تخليدا لعطاء وروح الفنان الكبير الطيب الصديقي، صدر للإعلامي والكاتب والجامعي حسن حبيبي، عن دار النشر «إديسوفت»، كتابان باللغتين العربية والفرنسية (بعنوان): « الطيب الصديقي، المشهد الآخر» و.. « A Dieu l'artiste » وقد ساهم في الكتابين مجموعة من الباحثين والنقاد وأصدقاء الفقيد، عبر دراسات وشهادات وتحاليل قيمة. الكتاب إذن عبارة عن كتابين الأول بالعربية بعنوان : « الطيب الصديقي، المشهد الآخر»، وبخبرة وذكاء لم يعنونه المؤلف بالمشهد الأخير، لأنه كان يعرف عن تجربة بأنه لن يكون المشهد الأخير. وغلافه مزين بلوحة للفنان عبد اللطيف الزين. أما الكتاب الثاني بالفرنسية فقد صدر بغلاف عبارة عن لوحة لصورة من مشهد مسرحي معروف للطيب الصديقي، وهو يحمل عنوانا أكثر شاعرية وحميمية : Dieu l'artiste » A، وهي قد تفيد وداعا أيها الفنان ولكن الطريقة التي كتبت بها تعني «إلى الله أيها الفنان». للمعنيين مفهوم ودلالة خاصة، لست أدري أيهما أقرب إلى الصواب. كان المؤلف، عن دراية وتجربة، يعرف أن في المغرب قراء بالعربية وليسوا بالضرورة قراء للفرنسية، لهذا لم يدمج الكتابين في كتاب واحد، بل جعل كل كتاب منفصلا عن الآخر ليبقى للقارئ الاختيار. علما أن الأمر لا يتعلق بترجمة من كتاب لآخر، بل كل كتاب منفصلا عن الآخر إلا فيما ما يتعلق بوحدة الموضوع أي تكريم الطيب الصديقي، ونبذة عن حياته وابداعاته. والكتابان عبارة عن مجموعة من الشهادات لمبدعين وجامعيين وكتاب وفنانين وأصدقاء ووزراء عرفوا الطيب الصديقي أو عاشروه أو اشتغلوا إلى جانبه أو تابعوا أعماله أو سمعوا به فقط فأردوا التعبير عن حزنهم وتكبيرهم للرجل والمبدع في أوراق ضمها الكتابان. فهو استحضار مفصل ودقيق لإبداعات ولشخصية الطيب الصديقي. وقوة هذه الاستحضارات تأتي من كونها نابعة من شخصيات مختلفة جدا ومن جهات واسعة إضافة إلى المغرب من فرنسا والجزائر وتونس ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق والسودان ومصر. هكذا تحدث عنه أصدقائه الأقربون والذين سمعوا عنه فقط، كتب عنه أبناء جيله والذين عايشوه منذ الخمسينيات، كما كتبت عنه الأجيال التي أتت فيما بعد. وفي كل الكتابات سواء بالعربية أو الفرنسية نعثر على كل أنماط الكتابة، من كتابة حميمية إلى كتابة تاريخية إلى كتابة تذكارية نوستالجية إلى كتابة تسطر المسار إلى كتابة بالشعر، ولعل حسن حبيبي قد أصاب الهدف حين جعل الطيب الصديقي نفسه يكتب عن نفسه وعن نهايته (نهاية العرض)، من خلال نص شعري أخذه من بعض كتابات الطيب الصديقي. حين تصفحنا لأسماء المساهمة، لا يمكن ذكرها كلها لكثرتها ولكي نترك للقارئ متعة الاكتشاف، تبدو جليا قيمة وأبعاد الطيب الصديقي وأعماله الخالدة التي زارت كل البقاع وخلدت صورة المغرب الفني والإبداعي في العديد من أقطار العالم. كما أن الشهادات حرصت في مجملها على أن لا تكون نقدا مسرحيا، فللعمل النقدي وقته وللتكريم ساعته. وكأنهم يقولون لنا ها هي الأشياء التي لم ننتبه لها في حياة الطيب الصديقي (علما أن الفنانين لا يموتون بفضل عطاءتهم التي تظل خالدة). مات الطيب الصديقي شبه فقير لأنه لم يكن يهمه جمع المال أو الاغتناء، كما فعل آخرون، كان همه الأول اقتناء الكتب والأفكار الجديدة والصور المسرحية المثيرة وقراءة الواقع بكثير من التحيز، التحيز للواقع ولكن أساسا التحيز لإعادة تركيب الواقع بسخرية لاذعة جعلت مسرحه مسرحا حقيقيا وليس