أظن أنه من البديهي لفهم وتفسير الطبيعة الراهنة للديمقراطية المغربية، أن نتكئ على الإسنادات التالية عساها تنير لنا الطريق لإدراك الوضع الصائر. 1- البيئة الاجتماعية للدولة المغربية 2- النظام السياسي 3- المثل العليا أ- ونقصد بهذا المرتكز السوسيولوجي، التجمعات السكانية ودينامية الترابطات والتفاعلات التي شكلت ما تواضعنا على تسميته بالمجتمع المغربي. وعليه، فمادام الأمر يتعلق بمفهوم الديمقراطية فإن تحليلنا سيقف عند ما حل بالمجتمع المغربي وبسيرورته للدمقرطة كما أريد لها من الأطراف الداعية لها وغير الداعية، النافذة وغيرها والملحقين منهم والملتحقين بهم. ولنتساءل إذن: ما موقع الجماعات والفئات والطبقات المشكلة لهيكلة المجتمع المغربي ، أي شيء يشكل معنا السياسي والاجتماعي، في مبناه السياسي؟ أي دور يحمله في حركية المجتمع للانتقال إلى كيان سياسي ديمقراطي، تحكمه مثل عليا، وأهداف سامية، يكون المجتمع لها وبها، ولا يكون بسواها؟ ولنتساءل من جديد، ما موقع النبلاء والأعيان والارستقراطية، والتجار، وملاك العقار، ورجال الدين (الفقهاء أو ما اصطلح عليه بالعلماء، ولابد من التذكير بما كان لهم في تأسيس دول سابقة). والمستثمرين والرأسماليين والإقطاع، وما لعداهم من امتيازات ونفوذ، والثيوقراطيين وشيوخ الزوايا والقبليات والعشائريات والمشيخات، وقد كان لها من القوة المادية والوجدانية ما أهلها ،في مراحل تاريخية، لقض مضجع السلطان بالتسيب وإثارة الفتن. و هذا الفسيفساء، لا يختلف عن غيره مما كان عليه الأمر في دول أوروبية وآسيوية، وإن كان في الطبيعة وليس في الدرجة. والسؤال الجوهري بهذا الصدد يحتوي على شقين: هل لهذه المكونات قناعة بالدمقرطة؟ وما طبيعة التنازلات المميزة والنافذة لثروتهم ونفوذهم وتراتبيتهم؟ ومما لا ريب فيه أن احتفاظ كل مكون بها، والتحايل للاحتفاظ يشكل العائق الاستراتيجي في الدمقرطة والاستقرار. فأقطابهم لا ينطقون عن الهوى، حين يتحدثون عن الخصوصية المحلية لمفهوم الديمقراطية، فكأني بهم يدعون ابتكار أو اختراع ديمقراطية على مقاسهم، ويتجاهلون أن مفهوم الديمقراطية مفهوم إنساني عام مؤسس ومبني منذ قرون، ولا يمكن تحريفه بسائر الأهواء والميولات الفردية منها والجماعية. يتشكل النظام السياسي المغربي ،على العموم، من أطراف متعددة كالمؤسسة الملكية، ومؤسسات ونخب وقوى منحدرة من التشكلات الاجتماعية والتاريخية المومأ إليها سلفا، وقد خولت إليها ما تتوفر عليه، وما تحصل لديها عبر حراكها التاريخي، من سطوة ونفوذ، سواء تلوَّن ما تحصل عليه، بالعرف أو الدين أو اللغة. وهكذا حدث أن تقاسمت، كل حسب حجمها وقوتها وموقعها الجغرافي والتاريخي، السلطان والتحكم والنفوذ والامتيازات المادية منها والأدبية،والواضح أن لميزان القوة دورا فعالا وعاملا حاسما في طبيعة ودرجة السلطان والنفوذ. إن ما نود إيصاله هو أن أي أنظمة ديمقراطية أو مؤسسات دستورية إنما تعكس