغربية من مغاربة العالم. ربما كان آخرها تحويل عمارة في قلب باريس إلى مركز ثقافي مغربي، بأمر من العاهل المغربي، نصره الله، الذي أعطى موافقته على تصاميم المعلمة. تخفيض ثمن تعشير السيارات بالنسبة للمهاجرين الذين تقاعدوا ويطمحون الى أن تكون لهم سيارة بالمغرب، وذلك بنسبة كبيرة. دون الحديث عن الكثير من الإجراءات الأخرى في طور الانجاز مثل مجانية التحويلات المالية بين بلدان اقامة مواطنينا والمغرب. وتحضرني هنا واقعتين، الاولى أن السيد عامر (عندما كان وزيرا) صرح مرة أن مغاربة العالم يشكلون الجهة السابعة عشرة (بالطبع قبل التقطيع الجديد للمغرب) من جهات المغرب فغضب بعض المسؤولين الأوروبيين من هذا التصريح وفاتهم أن الأمر يتعلق فقط بنداء للقلب وليس بقرار دستوري. أما الواقعة الثانية فهي أننا لاحظنا أن السيدة مرتين أوبري، رئيسة الحزب الاشتراكي (سابقا) وعمدة مدينة ليل تقضي عطلتها السنوية في مدينة وجدة ونحن نعرف أن هذه المدينة ليست، بالضرورة، مدينة سياحية لكننا وجدنا أن أغلب المغاربة المقيمين في ليل من مدينة وجدة ويشكلون بالنسبة إليها مخزونا انتخابيا لا يستهان به وتريد أن تكرم مدينتهم. فأين الهوية الوطنية هنا. هكذا لاحظنا بأن الرئيس الفرنسي الحالي، الذي يطمع في دورة رئاسية أخرى يجمع برلمانيي الغرفتين، في قصر فيرساي، ومعلوم أن الدستور الفرنسي، في مبدئه لفصل السلط يمنع على رئيس الجمهورية دخول قبة الغرفتين، ولكن يمكن أن يلتقي بهم في مكان آخر. ليخطب فيهم بأنه سينزع الجنسية الفرنسية لكل من ثبت فيه أنه شارك في عمل ارهابي ضد فرنسا. بالطبع صفق له اليمين واليسار. واستقالت إثر ذلك وزيرة العدل كريستيان توبرا واتضح بعد تدخل القانونيين وعلى رأسهم المحكمة الدستورية أن هذا الإجراء غير ممكن لأنه غير قانوني وغير دستوري، وهكذا مني فرانسوا هولاند بهزيمة سياسية أخرى أرجعته أسفل السافلين في كل استفتاءات الرأي الفرنسي. في نفس السياق برز نيكولا ساركوزي الذي يمتاز على كل منافسيه في الدفاع عن أفكار مارين لوبان والجبهة الوطنية، بأنه بمجرد انتخابه رئيسا للجمهورية سيمنع التجمع العائلي. في الحديث السياسي الديماغوجي يبدو بأنه يتحدث عن مهاجر جاء حديثا إلى فرنسا ويريد أن ترافقه زوجته، الغير فرنسية، لتسكن معه في فرنسا، وهو شيء مكفول في فرنسا ودوليا ولا يكمن أن يمنعه، لأن هناك قوانين ومؤسسات تحمي تطبيق القوانين. غير أن خطاب نيكولا ساركوزي لا يعني ذلك، بل يعني إيهام الفرنسيين بأن أي فرنسي تزوج بأجنبية سيمنعه من أن يدخلها لفرنسا للعيش معه، وهذا كذلك ممنوع في القانون الفرنسي. ونيكولا ساركوزي نفسه أصله بولوني وزوجته الحالية على الأقل، لأن الرجل مزواج، إيطالية منحها الجنسية الفرنسية، وترافقه للتصويت في فرنسا وليس في بلدها الأصلي، الشيء الذي قد يكون منطقيا. الآن وقد انتهى في فرنسا كل الرؤساء الكبار من شارل دوغول إلى فرانسوا ميتران إلى جاك شيراك، هل سُيختار الرئيس المقبل يساريا أو يمينيا على أسس عنصرية أي .(3i) ذلك ما سنراه، ولكن من هنا خطورة النظام الذي تخيله الجنرال شارل دوغول: أن يختار الشعب رئيسه حتى ولو نجحت قيم الديماغوجية والافتراء.