أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. خلال مسيرته الوزارية الطويلة، ظل بوعلام بسايح يقوم بنقل الرسائل، وأداء المهمات الدقيقة. وهكذا رأيناه يحمل رسائل من الرئيس الشاذلي بن جديد إلى رؤساء دول العالم العربي ودول أمريكا اللاتينية، ورأيناه يسافر مع السيد صادق زواتن، عضو اللجنة المركزية رئيس رابطة الصداقة مع الشعوب ومسؤول حركات التحرير. في رحلات سياسية إلى الشرق الأوسط، وخاصة إلى مدينة بيروت لإيجاد تسوية لحرب المخيمات التي كانت قائمة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة أمل. ثم رأيناه، قبل فترة قصيرة يقوم بجولة في البلدان الخليجية قصد الحصول منها على اعتمادات مالية لأداء جزء من المديونية الجزائرية. وإجمالا، فإن السيد بوعلام بسايح، واحد من الوجوه البارزة في ذلك النظام السياسي الذي أقامه الجيش الجزائري في البلاد، ويؤشر صعوده إلى رئاسة الدبلوماسية الجزائرية، لقوة جهاز الإستخبارات واتساع نفوذه في الدولة، وسوف تكون سياسته الخارجية، خاصة في شقها الإقليمي، المغاربي والعربي، ترجمة أمنية لمواقف واجتهادات التيار الأكثر نفوذا في المؤسسة العسكرية الحاكمة. وفي تعبير أدق، لن يكون وزير الشاذلي بن جديد، منفذا لسياسة شخصية، بقدر ما سيكون مهندسا لاختيارات يتم التوصل إليها بين ممثلي مراكز النفوذ. هناك وزراء آخرون كانوا يوصفون بأنهم مهمون. لم يبق منهم أي واحد في التشكيلة الجديدة. وتلك مثلا هي حال المهندس الزراعي محمد الرويغي، الذي كان قد حل في تعديل وزاري سابق، محل السيد قاصدي مرباح بوزارة الصناعة، كما هي حال الرائد بشير رويس وزير الإعلام المقرب من الرئيس. ولم يكن مجيء السيد قاصدي مرباح إلى رئاسة الحكومة مناسبة لظهور اسمي الوجهين النسائيين في الحكومة، أي السيدة زهور ونيسي وزيرة التربية الوطنية التي أحرق المتظاهرون واجهة بيتها في حي القبة والسيدة ليلى الطيب، معاونة الوزير المكلفة بالتخطيط اللتين أبعدتا من منصبيهما في ذلك التعديل الوزاري التقني الذي حصل قبل سنة وألغيت بموجبه وزارة التخطيط. ومقابل هذا الغياب النسوي، دخل الوزارة الجديدة عدد من الوجوه الفتية ووصف أصحابها بأنهم من التقنيين الشباب، هكذا تم اختيار الأستاذ الجراح مسعود زيتوني وزيرا للصحة، وتم اختيار المهندس نور الدين قدرة الأمين العام لوزارة الزراعة، ووزيرا للزراعة. ورقي صادق بوسنة مدير شركة سوناطراك إلى منصب وزير الطاقة والصناعة البتروكيماوية، واختير الشريف رحماني الأمين العام لوزارة الداخلية وزيرا للشباب والرياضة، وأسندت وزارة التربية الوطنية والتأهيل المهني إلى الباحث الجامعي سليمان الشيخ، ابن الشاعر الوطني المعروف مفدي زكريا، صاحب الأناشيد الحماسية التي كانت الشبيبة الجزائرية والعربية ترددها في عقدي الخمسينات والستينات، (من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا... أو قسما بالنازلات الماحقات، والبنود اللامعات الخافقات، والجبال الراسيات الشاهقات، نحن كلنا حياة أو ممات، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر... فاشهدوا... فاشهدوا...) وسليمان الشيخ، ابن الشاعر مفدي زكريا، الذي أسندت إليه حقيبة التربية الوطنية، أصدر قبل بضعة أسابيع في باريس، مع كل من الدكتور المهدي المنجرة، الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط وبكار التوزاني، الأستاذ بجامعة تونس، كتابا عن المغرب العربي والفرانكفونية، يناقشون فيه المسألة الثقافية واللغوية في الشمال الإفريقي. وقطاع التربية