أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. يقال إن الرئيس هواري بومدين، زار ذات يوم قرية نموذجية اشتراكية، من تلك القرى التي بنتها الدولة في حقبة السبعينات للفلاحين المستفيدين من الثورة الزراعية. وبعد أن وزع عددا من المساكن الجديدة فيها، سلم مفتاح أحد البيوت إلى فلاح مسن، ووقف يحاوره من أجل معرفة رأيه في التجربة الجديدة. حاول رئيس مجلس الثورة، في ذلك الحوار الذي جرى أمام شهود عيان، روى لنا واحد منهم وقائع الحادث، حاول أن يشاطر الفلاح فرحه، وقال له أكثر من مرة ما معناه «هذا نهار كبير تبدأ فيه أنت وعائلتك حياة جديدة». وظل بومدين يكرر كلامه، نهار كبير... نهار كبير هذا...، والفلاح صامت لا يتكلم وأخيرا نطق ليقول : «واه... نهار الحد اليوم» (إنه يوم الأحد...). استحضرت هذه الحكاية، وغيرها من الحكايات المماثلة أو المختلفة المتصلة بالسنوات الماضية من تاريخ الجزائر، وأنا أحاول أن أجد نقطة انطلاق المسيرة الطويلة المعقدة التي أوصلت الجزائر إلى نتائج الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، وأدخلتها، وربما أدخلت معها المنطقة المغاربية كلها إلى «منطقة الاضطرابات»، حسب تعبير خبراء الأرصاد الجوية. البذور الأولى للمسيرة الحالية وجدت في تلك السنوات. وحكاية ذلك الفلاح المسن، مع رئيس مجلس الثورة الجزائرية، تعطينا رغم اختصارها الشديد، بل ربما بسبب هذا الاختصار، لحظة مكثفة من لحظات تلك المواجهة متعددة الأوجه الناشبة، منذ عشرين سنة، بين المجتمع المدني والدولة. كان بومدين، وهو منحدر من أسرة فلاحية فقيرة بمدينة قالمة في الشرق الجزائري، يعلق آمالا عريضة على تلك الثورة الزراعية التي وزعت الدولة بمقتضاها، مئات آلاف الهكتارات على الفلاحين الفقراء، وكان حين يزور قرية زراعية جديدة، يبدو سعيدا للغاية. إلا أن ذلك الجواب القصير الذي واجهه به ذلك الفلاح، ينم عن وجود هوة سحيقة بين تصوره لمشروعه الثوري وبين وعي طبقة الفلاحين الفقراء التي ينتمي إليها، والتي أراد أن يخدمها ويحررها بواسطة الثورة الزراعية. إن «النهار العظيم»، كما تخيله بومدين، مجرد يوم أحد، عند ذلك الفلاح. والصراع الذي وصل إلى أحد محطاته الدرامية يوم 12 يونيو 1990، بحصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أغلبية المجالس البلدية والولائية، وبتراجع جبهة التحرير الوطني تراجعا يهددها بالزوال الأبدي، بدأت تباشيره ومؤشراته، مع حملة التعريب والثورة الزراعية خلال سنوات 1970-1976. في تلك الفترة، دشن هواري بومدين، ما سيعرف لاحقا ضمن حوليات السياسة الجزائرية بالثورات الثلاث : الثورة الزراعية والثورة الثقافية والثورة الصناعية. واقترنت بدايات هذه الثورات، بموجة ما سمي : «الصحوة الدينية». قبل ذلك، تميزت العلاقة بين السلطة المنبثقة عن انقلاب 19 يونيو 1965، وبين القوى السياسية التقدمية بالقطيعة. ولأنه لم يكن هناك أي وجود لتنظيم سياسي رسمي، يستطيع أن يعبئ الشعب للتعبير عن آراء مخالفة لسياسة الدولة، فقد انحصرت المواجهة داخل جدران الجامعة، ووصلت