بالضرورة اهتمامات و مشاغل لمختلف تلك القوى المشكلة للمجتمع، وأن ما يؤكد حقيقة نظرنا، أن ما يحيكونه من منتوج ديمقراطي لقيط، لا يتطابق والمنتوج الديمقراطي الإنساني والذي ساهمت فيه مختلف الإنسانية - يصرون على توصيفه بالديمقراطي- وأن ما خالفه إنما يؤسس للخصوصية الديمقراطية المغربية. عندما نسترجع الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية في الدول الديمقراطية نلمس الوضوح التام إلى حد بعيد في النظام السياسي الوطني. إذ أن التشكيلات السياسية تتمترس وراء أهداف وإيديولوجيات تعكس مواقع اجتماعية، لفئات أو طبقات متمايزة، موقعا وثروة ونفوذا وسلطانا أو أصولا، تاريخيا عرقا أو لونا أو تدينا أو نيوقراطيا. إذ أن مجمل هذه التوصيفات، سواء اجتمعت أو انفردت إنما تفعل فعلا في ترسيم خصوصية القوى الاجتماعية، وخاصية التنظيمات السياسية. لهذا، وذاك، يكون التنظيم الحزبي لا يشكل خليطا، فسيفسائيا كما هو الشأن في الدول اللاديمقراطية. فهناك يتضح المحافظ، والمحافظ الديني، والتقدمي، واليساري ويمين الوسط، والوسيط، والرأسمالي الليبرالي، والاشتراكي، والاشتراكي الاجتماعي، والديمقراطي الاجتماعي، والماركسي اللينيني، والتروتسكي، والفوضي والملكي وهلم جرا. كما للمتتبع والمهتم أن يقف ،وبكل يسر، على التطابق بين ايديولوجية حزب ما، ومشروعه السياسي والاجتماعي، وأهدافه العليا، والقوة الاجتماعية المتبنية له والمتعهدة به و له .. والحاضنة له، فكرا وسلوكا. أما في المغرب الحديث فلا نلحظ الاختلاف ذلك، فالحزب عند التأسيس، يجمع منخرطيه كما اتفق، ولا تميز بين أصولهم الاجتماعية والإثنية، وشرائحهم وفئاتهم وطبقاتهم، وبعدها يقترض الزعيم عنوانا ايديولوجيا للحزب، وكأنه يستدين قرضا ماليا من البنك. هكذا إذن يمكن لكل أن يتصور كيف تجري الأمور في بلدنا وأن على من يحتاج إلى تأكيد، أن يراجع التاريخ السياسي للأحزاب المغربية ليدرك ذلك. فلا تطابق بين التكتل الحزبي والأصول الاجتماعية لأعضائه ولا تتطابق المشاريع والأهداف والعناوين الإيديولوجية إلا فيما ندر. فأي مجتمع ديمقراطي يمكن أن يولد هذا الخليط؟ وهل بإمكان ولادة كهذه أن تؤسس نظاما سياسيا وحزبيا تقوم على أركانه دولة ديمقراطية؟! 4 ألقينا بصيصا من الضوء على البيئة الاجتماعية، في بعدها الانثروبولوجي في المغرب الحديث. والتي استمرت معاصرة لنا بلون من الألوان، أو تعديل لصيغ أشكالها الاجتماعية، وبالتأكيد تدخلت في التعديل عوامل بشرية كولونيالية وعوامل محيطية إثنية، وعوامل أتوقراطية دولتية، كما خلصنا، إلا أن هذا النمط من تشكلات البيئة الاجتماعية وما أفرزته من تضاريس جغرافية بعوامل بيئية وإنسانية، منها ما هو قصدي، ومنها من امتنع عن القصدية، بحكم الأنساب والعرف والتراتبية.