لا أحد يجادل في كون تمدد خريطة الجريمة في مجموعة من المدن المغربية، أضحى مثار الكثير من المخاوف والقلق. فالسرقة بالنشل أو اعتراض المارة بالسلاح الأبيض وبيع المخدرات بأصنافها؛ كلها مظاهر باتت تؤرق بال المغاربة. إن المتفحص للمشهد الاجتماعي في المغرب، يلاحظ أن مؤشرات الجريمة مازالت في ارتفاع ملحوظ، يظهر ذلك من خلال الأرقام المسجلة، حيث لا تكاد أي صحيفة ورقية أو إلكترونية، أن تخلو من أخبار الجرائم، مما يؤشر على أن المجتمع المغربي يعيش أزمة قيم حقيقية ... لم أولد مجرما من أجل رصد هذه الظواهر ومقاربتها؛ انتقلنا إلى حي سيدي مومن بالدار البيضاء، التقينا بمحمد أو «السيمو» ، كما يحب أن ينادى عليه؛ شاب في التاسعة عشرة من عمره، له سوابق عديدة في السرقة والنشل، سألناه عن الأسباب التي جعلت لقب «شفار محترف»- على حد قول صديقه - يطارده، فأجاب: «أنا لم أولد مجرما، فالواقع هو الذي دفعني إلى ذلك..لقد تابعت دراستي حتى السنة أولى إعدادي وكنت من بين التلاميذ العاديين إلى أن توفي والدي وتركنا في هذه الخربة الكحلة» ، مشيرا بيده إلى «بيت قصديري» وسط إحدى دور الصفيح بسيدي مومن، مضيفا وعلامات البؤس ظاهرة على وجهه الأسمر «.. بعدها تركت المدرسة واشتغلت في محل للنجارة كمتعلم بخمسين درهما للأسبوع، لم يرق لي ذلك واشتغلت بعدها في مهن عديدة إلى أن قادتني الأقدار لهذا المصير وأصبحت لصا.. لكن قبح الله الفقر..» يقول محمد. على بعد أمتار قليلة من بيت السيمو، التقينا برضوان، اسم مستعار، يافع في الخامسة عشرة، كان يرتدي لباسا رياضيا، صرح قائلا: «.. أنا را ماشي فحال دوك العربازة »، مشيرا لمنافسيه في السرقة والنشل بالحي. له طريقة غريبة في نشل الهواتف، ينتظر حتى يشتعل الضوء الأحمر فتقف السيارات بالتوازي، فمن كان يتكلم وهاتفه بمحاذاة النافذة، فتلك هي ضحية رضوان، ينشلها ويسلم قدميه للريح، ولصغر سنه يعتبر أن الأمر عاديا. في سياق حديثنا معه وقف أحدهم، وهو شاب من جيران رضوان، قال لنا بالحرف: ماذا تنتظر من طفل لم يلج قط المدرسة ؟ تأنيث اللصوصية لم تقتصر ظاهرة السرقة على الذكور وحدهم ، بل استطاعت الإناث أن يجدن مكانا لهن في هذا الوسط. فتيات تجردن من طبيعتهن الفيزيولوجية حتى أصبحن منافسا حقيقيا للذكور. فتيحة ذات العقدين، أبدعت وتفننت في هذا المجال، تعلمت كيف تسقط المحفظة من الجيب في السجن وخرجت لتنفذ ما تعلمته وراء القضبان ، تقول: «..أنا أم لطفلة والحياة صعبة جدا، بحثت عن عمل في العديد من الشركات والمعامل، لكن نظرا لسوابقي السجنية لم أجد مكانا وسط العاملات . وأنا أرى ابنتي تبكي جوعا والحياة تزداد صعوبة، فالحل الوحيد الذي وجدته أمامي هو أن أخرج للسرقة وأنا مكرهة على ذلك..» سقوط منظومة القيم قال فؤاد بلمير، أستاذ باحث في علم الاجتماع: «عندما بدأت تنحدر المدرسة العمومية انحدرت معها منظومة القيم، وسقطت كذلك معها الأخلاق، ومن الناحية الاقتصادية سقطت معها الطبقة الوسطى. فقد شكلت المدرسة غداة استقلال المغرب مصعدا اجتماعيا بالنسبة لمجموعة من الناس الذين عاشوا هشاشة من الناحية الاقتصادية، استطاعوا بسبب أبنائهم الذين يدرسون في المدرسة العمومية، أن يرقوا بأنفسهم وبأسرهم إلى وضعيات حسنة»، و«بذلك تم تجنيب المجتمع مثل هكذا مشاهد من سرقة ومخدرات إلى غير ذلك». «فقد دخل المغرب في مرحلة تكاثر الإجرام بمختلف أنواعه في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وبالضبط سنة 1983 عندما أصبح المغرب تلميذا نجيبا في المؤسسات المالية الدولية، أي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وبالتالي طبق ما سمي عند الاقتصاديين بسياسة إعادة الهيكلة والتقويم، هنا فرضت مجموعة من الشروط على