إلى ذروتها بإقدام الحكومة على اتخاذ قرار بحل منظمة الاتحاد الوطني للطلاب الجزائريين (يوم 16 يناير 1971). ولابد من أن نسجل هنا، أن الطلاب المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم في الجامعات الجزائرية، وكانوا منظمين في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومؤطرين في غالبيتهم داخل حزب القوات الشعبية، خاضوا مع رفاقهم الجزائريين نفس المعارك وتعرضوا لنفس المضايقات، بما فيها من اعتقالات وعمليات تعذيب ومداهمات ومطاردات. حل نظام بومدين اتحاد الطلاب الجزائريين، ولكنه وجد نفسه مرغما على تحقيق نوع من الهدنة مع اليسار الطلابي والسياسي. وأصدر بومدين قرارا بالتعريب، وقرارا بتأميم شركات النفط، ثم قرارا بتجنيد الطلاب في فرق للتطوع من أجل الثورة الزراعية. ولأن غالبية الطلاب الجامعيين في تلك المرحلة، كانوا من خريجي المدارس الفرنسية من أبناء الطبقات الوسطى الفرانكفونية، الحضرية، ولكون مرحلة السبعينات اتسمت بصعود التيارات الماركسية والماركسوية والمتمركسة، بجميع منوعاتها الماوية والتروتسكاوية. فقد ظهرت الثورة الزراعية، كما لو كانت اختيارا سياسيا من وحي الشيوعية الملحدة. ومقابل حملات التوضيح والشرح والتعبئة والتوعية التي كانت تقودها فرق المتطوعين والمتطوعات في أوساط الفلاحين، من أجل تحسيسهم بمشاكل الأرض، تشكل تحالف بين رجال الدين وكبار الملاكين العقاريين لعب فيه الأولون، أي رجال الدين دور المدافعين الإيديولوجيين عن الملكية الخاصة، وقام فيه الملاكون بتمويل بناء مئات المساجد، وكذلك تمويل عشرات الهيئات والروابط الدينية ذات الطابع الإحساني أو الخيري. وبينما كان الطلاب والطالبات الواقعون تحت تأثير حزب الطليعة الاشتراكي (الحزب الشيوعي الجزائري سابقا)، وكذلك تحت نفوذ الجناح اليساري من جبهة التحرير الوطني، يحاولون أن يشرحوا لصغار الفلاحين أن الدولة تدافع عنهم، كانت العناصر المتأثرة بالفكر السلفي والإخواني، تتجنب الخوض في المشاكل الواقعية، وتقول إنها تدافع عن دين الله وسنة رسوله، وهما يحرمان تحريما قاطعا «أخذ أموال الناس بالباطل». وقد أتيحت لنا في تلك المرحلة مشاهدة معارك ملحمية في الأحياء الجامعية بالعاصمة وقسنطينةووهران، انتهت بطرد «الخوانجية»، كما يسمونهم في المصطلح الجزائري الشائع. وتتوفر اليوم جملة من الوقائع المكتوبة والمروية، تؤكد أن هذه السياسة الراديكالية، لم تكن تحظى إطلاقا بإجماع أعضاء مجلس الثورة، وإنما كانت سياسة شخصية للرئيس هواري بومدين. وفي هذا الصدد يروي السيد عبد السلام بلعيد، أحد أعضاء مجلس الثورة قال له : «لقد خدعنا هواري بومدين. ونحن لم نقم بحركة 19 يونيو 1965 لنستمر على نهج بن بلة. كان بومدين يقول بأنه ضد الاشتراكية كما طبقها أحمد بن بلة، وكان يزعم أنه ضد التسيير الذاتي وضد الفوضى وضد عدم التنظيم، ولكنه بعد 19 يونيو، حافظ على التسيير الذاتي في المجال الزراعي وانطلق تدريجيا في سياسة التأميمات . وقد فعل بومدين ذلك كله فقط بدافع الديماغوجية ومن أجل كسب تأييد السكان، وفي