كان من الطبيعي أن تقابل أطروحة «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق، الكندي الجنسية، الفلسطيني الأصل، بنقد قوي وعنيف من منظري المدرسة الإصلاحية الإسلامية، الذين أقاموا بنيان رؤيتهم على إمكانية إقامة حكم إسلامي من خلال أطر ومؤسسات الدولة القومية الحديثة. والباعث على اتخاذ ذلك الموقف النقدي الصارم، فحوى الأطروحة الهادم لرؤيتهم من أساسها، فما يسعون إلى تحقيقه، محكوم بالاستحالة قبل البدء به، إذ إن توسلهم بالدولة الحديثة لإقامة حكم إسلامي يطبق الشريعة هو «الدولة المستحيلة» بعينها التي عناها حلاق. أما الاتجاهات العلمانية فقد فرحت بالكتاب فرحا شديدا، لأنها طبقا لتصوراتها عنه حسبته يبشر بما تؤمن به وتدعو إليه، من استحالة قيام الدولة الإسلامية مرة أخرى، مع أن الكتاب لا ينفي إمكانية قيام حكم إسلامي بشروطه الصالحة لقيامه، وكل الذي نفاه إمكانية تحقق ذلك عبر الدولة الحديثة. في قراءتها وعرضها للكتاب ذكرت هبة رؤوف عزت، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن حلاق أخبرها أن «أطروحته الكلية في الكتاب يمكن أن تؤول من قارئيها بأكثر من تأويل، فقد يرى فيها دعاة الدولة الإسلامية إسقاطا لمشروعهم بمنطلقات بحثية علمية، وقد يرى فيها معارضو إقامة الدولة الإسلامية دليلا علميا على استحالة المشروع الذي طالما بشر به الإسلاميون». وتابعت هبة: «وقد تجد فيها أطراف أخرى مدخلا لمراجعة المقولات السابقة المتخيلة عن إمكانية تطبيق الشريعة وإقامة الحكم الإسلامي من خلال الدولة الحديثة، بما بينه لها من طبيعة الدولة الحديثة التي يتعذر معها تحقيق مشروعهم من خلالها، لما حشده من أدلة وبينات في كتابه». الأطروحة في عيون منتقديها ماذا قرأ منتقدو الكتاب فيه؟ وما الذي جعلهم ينتقدونه بعنف وشدة؟ بنبرة قوية وصف محمد المختار الشنقيطي، أستاذ الأخلاق السياسية بكلية الدراسات الإسلامية في قطر، كتاب الدولة المستحيلة ب»المربك في قراءته، وأنه لم ينل قيمته وشهرته من عمق فكرته، وتماسك مضمونه وإنما من عنوانه المثير». فالكتاب وفقا للشنقيطيي «ينقصه التماسك المنطقي، ووضوح الأطروحة، وفيه الكثير من النقد السلبي للغرب، دون تقديم بديل إسلامي، فالكتاب يفتقر إلى عمق الفكرة، وتماسك الأطروحة، وفاعلية البدائل المطروحة». ورأى الشنقيطي أن «الكتاب ينطلق من بعض المصادرات والمسلمات، منها أن الحداثة الغربية فاشلة، وأن البديل الإسلامي مستحيل - على الأقل سياسيا – ما يعني أنك أمام لون من النقد السلبي العدمي إلى حد كبير». ومال الشنقيطي إلى «إرجاع نقد حلاق للحداثة الغربية بأنه ربما يكون لأسباب آيديولوجية، فقد لمس من روح كتاباته في هذا الكتاب وغيره أنه ذو منزع يساري، ما بعد البنيوي، فهو مطلع اطلاعا هائلا على كل ما انتقد به الغربيون الغرب، وجاء بحصاد ذلك كله، ووضعه في كتابه، فبعضه صحيح، وبعضه الآخر مبالغ فيه». وأما عن معالجة حلاق لنموذج الحكم الإسلامي، فوصفها الشنقيطي بأنها «جاءت بلغة وعظية أخلاقية، أكثر من أن تكون لغة علمية مدروسة وملموسة». وفي نقده الجوهري لأطروحة الكتاب رأى الشنقيطي أن «حلاق حاول في كتابه التركيز على القيم الأخلاقية التأسيسية السابقة للتعاقد السياسي، فهو يرى أن المجتمع الغربي أصبح مبنيا على قيم تعاقدية، تسود فيها النفعية والنسبية، من غير مرجعية ثابتة، ولم يعد فيها مطلقا قيم مبدئية، وهو توصيف أقره الشنقيطي ورآه صوابا». لكن الشنقيطي استدرك متسائلا: «هل هذا يعني أن ثمة بديلا مبدئيا مجردا خارج سياق الزمان والمكان، خاصة فيما يتعلق بالدول، يمكن أن يبنى على الأخلاق فقط؟ فأين القوانين والمؤسسات؟» معتبرا هذا المنحى من «الإشكالات الكبرى في معالجة الكتاب، فالأخلاق لوحدها لا تبني الدول، وقبل أن تنتقل من دائرة الالتزام إلى دائرة الإلزام لا توجد الدولة، وحينما تُنقل الأخلاق إلى دائرة الإلزام توضع القوانين وتوجد الدولة». وبكلمة أخيرة وصف الشنقيطي أطروحة حلاق بأنها «لون من الحنين إلى الشرق بأخلاقياته وربما بروحانيته (وهو من أسرة مسيحية يتسم بمنزع روحاني أخلاقي) بعد أن عاين فشل الحداثة الأوروبية، ونموذجها في الدولة الحديثة». وفي السياق ذاته تركز نقد الفيلسوف التونسي، أبو يعرب المرزوقي لأطروحة الكتاب في ورقته النقدية المعنونة ب»هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟» على «مناقشة الأسس الفلسفية لنظرية الدولة الإسلامية بين نفي وجودها في الماضي ونفي إمكانها في المستقبل..». وقد أقام المرزوقي نقده لأطروحة الكتاب على مخالفته «لحلاق في تصوراته عن الحداثة ودولتها الحديثة»، وعن تصوراته بشأن نموذج الحكم الإسلامي، واصفا إنتاج حلاق بقوله «لذلك فزعم النظام الإسلامي مختلفا بالجوهر عن النظام الحديث بمعيار وجود الأخلاق وعدمها، وبمعيار وظائف الدولة الحديثة وعدمها من السذاجة والتسرع إلى حد لا يكاد يصدقه عاقل..». لماذا ينتقدون أطروحة حلاق؟ من جانبه استغرب الباحث في الفكر الإسلامي، والخبير في الحركات الإسلامية، حسن أبو هنية، حجم ونوعية النقد الذي وجه لأطروحة «الدولة المستحيلة»، مشيرا إلى أن «حلاق فهم الحداثة فهما تاما وعميقا، وفي الوقت نفسه فهم السلفية (كنموذج ماضوي) التي هي المقابل الموضوعي للحداثة، فهما صحيحا ودقيقا». وأوضح أبو هنية أن قراءة حلاق لنموذج الحكم الإسلامي، «قراءة متوافقة تماما مع قراءة النمط التاريخي، والأصولية الدينية، وأصول الدعوة الوهابية، وقراءة سيد قطب، المتمثلة في مبدأ حاكمية الشريعة». وردا على سؤال حول « قراءة حلاق للحداثة الغربية وما أنتجته خاصة الدولة الحديثة، أكد أبو هنية أن «قراءة حلاق قراءة دقيقة وموضوعية، فالدولة الحديثة بنسقها وأنظمتها وقوانينها مفهوم حداثي ينتمي إلى فضاء مغاير للفضاء الإسلامي، حلت فيه الدولة محل الله من حيث السيادة». وشرح أبو هنية الوجه الذي جعل حلاق يحكم بأن «للدولة ميتافيزيقيتها الخاصة بها، بأنها أصبحت هي المرجعية بذاتها، واستغنت عن أي مرجعية من خارجها، فحلت بالتالي محل الله من حيث التشريع والسيادة والحاكمية، وهذا مختلف جذريا وكليا عن نسق الحكم الإسلامي». وأكدّ أبو هنية أن أطروحة حلاق في «استحالة الدولة الإسلامية صحيحة تماما، فالدولة الحديثة بنسقها ومرجعيتها الذاتية لا تتسع لإقامة حكم إسلامي بنسقه الأخلاقي ومرجعتيه المغايرة لها تماما، ولا يعني هذا بحال استحالة إقامة حكم إسلامي بنسقه الخاص به، بل هو واقع في دائرة الإمكان متى ما توفرت له شروط قيامه». من جهته أبدى الباحث الأردني، حمزة ياسين «تحفظه الشديد على وصف أطروحة حلاق بالسطحية، لأنه شخصية أكاديمية