المغرب كالتخلي عن مجموعة من المرافق من بينها المدرسة العمومية، ولم يبق المغاربة يتباهون بالثقافة والعلم بل دخلوا في ثقافة استهلاكية صرفة». وزاد بالمير قائلا في حديثه مع ل «الاتحاد الاشتراكي»، «إن للأسرة كذلك مسؤولية في هذا الباب، أولياء الأمور لا يولون أهمية لتنقلات أبنائهم، بحيث يتمكن الطفل من ولوج مدرجات الملاعب لوحده، والتي تعد فضاء لتفريغ النزعة العدوانية، وقد يتناول المخدرات رفقة أقرانه بحيث يجد نفسه يعيش استقلالية معينة ويعيش جل أوقاته بالشارع، فهو يلاحظ من هم أكبر منه وهذه قد تكون بداية دخوله ميدان الإجرام». وتابع بالقول « لم يسبق للمغرب أن كان بلدا غنيا، ونسب السرقة وتناول المخدرات في ارتفاع ملموس.. فالفقر عامل من العوامل، لكن لا يمكن أن نعتبره العامل الحاسم. فالعديد من الشباب المغاربة فقراء من الناحية الاقتصادية ، لكن لا يدفعهم هذا لا للسرقة ولا لبيع المخدرات». استياء وقلق.. وضياع من جهته كضحية لحالات سرقة، أعرب عبد القادر، صاحب دكان لبيع المواد الغذائية، عن استيائه لضياع جحافل من الشباب في مقتبل العمر بين المخدرات وما يوازيها من انحرافات، وقال إن تعرضه للسرقة المتكررة من بعض مراهقي الحي، يجعله مستاء لانهيار أخلاق رجال الغد، «أنا الي كايبقا فيا هوما واليديهم الي كايتمحنو عليهم». وقال عبد لله ، بائع جائل، إن ما أشاهده من أحداث السرقة المتكررة يوميا يجعلني أقلق بشأن المستقبل . ووصف ممتهني اللصوصية بعديمي الجدوى وعديمي النفع، مضيفا أنهم لا يقدرون إلا على نهب الناس أموالهم بالحيلة وبالقوة إن اقتضى الحال ذلك، «أنا أتردد على هذا السوق يوميا، وما أشاهده من أحداث يجعلني حائرا أمام ما أرى». انتقلنا من حي سيدي مومن إلى حي مولاي رشيد، حي شعبي، يعتبر بدوره إحدى بؤر البؤس في المدينة العملاقة، ما أن توغلنا وسط أزقة الحي الضيقة، حتى تهافت علينا عدد من الشباب والمراهقين راغبين في التوسط لأي غريب من أجل اقتناء المخدرات، مرددين عبارات من قبيل «خاصك شي حاجة مزيانة»»باغي تقدا أخويا.. كاينا الموت»..حدثنا أحدهم عن سبب قدومنا إلى هناك فقادنا بدوره إلى (س. م )بائع مخدرات من أصناف الأقراص المهلوسة والحشيش، وبالنسبة للأثمنة قال إن الأقراص المهلوسة ب 80 درهما للقرص الواحد، أما في ما يخص الحشيش فثمنه 30 درهما للغرام الواحد .و عن الأسباب التي دفعته لاختيار تجارة المخدرات، قال: «كنت بائعا جائلا، لكن كل مرة كان رجال السلطة يأخذون مني سلعتي ظلما، وفي مرة دافعت عن حقي فانهالوا علي بالضرب والشتم ..تلك كانت هي أخر مرة تجمعني بتلك المهنة ، وقررت بعدها أن أتاجر في المخدرات «باش نخرجو ليها معاهم فاص»؟ مخدرات بقلب مؤسسات تعليمية صادف مغادرتنا لبيت س.م، وقت خروج التلاميذ من المؤسسات، وبقرب إحدى الثانويات التقينا بأنس، شاب يدرس بمستوى الباكالوريا، تحدث إلينا بطلاقة، مبرزا أن الثانوية لا تخلو بدورها من هذه السلوكيات. وقال إن بائعي المخدرات من بين التلاميذ الذين يدرسون معنا في المؤسسة، منهم من يبيع ومنهم من يتوسط في عملية البيع «المعجون والنفحة والي بغيتي كاين باغيين يخرجو علينا»، مشيرا إلى أن حتى الفتيات أصبحن يتعاطين المخدرات داخل المراحيض وبجانب الأسوار الخارجية للثانوية، ومنهن من تقدم جسدها مقابل ما يخدرن به عقولهن؟ التشريع.. وأسئلة العقاب من جهتها قالت الأستاذة خديجة فارحي، باحثة في علم الإجرام: «تتداخل، لإنتاج الفعل الإجرامي ، عدة عوامل منها ما هو ذاتي. فمن الناس من يميل إلى الكسب السريع عن طريق السرقة وتجارة المخدرات، فهذه الأخيرة يكون دخلها سريعا، وأقل عبئا من أعمال السرقة». وزادت أستاذة علم الإجرام بجامعة الحسن الثاني قائلة، «إن للتنشئة الاجتماعية دورا كبيرا في إنتاج الظاهرة الإجرامية، لكن في بعض الحالات قد نجد آباء وأولياء منحرفين، غير أن أبناءهم يكونون في وضعية عادية سوية. لكن ليست هذه هي القاعدة، وفي علاقي بالطلبة عرضت علي غير ما مرة حالات لمجموعة من الطلبة، طالب أو طالبة يقول إنه يعلم أن دخل والده غير مشروع والكل يعرف انه تاجر مخدرات، فما الحل لكي لا أعتمد على دخل غير مشروع، أو بالاصطلاح الديني «حرام»؟. وأضافت فارحي في حديثها ل«الاتحاد الاشتراكي»: ما دامت نسبة الاتجار في المخدرات واللصوصية أو نسب الجريمة بشكل عام في ارتفاع، فيجب توجيه رسالة واضحة للمسؤولين، أولاها تحمل المسؤولية. أعني بهذا ألا يكون المراقب أو من نحتاجه لمتابعة هؤلاء فاسدا فسادا من نوع آخر. وأشير إلى الفاعلين في العدالة الجنائية ككل. فإصلاح وتخليق هذه المنظومة من شأنه أن يقوم بدوره في محاربة جرائم المخدرات والسرقة، ثانيا تفعيل دور الأسرة وإعادة النظر فيها ومساعدة أولياء الأمور لتحسين دورهم، وثالثا إصلاح منظومة التعليم وما لها من علاقة بإعادة الاعتبار لدور الأستاذ والمعلم كمرب أكثر من أي شيء أخر، إضافة إلى إعادة النظر في التشريع والنظام الجزائي ضد من يقترف هذه الأفعال، فحينما تكون هناك عقوبات مجاملة فيها نوع من اللين ولا تعاقب ولا تساهم في تحقيق لا ردع عام ولا ردع خاص، فالنتيجة هي تزايد حالات العود، و مع كل اقتراف فعل ومع كل متابعة ظهور احتراف أكثر بالنسبة لهذه الجرائم». أرقام ودلالات في السياق ذاته، سبق للشرقي الضريس الوزير المنتدب لدى وزير الداخلية، أن صرح في شهر مايو المنصرم، أن الجرائم المقرونة بالعنف تؤثر سلبا على الإحساس بالأمن لدى المواطنين ، مشيرا الى أن الجهود الأمنية المبذولة مكنت من حل 9385 قضية من بين 13 ألفا و435 قضية مسجلة تم بموجبها إحالة 10 آلاف و990 شخصا على العدالة. ومقارنة مع نفس الفترة من سنة 2015، فقد عرفت جرائم الضرب والجرح المفضيين إلى الوفاة والسرقة الموصوفة انخفاضا ملحوظا. ومن خلال إجابته عن سؤال بقبة البرلمان حول «تعزيز الأمن وخلق الطمأنينة والأمان في نفوس المواطنين»، أبرز المسؤول الوزاري أن مصالح الأمن جندت، في إطار تعزيز الإجراءات الأمنية لمحاربة الجريمة والانحراف، كل الإمكانيات المتاحة لديها، ورفعت من وتيرة تدخلاتها في جميع المدن من أجل تطويق الجرائم المتسمة بالعنف وإيقاف مرتكبيه في حالة تلبس ، ناهيك عن ضبط الأشخاص المبحوث عنهم لتورطهم في جرائم مختلفة ،حيث تمكنت الجهود المبذولة خلال نفس الفترة من إيقاف 124 ألفا و904 أشخاص تم وضعهم تحت الحراسة النظرية منهم 85 ألفا و56 شخصا ضبطوا في حالة تلبس و39 ألفا و848 شخصا مبحوثا عنهم من أجل اقتراف جرائم مختلفة..». مضيفا أنه تم وضع استراتيجية للحد من مظاهر الجريمة تتمثل محاورها في إحداث عدة مناطق للأمن ودوائر إضافية للشرطة، من أجل تقريب خدمات الشرطة من المواطنين مع تدعيم الأمن بالأحياء والتجمعات السكنية وتزويد عناصر الشرطة بالوسائل المادية الضرورية والمتطورة لمحاربة الجريمة بشتى أنواعها». كما «تم إعداد خطة استباقية في التعاطي مع الظواهر الإجرامية عبر تعزيز الحضور الأمني بالشارع العام وتفعيل التدخلات الوقائية والاستباقية ونشر فرق أمنية راجلة ومتحركة في الشوارع والأحياء السكنية التي تسجل بها جرائم السرقات أو الاعتداءات المتبوعة بالسرقة»، مؤكدا أنه «تم إعداد وتنفيذ خطط عمل ميدانية لمكافحة الجريمة وإيقاف الأشخاص المشتبه فيهم، بناء على دراسة تحليلية لأفعال الإجرام داخل المدن، قصد معرفة مواطن ارتفاع معدلات الجريمة ومواطن تمركزها خصوصا جرائم الاعتداءات والسرقات المرتكبة بالعنف بالشارع العام ، وذلك من أجل تحديد الطرق الفعالة لردعها...».