النهاية انتهج خطا سياسيا مناقضا تماما لذلك الذي كنا نظن أنه متفق معنا بشأنه» (المصدر : كتاب المصادفة والتاريخ لعبد السلام بلعيد صفحة 219...). أصدر بومدين قرار التعريب العام في بداية حقبة السبعينات، لكنه «جمده» مباشرة، ليتفرغ للثورة الزراعية والثورة الصناعية. ورغم أن عملية التجنيد التي تمت في أوساط الطلاب «المفرنسين» بدت كما لو كانت عقابا لهم، وإبعادا عن الحقل السياسي الجامعي، فقد تقبلتها التيارات اليسارية والمتياسرة، لكونها ظهرت لهم كفرصة ذهبية لتحقيق الاتصال مع الجماهير الشعبية وسوف ينتهي ذلك التجنيد في منتصف السبعينات ويقترن انتهاؤه ببداية النقاش حول «الميثاق الوطني» (سنة 1976). في تلك السنة، حصل نوع مكتوم من «فك الارتباط» بين بومدين وحلفائه اليساريين، حصل ذلك لأسباب عديدة من جملتها نشوب النزاع مع المغرب حول الصحراء المغربية. وسمح النظام للجناح السلفي، الذي كان يمثله آنذاك كل من الشيخ عبد الرحمان شيبان وزير الاوقاف ومولود قاسم وزير التعليم الأصلي، بتشجيع التيارات الدينية في صراعها مع الجماعة اليسارية. شهدت مرحلة القطيعة الفعلية بين اليسار الماركسي وهواري بومدين تحولا آخر موازيا، كانت ترمز إليه شخصيتان عسكريتان داخل مجلس الثورة، سوف يكون لهما دور حاسم في تصفية التركة الاجتماعية للثورة وفي صعود التيار الديني إلى مرتبة الهيمنة السياسية والإيديولوجية التي أصبح يحتلها اليوم. أما الشخصية الأولى، فهي العقيد محمد أحمد عبد الغني الذي تولى قيادة الناحية العسكرية في قسنطينة، من خريف 1967 حتى بداية عام 1976. وأما الشخصية الثانية، فهي العقيد الشاذلي بن جديد الذي ظل قائدا عاما للناحية العسكرية بوهران من منتصف الستينات حتى وفاة هواري بومدين. كانت هاتان الشخصيتان ترمزان إلى المعارضة العسكرية ضد بومدين، وكانت لكل واحدة منهما في تلك المنطقتين المهمتين جدا، علاقات طيبة مع كل من التيارات الدينية السياسية، وقد تجسد التحالف بين كل من العقيد محمد أحمد عبد الغني والعقيد الشاذلي بن جديد من جهة، والجماعات السياسية الدينية من جهة أخرى في مشروعين ثقافيين روحيين، سوف يصبحان بعد انتهائهما، قاعدتين راسختين من قواعد العمل والإشعاع السياسي لرجال الدين. المشروع الأول هو مسجد الإمام عبد القادر بقسنطينة. والمشروع الثاني هو مسجد الإمام ابن باديس في وهران. وإذا كان أعيان مدينة قسنطينة، مدينة جمعية العلماء، ومدينة الشيخ عبد الحميد بن باديس هم أصحاب فكرة تشييد المسجد الذي أصبح يحمل في عاصمة الشرق الجزائري اسم الأمير عبد القادر، إذا كانوا كذلك، فإن العقيد عبد الغني، ذلك الضابط القادم من الغرب الجزائري، كان هو الباني الفعلي لتلك المؤسسة الدينية الثقافية. وكان عبد الغني قد خلق حول نفسه هالة كبرى وسمعة تصفه بأنه من أمهر المنظمين العسكريين. وقد أسند إليه هواري بومدين، مسؤولية تلك الناحية العسكرية ومنحه سلطات واسعة للإشراف عليها، غداة قيام العقيد الطاهر الزبيري، رئيس هيئة الأركان بمحاولته الإنقلابية في خريف 1967. وسرعان ما أصبح العقيد عبد