مرموقة، وباحث علمي من طراز رفيع، وما قدمه في أطروحته له قيمته العلمية وأصالته في دوائر البحث الأكاديمي الغربي، واختياره لتوجهات وفلسفات معينة من ضمن المتداول الفكري والفلسفي لا يسوغ وصف أطروحته بالسذاجة عند من يختار غيرها». واعتبر حمزة أن «الإصلاحية الإسلامية الساعية إلى التوفيق بين الدولة الحديثة باعتبارها آلية محايدة، وبين تطبيق الحكم الإسلامي، لن تتمكن من إقامة الحكم الإسلامي الذي تحدث عنه حلاق في أطروحته، وربما إن وفقت في مسعاها (التوفيقي) فلن تقيم الحكم الإسلامي المعروف تاريخيا، وإنما سيكون شكلا آخر من الحكم». يظهر تماما أن أطروحة الدولة المستحيلة إنما أرادت تحديدا تلك الدولة التي تسعى لإقامتها تيارات الإسلام السياسي الإصلاحية، متوسلة في ذلك بالدولة القومية الحديثة، استنادا إلى منهجيتها التوفيقية بين منتجات الحداثة الغربية كآلية إجرائية، وبين مرجعتيها الإسلامية، ولأن تلك التيارات فهمت مغزى أطروحة حلاق فهما جيدا، انتقدتها بشدة وبالتالي فلن يكون لها أثر جوهري في أوساط تلك التيارات سواء على المستوى النظري أو العملي. ما هي «الدولة المستحيلة» في أطروحة وائل حلاق؟ لا يقوى قارئ هذا الكتاب بعد تيقنه من أن عنوانه المبهم «الدولة المستحيلة» إنما يراد به تحديدا «الدولة الإسلامية»، إلا أن يرفع صوته متسائلا: كيف يجازف أكاديمي مرموق بإطلاق هذه الدعوى العريضة، ووقائع التجربة التاريخية شاهدة على قيامها، مع توارد بشارات الوعود الدينية الإسلامية على عودتها مرة أخرى في قادم الأيام؟ هذا السؤال لم يكن غائبا عن فصول وصفحات كتاب «الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» للبروفيسور وائل حلاق، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، سنة 2014، وقد بدا واضحا أن تركيز المؤلف على إبراز طبيعة الحكم الإسلامي ومعالمه كنموذج ومفارقته بالكلية للدولة الحديثة إنما كان يستبطن ذلك السؤال، لتتمدد إجابته المحكمة على مساحة واسعة من صفحات الكتاب. أطروحة الكتاب الكلية، كما وصفها المؤلف نفسه، بالغة البساطة، فهي تقول إن مفهوم «الدولة الإسلامية» مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة. استحالة تحقق مفهوم الدولة الإسلامية، يرجع إلى أمرين: أولهما: اختلال التصورات بشأن نموذج الحكم الإسلامي المطبق طوال اثني عشر قرنا، ما قبل الحقبة الاستعمارية، المختلط بالتوهم المساوي له بالدولة الحديثة. وثانيهما: «افتراض الخطابات الإسلامية المعاصرة أن الدولة الحديثة أداة للحكم محايدة، يمكن استخدامها في تنفيذ وظائف معينه طبقا لخيارات قاداتها وقراراتهم..» باعتبارها وعاء فارغا يتسع لدولتهم الإسلامية التي ستطبق «القيم والمثاليات المتأصلة في القرآن» كتلك التي حققها الرسول عليه السلام في «دولته الصغيرة». ويتعين على قارئ «الدولة المستحيلة» حتى يتمكن من استيعاب مقولات الكتاب الكلية، التشبع التام بتفاصيل التغاير الجوهري، والاختلاف الكلي بين الدولة الحديثة ونموذج الحكم الإسلامي، وقد جهد المؤلف في استقصاء وجوه تغايرهما واختلافهما، ليصل في نهاية المطاف إلى مقولته الصادمة «الدولة المستحلية». فما هو نموذج الحكم الإسلامي، الذي يجادل حلاق بشدة على أنه مغاير تمام المغايرة، ومختلف جذريا عن نموذج الدولة الحديثة؟ ولماذا اعتبر حلاق الخطابات الإسلامية المعاصرة التي تفترض في الدولة أنها أداة حكم محايدة قاصرة في تصوراتها المبنية على توهمات غير مطابقة للواقع؟ ولماذا كانت الدولة الإسلامية مستحيلة التحقق باستخدام إطار الدولة الحديثة؟ في مقدمته التأسيسية الهامة يتحدث البروفيسور حلاق المولود في مدينة الناصرة، إحدى المدن الفلسطينية المحتلة، من أسرة مسيحية، عن أن «المسلمين اليوم قد قبلوا بمن فيهم كبار مفكريهم وعلمائهم بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه وكحقيقة طبيعية، وافترضوا في أغلب الأحيان أن هذه الدولة لم تكن قائمة على مر تاريخهم الطويل فحسب، بل ساندتها أيضا سلطة القرآن نفسه». ونتيجة لذلك، يرى حلاق أن «مسلمي اليوم يواجهون تحدي التوفيق بين حقيقتين: الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره، والثانية هي الحقيقة الديونطولوجية (الأخلاقية الواجبة) المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة، ويزيد من صعوبة هذا التحدي أن الدولة في الدول الإسلامية لم تقم بالكثير في سبيل إعادة تهيئة أي شكل مقبول من حكم الشريعة الأصلي». ونقل حلاق عن جماعة الإخوان المسلمين المصرية إعلانها الذي رأت فيه أن «الدولة المدنية كتعبير عصري عن الدولة الحديثة بما يتلاءم مع المتغيرات الجديدة لا يتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن الإسلام هو المرجعية العليا للأوطان الإسلامية أو هكذا يجب أن يكون الحال. فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية فلا يوجد ما يمنع من تطويرها.. و»لا تعارض للدولة المدنية أو القومية مع الشريعة الإسلامية». علق حلاق على العنوان الفرعي الأخير من إعلان الإخوان المسلمين بقوله: «لكن هذا التناقض وارد بالتأكيد، ذلك أن أطروحة هذا الكتاب، كما ألمحنا توضح أن أي تعريف لدولة إسلامية حديثة متناقض ذاتيا بصورة جوهرية..» لانطوائه على تناقض داخلي (سيأتي بيانه)، وشدد حلاق على أن «ذلك التناقض الذاتي الأصيل في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقي». يبدو واضحا من مقدمة المؤلف التأسيسية مدى تشديده على أن الدولة الحديثة لا تصلح إطارا لإقامة الحكم الإسلامي، ومن الخطأ الكبير اعتبارها أداة حكم محايدة كما تفترض الخطابات الإسلامية المعاصرة، كما أبدى حلاق اعتراضه على مسلك الاتجاهات الإسلامية – وفي صدارتها الإخوان المسلمين – التي رأت أنه لا تعارض بين الدولة المدنية الحديثة مع الشريعة الإسلامية، ما يعني أن نقده في الأساس موجه لها، وأن ما تبشر به من إمكانية إقامة الدولة الإسلامية سيفضي حتما إلى «الدولة المستحيلة». ويظهر من نقد حلاق لمنهج الإسلاميين التوفيقي بين الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتصريحهم بعدم وجود تعارض أو تناقض بينهما، أنه لا يرتضي هذه التوفيقية التي غالبا ما تتذرع بالتمييز بين المفاهيم المشبعة بحمولات أيدلوجية وفكرية وبين صفتها الأداتية الإجرائية، أي اتخاذها كآلية إجرائية محايدة، مشددا على أن «الدولة تمتلك ككيان متمركز حول الإنسان، ميتافيزيقا تستقر ضمن حدودها بوصفها إرادة سيادية، وتولد الميتافيزيقا معانيها الخاصة، وهذا يعني أن نظراتها المعينة إلى العالم هي من صنعها وملتزمة بمعاييرها الخاصة..».