الوطنية، من المجالات التي تحظى بالأولوية لدى الدولة الجزائرية، ووجود مثقف من طراز سليمان الشيخ، مؤمن بوحدة المغرب العربي، على رأسه، واحد من دلائل كثيرة على التوجه الثقافي الذي تبحث عنه بلاد المغرب الأوسط. وهناك جامعي آخر، هو الأستاذ عبد الحميد أبركان، عميد جامعة عنابة، أسندت إليه وزارة التعليم العالي، في وقت تشهد فيه الجامعات الجزائرية غليانا سياسيا كبيرا وتنطلق منها مبادرات وأفكار تستشف منها منذ الآن، بعض ملامح الحياة السياسية الآتية. ميدان آخر، مجاور للتعليم هو الإعلام والثقافة عين على رأسه وزير جديد، هو السيد محمد علي عمار رئيس ودادية الجزائريين في أوروبا... ويأتي هذا التعيين في سياق تقليد قديم يقتضي أن يتولى رؤساء الودادية، وهي الجهاز الرسمي المشرف على الهجرة الجزائرية، مناصب وزارية أو دبلوماسية، بعد انتهاء عملهم في باريس. ولو عدنا إلى لائحة الأسماء التي تولت قيادة الودادية لوجدنا أن أصحابها تقلدوا مباشرة، بعد خروجهم من العاصمة الفرنسية، حيث يوجد المقر المركزي للودادية، وظائف رسمية هامة. وهكذا نجد أن السيد محمود قنز انتقل منها ليصبح وزيرا لقدماء المجاهدين، ونجد السيد عبد الكريم غريب يتركها ليتولى سفارة الجزائر في طهرانوبيروت، حيث قام بدور محوري في صفقات الرهائن الأمريكيين والفرنسيين، قبل أن يعين في الرياض سفيرا لبلاده لدى المملكة العربية السعودية. وقد تردد أن السيد عبد الكريم غريب، كان قد استدعي من الرياض إلى الجزائر لتولي منصب وزاري في الحكومة الجديدة، لكن اسمه لم يظهر في النهاية بين الوزراء. أما آخر رئيس للودادية قبل السيد علي عمار، فهو السيد عبد الكريم السويسي الذي تولى في وقت من الأوقات منصب وزير الشباب والرياضة. ثم إن السيد علي عمار اشتهر في الأحداث الأخيرة، بذلك التصريح الذي أدلى به لإذاعة فرنسية ووصف فيه خريف الغضب الجزائري بأنه «شغب أطفال» لا قيمة له ولا مستقبل أمامه ولن تكون له أية نتائج سياسية. وقد أثار هذا التصريح موجة من الانتقادات العارمة، وسيلا من التعليقات الساخرة في فرنساوالجزائر. وأثناء الجدل الإعلامي الذي فجره خريف الغضب الجزائري، نظمت القناة الخامسة الفرنسية حوارا بين الرئيس الجزائري السابق، أحمد بن بلة وبين السيد علي عمار، ذكر فيه رئيس ودادية الجزائريين بأوروبا أنه دخل السجن في عهد أحمد بن بلة، وأقفل هذا الأخير الخط الهاتفي الذي كان يحاوره عبره، من إقامته السويسرية، معلنا أنه لا يريد الاستمرار في الكلام، مع هذا النوع من «الأوباش». ورئيس ودادية الجزائريين الذي أصبح وزيرا للثقافة والإعلام في الحكومة الجديدة، ألقي عليه القبض بالفعل عام 1963 بوصفه عضوا في قيادة جبهة القوى الإشتراكية التي أنشأها السيد حسين آيت أحمد، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية. وكان السيد علي عمار، يمثل في ذلك التنظيم «حزب الثورة الإشتراكية» الذي وضع أسس تنظيمه قائد تاريخي آخر، هو السيد محمد بوضياف. وعندما بادر العقيد هواري بومدين بإسقاط نظام أحمد بن بلة، كان السيد علي عمار، وهو للمناسبة من منطقة القبائل، واحدا من الشخصيات التي أطلق سراحها وجرى الاعتماد عليها لإعادة تنظيم الجبهة. هكذا نجده يعمل منذ سنة 1966 في الأمانة التنفيذية تحت إشراف السيد الشريف بلقاسم، ويبقى في نفس الجهاز مع قائد أحمد، ثم مع محمد الشريف مساعدية الذي اختاره لرئاسة ودادية الجزائريين في أوروبا في بداية حقبة الثمانينات الحالية، أي في مرحلة كان فيها الصراع على أشده بين الحكم والتيارات المناوئة له في