ومن الضرورة أن ينعكس أو تعكس في البناء الديمقراطي المأمول. وبدلا من محاصرة تلك الطفيليات المعوقة، يتم توظيفها، ايديولوجيا وسياسيا، للحفاظ على المصالح المادية والأدبية والسلطانية، تحت ذريعة الخصوصية المحلية. وبالمقابل، وبالرجوع إلى الدول الأوروبية والآسيوية الديمقراطية، ندرك أن ما كانت عليه بيئاتها الاجتماعية من تعقد صارح وبليغ لم يحل دونها وبناء حضارتها الديمقراطية. فرغم تعدد الأعراف والديانات والعقائد والألوان والأعراف والعادات والتقاليد والعبادات وتعدد اللهجات واللغات والألسنة، فإن قناعتها ووعيها بالقيم الديمقراطية، كالإخاء والمساواة والحرية الفردية، والحرية بمعناها الواسع والشمولي والعدالة الاجتماعية، وحماية الأقليات والمساواة في الحقوق والواجبات، وماهو أهم في الخضوع للقانون والتصرف تحت مظلته، مهما كانت المسؤوليات والتنصيبات، نقول إن وعيها وقناعتها، قد حولت كل العوائق اللاديمقراطية، إلى لبنات وأعمدة خادمة للديمقراطية، ولاشك أن ما أوضحناه، بصدد النظام السياسي وفي عمقه التنظيم السياسي والحزبي، فإن هيكلة النظام وبناء قواعده ومؤسساته السياسية والدستورية، ماكان لها لتكون، لولا وجود أحزاب سياسية وتجمعات أهلية وجمعيات مدنية قادرة وواعية وحريصة ومواكبة لتنشئة مواطنين مؤهلين للعيش في عالم يمور بالقيم العليا وبالمثل الإنسانية. وعليه، فلنتساءل: أي ديمقراطية نريد؟ أي ديمقراطية يريد المغاربة وأي ديمقراطية نتمثلها جميعا، اقتداء بالغرب، وأيها يرغب فيها الفقراء والمهمشون، وأخيرا، أي ديمقراطية يرغب النافذون في إهدائها إلى المغاربة، فئات وطبقات وشرائح متدنية ومغلوبة؟؟ 5 ناقشنا بأهمية بالغة أهمية البيئة الاجتماعية وما تحتويه من تشكيلات اجتماعية وقوى إثنية، كما أبرزنا كيف السبيل إلى تحويلها إلى آليات موجبة لخدمة القوى الاجتماعية القائمة في مجتمع راغب في سعيه إلى إقامة مجتمع متوازن، بين الأفراد والجماعات -مهما كبرت أو صغرت- قائم على الحق والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، لتحقيق كيان ديمقراطي متماسك تحميه القوانين والمؤسسات الدستورية، وبقدر ما تتعدد العوائق البشرية، بقدر ما تتعدد القوانين والمؤسسات الحقوقية والقانونية لضبط التوافقات والتماسك . وفي ثنايا نقاشنا للنظام السياسي، أوضحنا، أن أمر بناء مجتمع ديمقراطي لا يمكن أن يتم ما لم تتوفر لإحداثه، ميكانيزمات قوية، تتمثل في أحزاب سياسية قوية، منتظمة، وتعكس طموحات العامة لقوى اجتماعية، كانت محافظة أو يسارية. ونرى من الضرورة التاريخية أن يكون هناك تجانس في الأصول الاجتماعية، والانتماء الاجتماعي والطبقي، وتناغم واضح في الفكر والايديولوجيا والطموحات، بالإضافة إلى التوافق في طرق الانجاز والتجسيد. ولا ريب في أن غياب آليات وقيم التناغم والتجانس والتوافق والتطابق بين التصورات والأهداف، قد عصف بأحزابنا السياسية ودفع بها إلى التشرذم، والتقوقع، والانحسار والكلل، وضبابية في التصور، وتدن في الإنجاز. وكساد في الاستقطاب، مما جعلها عاجزة عن بناء أجهزة مؤهلة للمساهمة في أي مرحلة من مراحل الانتقال الديمقراطي المعلن. 