الغني، في نظر سكان قسنطينة والدوائر التابعة لها مثل مدن عنابة وسكيكدة والقالة على الشاطئ، ثم مدن سطيف وقالمة ووادي الزناتي والمليلة وعين ملية في الداخل، سرعان ما صار في نظرهم صنوا للرئيس هواري بومدين، إلى درجة أن هذا الأخير أطلق عليه صفة «باي قسنطينة». و«الباي» مثل «الداي» كلمة تركية، كانتا تطلقان في عهد السلطة العثمانية على الأميرين التركيين اللذين يحكمان كلا من مدينة الجزائروقسنطينة. كان العقيد محمد أحمد عبد الغني قويا، إلى حد أنه عندما اتخذ هواري بومدين قرارا بتعيين الرائد حسن العربي في منصب معاون رئيس هيئة الأركان المحلية للناحية العسكرية بقسنطينة، استقبله عبد الغني وقال له بالحرف : «انتظر حتى يأتي سي بومدين لتنصيبك». وانتظر الرائد حسن العربي -(وهو للمناسبة عميد اليوم، خرج من الجيش والتحق بوزارة الخارجية ويشغل حاليا منصب سفير الجزائر ببغداد)- انتظر شهورا بمدينة قسنطينة ثم عاد إلى الجزائر من دون أن يتمكن من ممارسة المهمة التي انتدبته لها وزارة الدفاع. وبقي عبد الغني يحكم إمارته القسنطينية إلى منتصف السبعينات، حين تمكن بومدين من إقناعه بالتخلي عن قيادتها العسكرية للالتحاق بالعاصمة واحتلال منصب الوزير الأول بها، في منتصف السبعينات. وفكرة بناء مسجد الأمير عبد القادر، الذي سيصبح بعد الانتهاء من تشييده، فضاء جامعيا، فكريا، سياسيا وإيديولوجيا، تدور فوق ساحته صراعات ساخنة بين مختلف التيارات الإسلامية نفسها، هذه الفكرة تعود إلى سنة 1968، أي إلى ذروة موجة الاتجاه اليساري بالجامعة. قصة بناء المسجد، والشخصيات التي ساهمت فيه، ومختلف الأطوار التي مر منها المشروع، ومجالات استخدامه من طرف الدولة، وقائع تستحق أن تروى ولو في اختصار شديد، لكونها ترمز إلى ذلك التداخل العميق بين صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ وكسوف جبهة التحرير الوطني. ولد المشروع بمبادرة من عدد من وجهاء مدينة قسنطينة على رأسهم السيد مولود المهري، خال السيد عبد الحميد المهري الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، ومن بينهم نور الدين برارحي، والد السيد عبد الحق برارحي الذي كان وزيرا للتعليم العالي، أثناء خريف الغضب الدامي، وأحرق المتظاهرون سيارته، من بينهم كذلك الشيخ مرزوق بن الشيخ بلحسين، شقيق الشيخ عباس بلحسين، إمام مسجد باريس في الفترة ما بين 1980-1989. لنتوقف قليلا عند هذه القائمة من الأسماء، وسوف نجد أنها تنتمي كلها إلى جمعية العلماء الجزائريين، ولكنها تتألف أيضا من أثرياء التجار والملاكين العقاريين، وكانت تجد امتداداتها السياسية داخل النظام الجزائري نفسه، عبر شخصيات نافذة مثل الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، ابن الشيخ البشير الابراهيمي. وقد تقلب الدكتور أحمد طالب الابراهيمي في عدة مناصب وزارية هامة، في عهد الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد، فشغل على التوالي مناصب وزير التعليم ثم وزير الإعلام في الفترة البومدينية، ووزارة الخارجية في زمن الشاذلي بن جديد.