يعيش العالم حاليا مرحلة اقتصادية مهمة ،شهدت تطورات متلاحقة، من ضمنها قيام منطقة التجارة العالمية وتبعاتها، إلى بروز الشركات العملاقة وتسابقها على الاندماج بهدف التخصص، ورفع القدرة التنافسية، وبروز العملاق الصيني وغزوه الأسواق العالمية. وواكب ذلك ثورة في تكنولوجيا المعلومات قلبت كل الموازين في سرعتها وتنوعها الذي يكاد يكون يوميا، وصاحب ذلك على المستوى الدولي تطورات ملحوظة في تطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتحويلها عبر المناولة الصناعية الى صناعات مغذية لصناعات أخرى أكبر. وبدأ نشاط المناولة الصناعية يتسع في دول العالم المتقدم حيث يغطي نسبة كبيرة من إنتاجها الصناعي، تزيد عن 15% في دول الاتحاد الأوروبي و35% في الولاياتالمتحدةالأمريكية و 56% في اليابان. وتلعب المناولة الصناعية دورا مهما في تمكين الصناعات الصغيرة والمتوسطة من الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة لديها، والتصرف الدقيق والمحكم في وسائل إنتاجها، كما تلعب دورا أساسيا في تنمية وتنظيم النشاط الإنتاجي في الوحدات الصناعية ورفع قدرتها الإنتاجية والتنافسية وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، كما تساهم بشكل غير مباشر في تشغيل العمالة الوطنية وتقليص نسب البطالة وبالتالي رفع مستوى الدخل ورفاهية المواطن. وإذا رجعنا الى مفهوم المناولة الصناعية يتضح لنا أنها العملية التي تكلف بواسطتها مؤسسةٌ، مؤسسةً أخرى، لتنفيذ إنتاج معين لصالح الأولى والتي تسمى في هذه الحالة بالآمرة، وتسمى المؤسسة المنتجة بالمناولة. وتعتبر المناولة الصناعية، والتي أصبحت نشاطا ملحوظا، من الاستراتيجيات الناجحة في تنمية الصناعة، ولذلك تأسست بورصات أو مراكز للمناولة والشراكة الصناعية في كثير من بلدان العالم. وتوفر هذه المراكز بنوكا للمعلومات تحتوي على قواعد معلومات للمنتجات والمؤسسات التي تعمل على إنتاجها، كما تساهم هذه المراكز في تنظيم معارض للمناولة الصناعية تلعب دورا أساسيا في الترويج للمنتجات وعقد الصفقات وجذب الاستثمار والشراكات بهدف تطوير المؤسسات الصناعية القائمة والرفع من قدرتها التنافسية، ويمكن ان تكون بورصات أو مراكز المناولة حكومية أو مشتركة أو خاصة. تجارب البداية ومع قلة التجارب العربية في مجال المناولة الصناعية، إلا أن هناك تجارب ناجحة في المغرب وتونس والجزائر، كما بدأت بعض الدول العربية الأخرى الدخول في هذه التجربة مثل مصر والسعودية والامارات والاردن. ومن النتائج الملموسة للمناولة الصناعية تنزيل المؤسسات الصغرى من الكبرى، وقد أبدعت بعض الشركات العربية الكبرى في ذلك، نذكر منها على سبيل المثال تجربة مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، والتي لعبت دورا مهما في تنمية المناولة الصناعية بالمغرب، فقد قامت المجموعة منذ العام 1996 بوضع استراتيجية قائمة على التخصص ركزت فيها على وظائفها الأساسية وتنازلت بموجبها عن الوظائف والمهام الثانوية ضمن نشاطاتها، وتعاقدت مع مؤسسات صغيرة ومتوسطة مغربية مما عزز موقعها التنافسي من جهة وحقق الإسهام الفعال في تنمية