6 ولنأت الآن إلى بيت من قصيد، ويتعلق الأمر بما يسميه المعجم الديمقراطي، بالمثل العليا. ويحددها لنا المعجم الديمقراطي أو الآداب الديمقراطية في جهاز من القيم، وأخصها المساواة، والحرية والعدالة الاجتماعية. من الطبيعي أن يتقصد فلاسفة القيم ومنظروها التنويريون وأنصار الفكر الديمقراطي عبر قرون عديدة ماضية وراهنة. المعنى الإنساني الواسع لمفاهيم القيم الحقوقية والأخلاقية التي تمثلها، وبسطها هؤلاء في فكرهم وسلوكهم وممارساتهم. إن المجتمع الديمقراطي - بدون مثل - لا يعدو أن يكون عبارة عن معمار تنظيمي ومؤسساتي - ومهما عظم - جامد، جثة- ما لم يمنحه المجتمع من روحه، أي أن ما يصبو إليه من مثل، هي ما يحرك المجتمع من خلال قواه السياسية والاجتماعية، ليكون كيانه الديمقراطي. ومن البدهي، أن مثلا كالمساواة (وما تفرخه من قيم) والحرية (وما تحمله من تحرر وحريات) والعدالة الاجتماعية (وما تشكله من ركن أساسي في منظومة المثل العليا والقيم الإنسانية ) إن لم نقل في التاريخ وفي الاجتماع والانفعالات والأهواء، والعواطف والوجدان الفردي والجمعي ،إذ أن وجودها هو ما يجمع أو يفرق، هي ما يماسك أو يعادي.ومن الجدير بالذكر أن غيابها، أو الصراع حولها، هو ما يؤسس تاريخ البشرية، فناء واستمرار واختفاء ودواما، إنها المسكن والمهيج. المثقف والديمقراطية. أحيط بالمعنى الدلالي للفظ المثقف الكثير من الالتباس والضبابية، سواء في توظيفاته اللغوية أو اللسانية وكذلك في استخدامه الاجتماعي واستعمالاته المتعددة. وقد نحا المتعلمون والصحافيون والسياسيون والإعلاميون، نحو ترسيخه كمعنى إصلاحي، ثابت وقار، وكأن الأمر حسمته المجاميع اللغوية، في المجتمعات العربية لا غير. في حين ، أن الرجوع إلى أصل، انبثاقه، أي مفهوم المثقف، في صلب الحضارة الأوروبية، وأثناء ثورات التغيير الديمقراطي واجتثاث معاقل الدكتاتوريات الفاشية والنازية والإقطاع والهيمنة الكنيسية، لم يكن يحمل، أو ينبئ، بحمل دلالات اصطلاحية إلا ما اكتسب في ميدان معركته الثورية، والتنويرية، ومجابهة ومحاسبة المناهضين للحقوق الإنسانية، المساواة، اللاتمييز العرفي والجنسي والإثني - والإخاء والحرية والعدالة الاجتماعية). هذا، وان كان الأوربيون لا يخلطون بين مفهوم المثقف، وتعابير أخرى مجاورة كالمتعلم، والكاتب، والخبير، والخطيب، والمحلل السياسي، والأديب وما إليها من فنون الكتابة والخطابة والتخطيط، فإن متعلمي العالم العربي والإسلامي قد جعلوا منها جميعا، مرادفات لغوية لا حيف فيها. حقا، لم يحدث الخلط بنية إحداثه، غير أن التجاور والتقارب التعليمي والتعلمي. عبر القرنين 19 و 20 وما تخللتهما من محطات تاريخية للتغيير والتطوير، وما حايثها من تأخر وتخلف فيما سواه، قد ساهم كل من جانبه وتنصيب الأمر، على ماهو عليه. ولنبادر إذن بإزاحة بعض مما دوناه بالمعاني المجاورة، المتعلم