مجرد محاكاة للواقع كما هو. حين نتحدث عن مسرح الطيب الصديقي، ويتجلى ذلك كثيرا في الكتابين وبكثير من الشروحات، نتخيل أن الطيب الصديقي كان يمارس المسرح في المغرب لوحده، أي لم تكن هناك تجارب مسرحية أخرى. والواقع أنه اشتغل وأبدع وسط زخم من التجارب المسرحية، أو التي يمكن أن نسميها كذلك، كان يشتغل في واده. وحدهم بعض الهواة تأثروا بتجاربه ومنهم من حاول استنساخها بقليل من النجاح لأن الأصل يظل هو الأصل. في الكتابين معا، رغم اختلاف مشارف المساهمين هناك شبه إجماع على الثقافة الواسعة للرجل مع تعدد ثقافاته ومنابع وحيه ولغاته. فهو يقرأ ويكتب ويشتغل بالعامية المغربية (ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب) وبالفصحى (مقامات بديع الزمان الهمداني وأبي حيان التوحيدي وألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ) و بالفرنسية (خلقنا لنتفاهم)، لأن المسرح في نهاية الأمر ليس لغة كلغة الحياة بل هو لغة مسرحية فنية أي un langage. في مختلف بقاع العالم هناك أشكال متعددة متعارف عليها لتخليد حدث وطني كهذا، فقدان رمز من رموز الثقافة الوطنية. هناك أعياد أو مهرجانات أو حفلات أو منصات خطابية أو تشييد التماثيل أو إقامة المسيرات الشعبية، في المغرب لنا طقوس اخرى للاحتفاء وهي تكاد تكون خاصة بالمغرب. وهاذان الكتابان للمبدع حسن حبيبي يدخلان في هذا الطقس الخاص بالمغرب، فتحية له على هذا العمل الجبار وتحية لكل الذين ساهموا وحتى للذين لم يساهموا في هذه الصيغة بحكم ضيق الوقت وسيساهمون بدون شك في صيغ اخرى قادمة. المبدع لا يموت مادامت ابداعاته بيننا تذكرنا بلمساته، بعشقه لفنه، بتفانيه من أجل أن يكون للمغرب مسرح في مستوى طموحه وطموح كل الأجيال القادمة. إذا أضفنا أن الكتاب في شقيه يختتم بالسيرة الكاملة للطيب الصديقي وأعماله وجولاته داخل وخارج المغرب، نقر فعلا بأنه كتاب مرجعي لا يمكن لمن يريد معرفة من هو الطيب الصديقي حقيقة أن يستغني عن قراءته. بقيت هناك ملاحظة أساسية لا أريد أن تفوتني هذه الفرصة دون الإشارة إليها. حين نقوم بهذا النوع من العمل يصعب فعلا أن نخلط بين مساهمين من مستويات مختلفة، كما يصعب رفض أي مساهمة، فما العمل؟ شخصيا، مع تقديري لروح الطيب الصديقي، لم أذكر يوما ولا أتوفر على نص يدعو فيه الطيب الصديقي إلى اصدار قانون لحماية الفنان. كثير من الناس ينسون أن المغرب استقل سنة 1956. وانتظرنا منذ ذلك التاريخ حتى جاء الشاعر محمد الأشعري (سنة 1998)، وزيرا للثقافة، ليصدر أول نص قانوني عن الفنان في اجتماع مجلس الحكومة برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي يوم 9 ماي 2002. ومع ذلك لم يصدر النص رسميا كظهير شريف إلا يوم 19 يونيو 2003، إبان حكومة إدريس جطو. كان ينبغي قدوم الأستاذة ثريا جبران كوزيرة للثقافة لتصدر بتوقيعها بطاقة الفنان التي وزع الدفعة الشرفية منها بيديه الكريمتين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة عيد العرش المجيد يوم 30 يوليوز 2008، على كبار فنانينا ومبدعينا من مختلف مجالات الإبداع ومن مختلف ربوع المملكة، مع احترام صارم لمبدأ المناصفة. تعوّد الطيب الصديقي في بعض السنوات أن يكون له رواق خاص به في معرض الكتاب بالدارالبيضاء، وأعتقد بأن بهذين الكتابين اللذين أمتعنا بهما حسن حبيبي سيكون للطيب الصديقي هذه السنة رواق خاص متميز بالمعرض المقبل للكتاب والنشر.