وتأهيل قطاع المناولة الصناعية بالمغرب. وقد ارتفعت نسبة مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في تنفيذ المشاريع الاستثمارية للمجموعة الى حوالي 70% مع خلق العديد من فرص العمل. وسيخرج عن تطبيق هذه الاستراتيجية ما يزيد عن 112 نشاطا في مجالات الميكانيك والكهرباء والهندسة المدنية والخدمات خلال عام 2006 . المؤقت .. إلى ما لا نهاية أغلب الشركات التي تشتغل في إطار المناولة قد تكون غير معروفة، بحيث أن مكتب الشركة المعنية تجد به فقط السكرتيرة، التي غالبا ما تكون هي الأخرى «العلبة السوداء» للشركة والضامن لسرية ما يقع بها ، أما العمال فهم يشتغلون في جهات أخرى. الضوء الأخضر الذي أعطي لتأسيس هذا النوع من الشركات جاء بعدما دخلت مدونة الشغل حيز التنفيذ سنة 2003، بحيث تناسلت شركات المناولة وشركات التشغيل المؤقت كالفطر، دون أن يحترم بعضها البنود القانونية المنصوص عليها في المدونة. شركات المناولة وشركات التشغيل المؤقت دورها توفير اليد العاملة للادارة، وهي تشغل من العامل البسيط الذي لا يتوفر على أية شهادة ، إلى العامل المؤهل من أصحاب الشهادات ، لكن بعقدة لا تتعدى ستة أشهر وعلى العامل في نهاية عقده أن ينتقل إلى شركة أخرى من الشركات، وأحيانا يظل دون شغل إلى أن تتم المناداة عليه من جديد. غير أن السؤال المطروح هو لماذا تلجأ بعض الشركات الكبرى إلى التعامل مع هذه الشركات رغم كونها تتكبد خسارة مالية جراء ذلك. السبب بحسب ذوي الاختصاص هو أن هذه الشركات تحاول» التملص» من الالتزام قانونيا بحقوق اليد العاملة. وغالبا ما يبدأ الأجر الممنوح للمقاولة عن كل أجير من 6000 درهم، فيما يكون نصيب المستخدم من هذا المبلغ 2500 درهم فقط في اغلبية الأحوال. ودون حقوق، أي أن الأجر يتم تسليمه أحيانا في غلاف أصفر. بعض هذه الشركات أصبحت لها خيوط متشعبة وأضحت تبحث عن مستخدمين يقبعون في الفقر بدواوير ومناطق نائية، لا يدركون أدنى حقوقهم القانونية حيث يتم استغلالهم بأبشع الطرق. وتسند لهم المهام الشاقة رغم خطورتها الصحية أحيانا.. فعامل المناولة ليس له الحق في قروض الأبناك حتى أن العقود مع الشركة تكون في الغالب لستة أشهر وأحيانا ثلاثة أشهر أو شهرين. كما يتم الالتفاف على إقرارات الضمان الاجتماعي. فالانخراطات تدفع او لا وقد يتم التلاعب بها. أما الساعات الإضافية و تعويضات القفة والنقل فلا وجود لها في عرف العديد من شركات المناولة. وبالتالي فالفرق بين ما يحصل عليه مستخدمو الشركة الأم ومستخدمو شركات المناولة وشركات التشغيل المؤقت شاسع ، حتى في الحالات التي تكون فيها المهام المنجزة هي نفسها، بل إن بعض أرباب هده الشركات يرون أن من حقهم الاستغناء بشكل نهائي عن كل من تخلى بدون عذر عن القيام بالمهام المنوطة به . بمعنى اوضح ممنوع الاضراب او المطالبة بالادماج فسيظل المستخدم مؤقتا الى ما لانهاية. ومن مظاهر سلبية هذه الشركات ، هو عدم احترام مقتضيات قانون الشغل، سواء الحد الأدنى للأجور أو في ساعات العمل، أو حقوق المستخدمين في الصناديق الاجتماعية أو في شروط الصحة والسلامة، وهي معطيات مرصودة بدقة في مجموعة من القطاعات. مصادر الاتحاد الاشتراكي أفادت بأن حوالي 30 في المائة فقط من هذه الشركات هي التي تلتزم بأداء مستحقات وواجبات مستخدميها بالشكل المطلوب، وتحترم حقوقهم القانونية والاجتماعية، وتؤدي اشتراكاتهم في الصناديق الاجتماعية، فيما باقي الشركات، لا يهمها سوى الربح المادي ومراكمة الأرباح. شركات المناولة ...