والقارئ، والكاتب، والأديب والشاعر، والروائي والقاص، والسينمائي والمسرحي، والرسام والصحافي، والإعلامي، والسياسي والداعية والسياسي والفقيه الديني، ورجل الكنيسة، والخبير المالي والاقتصادي والطبيب.. الخ. ولنلاحظ، بما لدينا، من روية، أن جميع ممن يحملون تلك الصفات أو يتمسكون بالاتصاف بها، أو يتفاخرون، لربما أنهم لا يعلمون أنه مفهوما واصطلاحا، لا يعني ولا يتطابق مع ما سبقه من مفاهيم نعوتية وعليه، يمكن أن يكون المثقف كاتبا، روائيا، قاصا، رساما، سياسيا، زعيما، أديبا.. الخ. في حين لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن ندعو أيا منهم بالمثقف وعند هذا الحد يكمن الإشكال الذي نناقشه، ومن مجال الديمقراطية والحقوق والعدالة. إن" »المثقف موقف"« فكري إنساني متعال، عن أن يحمل أي نعت غير النعت الإنساني في شموليته الإنسانية، فهو داعية في أي مجال ولا يحصر نفسه في الانتماء السياسي أو الديني أو العرقي أو المجالي أو الإثني أو الولائي إنه الموقف الرافض لموقف معيب ولا إنساني. ولاشك أن المطلعين والمهتمين بالإنتاج الفكري والأدبي الأوروبي يعلمونه بالتأكيد. فمواقف روجي غارودي وسارتر ودوفوار وفوكو وجوته وهلدرلين وزولا وغيرهم ،لم ينسها التاريخ ،وما آلت إليه المجتمعات من حضن للمثل والقيم والفضائل العليا شاهد على ذلك. قد يقول قائل معترضا: لا طالما سجل تاريخ النضال في المغرب المعاصر، مواقف لأفراد وجمعيات مدنية وفصائل سياسية ضدا على ممارسات تمس بالحقوق والواجبات لأفراد أو جماعات وطنية، وخاصة ما ارتبطت ...منها بحرية الرأي والتعبير عنه. مما لاشك فيه أن هذا الاعتراض وارد، إلا أنه لا يدخل في صلب موضوعنا، حتى وإن كان من المجاورين له، فالاعتراض نوع ضيق من جنس شامل حسب المناطقة. إذ أن القضايا التي يرمز إليها الاعتراض إنما تتم تحت يافطة سياسية ايديولوجية محلية متعلقة بمسألة لا تجاوز حدودا معينة إلا ما كان منها ينتسب إلى حملة تضامن انطلقت شرارتها من الخارج وأكسبها الخارج شرعية دولية. وكل المساهمين إما أنهم مناضلون سياسيون أو حقوقيون أو مناصرون أو مساندون متعاطفون وهلم جرا. والنتيجة أن ما حدث إنما يتوقف بالتوافق أو بالقمع. ب- وأما، ما نحن بصدده فينحصر في مسألة مفهوم »"المثقف"« الذي صار مصطلحا وأن اصطلاحيته هي ما أدخله في متاهات لا سبيل للحد من "مسالكها" وأصبح كل متعلم يعرف القراءة والكتابة أو يتقن الخطابة بفروعها ومراتبها ومراقيها يدعو نفسه أو يدعونه بالمثقف، وربما كان للصحافة النصيب الأوفر في هذا الالتباس. واستطيع القول بأن الأحزاب السياسية ومؤسسة المخزن لطالما ركبت صهوة تلميع وتضخيم متعلمين وصحفيين وفقهاء وكتاب مبتدئين متمرسين باقتناص الفرص للدفاع عن منحاهم السياسي أو الاديولوجي،... أو موقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وأن يصنعوا منهم رموزا لسلطانهم ،إلا أنهم ما فتئوا أن هووا أو اندحروا أو انسحبوا صامتين وجيوبهم ملأى بالأموال السائلة والمنقولة وبحفنة من النياشين (ورحم الله المسرحي الفذ أحمد الطيب لعلج عند ما كتب" »أمولا نوبة«" ج- لقد قلنا سابقا إن المثقف موقف ولا يحق لامرئ ليس له علنا موقف إنساني ...ذو رمزية معرفية وعلمية وسلطة فكرية أكسبه إياها الفعل النضالي أن يوصف بالمثقف كما ولدته الثورة الفرنسية ولونته سائر الأوطان الغربية بألوانها، فقضية دريفوس وإن وسمت بأنها فرنسية إلا أن المعركة لفائدة دريفوس، وإن تسببت في إعادة ترتيب أمور التنظيم السياسي بفرنسا، فإنها تحولت إلى قضية حقوقها عالمية تضع على المحك مسألة الإخاء والمساواة، إحدى القيم والمثل العليا المكونة لهوية الثورة الفرنسية. ولكي نجلي أكثر جلاء، إن المثقف الموقف لا يكون كما هو كذلك، إلا بماله من صفات ميزته عن باقي المتعلمين والكتاب وما يدور في فلكهم، منها على سبيل الخصوص: - نابغة في العلم والمعرفة - مفكر، فيلسوف ذو مشروع فكري اجتماعي إنساني شمولي - له من الأبحاث ما يحدد الماهية الإنسانية في اتجاهها أو سعيها لامتلاك ما يروجها على الدوام، للرقي إلى علياء القيم والمثل العليا. - التعبير عن المواقف ضمن منشورات متنوعة الأشكال والمصنفات، تصب في المشروع الفكري والسياسي و الإيديولوجي لهذا المثقف أو ذاك، وتتجاوز كل المحددات التي تحد من قوتها الإجرائية والثبوتية والتطهيرية. وفي هذا السياق، ما علينا إلا أن نستحضر مفكرين بصموا التاريخ الإنساني التنويري أمثال سارتر وكامي وفوكو وهيجل وستيورات مل، وروسو ومونتسكيو ويوك وهوبز و ميشيل بانيو و روجيه غارودي كتابة و نضالا، لترسيخ قيم المساواة و عدالة الوجود الكريم. ولنستحضر أيضا مصنفات فكرية وامتدادات للمواقف الجذرية، الوجود والعدم، الوجودية فلسفة إنسانية، المومس الفاضلة، العادلون، حالة حصار، سوء فهم، معذبو الأرض. ولنا أن نقول في هذا الصدد إن نقطة الارتكاز لدى هؤلاء وأولئك قيمة »"الحرية"«، حرية الإنسان من الاستبداد الذاتي والخارجي أي استبداد الذات للذات أو استبداد الذات للذوات والذوات للذات سواء أكانت الذات فردا أو تنظيما أو نظاما أو دولة أو حلفا، ايديولوجية... إنه الفكر الذي يؤسس الموقف والموقف الذي يعلو بإنسانية الإنسان وعليه فما تواضعنا على تسميتهم بالمثقفين ليسوا في الحقيقة إلا معيدي إنتاج ما أنتج وصياغة ما أصيغ واجترار ما هضم. خاتمة إن ما ناقشناه من أعمدة لكل ديمقراطية وما طرحناه مما لنا من إمكانات للدمقرطة المغربية منها أساسا البيئة الاجتماعية والنظام السياسي والمثل العليا ما كان لها من نجاعة إلا بحضور المثقف الموقف، المشروع، الفكر، الجسارة، فهو الروح التي في الكيانات السالفة الذكر لتعالج وتشذب وتهدم وتبني وترمم وتلحق وتبدع وتبتكر وتخترع وتؤصل وتميت وتديم فهي الأقوى والأقدر. وأخيرا، لنتساءل من جديد ما السبيل إلى دمقرطة ذواتنا وذوات مجتمعنا، كيف السبيل للعثور على البداية؟