أو بيع الأوهام؟ يبدو أنه بات لأي كان أن يبادر إلى تأسيس شركة للمناولة من أجل الربح السريع عبر استغلال وضعية الشباب المعطل، بتشغيلهم بأجور هزيلة، وبعدد ساعات عمل تصل إلى ما فوق 12 ساعة في الحراسة أو التنظيف أو غيرها من المهام التي بدأت عدة قطاعات عمومية وشركات كبرى في التخلص من الإشراف عليها. فقد انتشرت هذه الشركات التي تفوز بالصفقات بهذا الشكل أو ذاك، في قطاع تأمين الحراسة أو النظافة، دون احترام لنصوص مدونة الشغل، وخصوصا الحد الأدنى للأجور والتأمين والتسجيل بالصندوق الوطني للتضامن. فكيف يعقل أن يتقاضى الأجير داخل بعض الشركات راتبا لا يتعدى 2500 درهم شهريا، وقد ينخفض عن معظم الأجراء إلى 800 درهم من أجل العمل ليلا أو نهارا في الحراسة الخاصة ولمدة 12 ساعة؟ . وكيف يمكن أن تتقاضى المنظفة أجرا لا يتعدى 1500 درهم، وقد ينخفض في معظم الحالات إلى 500 درهم دون أدنى مراقبة من ممثلي وزارة التشغيل؟ الامر لم يعد متوقفا على الاهانات التي يتلقاها مستخدمو بعض شركات المناولة، إذ كيف يعقل أن تتوقف شركة المناولة عن تأدية أجور العمال الشهرية، بدعوى أن الإدارة صاحبة الصفقة لم تصرف لها دفعة مالية ما. والأخطر من هذا كله هو أن مستقبل هذه الفئة من العمال غير مضمون ومهدد في أية لحظة ... إذ أنه بمجرد انتهاء عقدة التناول بين الشركة المناولة والجهة المعنية بالصفقة، تعمد هذه الجهة إلى التعاقد مع شركة مناولة ثانية. دون أن تتم الإشارة إلى ضرورة الاحتفاظ بنفس العمال والعاملات. وأن تكون شرطا من شروط قبول أية شركة منازلة التنافس على الصفقة، لكي لا يتم طرد العمال وتشريدهم وقطع أرزاقهم. ضرورة القطع مع النقائص هل ستبادر الجهات المسؤولة إلى الانتباه إلى هذه الفئة من العمال والعاملات وإنصافهم ؟. وهل ستبادر بالتفتيش والمراقبة والعقاب و تشكيل لجن لفحص ملفات هذه الشركات التي لا يتوفر معظمها حتى على مقرات حيث يكون مالكها يحمل كل الوثائق والملفات بمحفظته وسيارته ؟ إذا كنا اليوم ومن خلال هذا الملف نحاول لفت الانتباه إلى موضوع هو إنساني بالدرجة الأولى، لارتباطه بأرزاق آلاف وربما ملايين المغاربة التي «تبتلع» بشكل أو بآخر، من خلال بعض هذه الشركات، فالمطلوب اليوم هو التحرك الجدي للوقوف على أسباب فشل هذه الآلية، وتحولها إلى عائق للسلم الاجتماعي . إن المناولة والتشغيل المؤقت في حاجة إلى قانون وإلى متابعة في تطبيق القانون، حتى يكون المستثمر المقبل عليها منخرطا في الدورة الاقتصادية، محترما للقوانين المنظمة، وعلى القطاعات التي تلجأ إلى هذه الشركات أن تتحمل مسؤولياتها في مراقبة تطبيق دفتر تحملات يشارك العمال في صياغته ومراقبته، حيث مازال بعضها لا يرقى إلى مستوى الطموح الذي يحمي الأجراء من الاستغلال.