الساحة الفرنسية. ويأتي السيد علي عمار إلى وزارة الثقافة والإعلام في وقت يحتاج فيه هذا القطاع الاستراتيجي إلى قبضة حديدية لمواجهة مهمتين ملحتين في الداخل والخارج. داخليا هناك ثورة حقيقية في الوسط الصحفي الجزائري، كان الوزير السابق، بشير رويس لا يتردد في إعلان تعاطفه معها، وخارجيا هناك «صورة مشوهة» لابد من الإسراع بتصحيحها. وسوف يحتاج علي عمار إلى كل خبرته لإيقاف هذا التدهور الداخلي والخارجي، والذين يعرفونه، يقولون أنه إنسان ليبرالي، ومتفتح على عكس الصورة التي تركتها تصريحاته الأخيرة. الوجوه الوزارية الثلاثة الأخرى التي ظهرت في حكومة السيد قاصدي مرباح هي بوبكر بلقايد وزير الداخلية وصادق بوسنة وزير الطاقة والصناعة البتروكيماوية والسيد أحمد غزالي وزير المالية. وزير الداخلية الجديد، كان في أيام الثورة، عاملا بسيطا بمصانع رونو للسيارات، بمدينة بيانكور في الضاحية الغربية لباريس، وكان مسؤولا في فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني، وقد ألقي عليه القبض وسجن وتمكن من الفرار والتحق بتنظيمات الجبهة بالخارج. ومع الإنقسامات السياسية التي شهدتها الجزائر، غداة الإستقلال، انحاز هذا المناضل النقابي إلى المعارضة، وكان واحدا من مؤسسي حزب الثورة الإشتراكية بجانب السيد محمد بوضياف، وأحد زعماء جبهة القوة الإشتراكية، المناهضة للرئيس أحمد بن بلة، جنبا إلى جنب مع السيد حسين آيت أحمد. وأبو بكر بلقايد، من مدينة تلمسان، وقد أكمل دراساته العليا بطريقة عصامية، وصار خبيرا في الشؤون الإجتماعية ثم مدير المعهد الوطني لتأهيل البالغين، وتقلب في عدة مناصب إدارية قبل أن يعين وكيلا لوزارة الإعمار والإسكان (1984)، وقد تولى أبو بكر بلقايد وزارة العمل والتأهيل المهني ثم وزارة التعليم العالي (نوفمبر 1987) خلفا للسيد عبد الحق برارحي الذي عين في وزارة الشباب والرياضة، وفي الإجتماع الأخير للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني (يونيو 1988)، وجه عدد من الأعضاء، في أوج الخصومة المدرسية الساخنة بين أنصار التعريب الشامل ومعارضيه، انتقادات عنيفة إلى السيد أبو بكر بلقايد، واتهموه بأنه يفضل تعليم أبنائه في مدارس البعثات الفرنسية بالجزائر. ولا شيء يجمع، مبدئيا، بين وزير الداخلية ووزير الطاقة، صادق بوسنة، الأول من الرعيل الأول المؤسس، والثاني من الجيل الصاعد. الأول من تلمسان في أقصى الغرب والثاني من عنابة في أقصى الشمال. أبو بكر بلقايد عصامي، وصادق بوسنة جامعي لامع. وكان صادق بوسنة عضوا في قيادة الإتحاد الوطني لطلبة الجزائر في بداية السبعينات، وقد اعتقل مع رفاقه وسجن وتعرض للتعذيب على يد رجال الأمن العسكري الذي كان يديره السيد قاصدي مرباح. ويقال أن هذا الأخير تدخل شخصيا لتخفيف شروط الإعتقال. بل يقال أنه قابله وتناقش معه وأقنعه بالتخلي عن الأفكار اليسارية المعارضة. وما زلنا نذكر كيف أن أوساط الحركة الطلابية، التي كانت خاضعة آنذاك لنفوذ اليسار القريب من حزب الطليعة الإشتراكي، بدأت تطلق على صادق بوسنة وجماعته عبارة «متورني» وهي تصحيف عربي لكلمة فرنسية تعني تغيير الإتجاه السياسي. وقد يشتط البعض فيقولون عن أصحابها أنهم «انحرفوا» و«بدلوا الفيستة» أو غيروا البذلة. المهم أن صادق بوسنة، ذلك القائد الطلابي، الذي عذب، وأجلس على المسطرة والقنينة، يجلس اليوم في كرسي وزارة استراتيجية ضمن حكومة يقودها المدير السابق للأمن العسكري. قاصدي مرباح، الذي أشرف رجاله على عمليات اعتقال الطلاب، في تلك السنوات العاصفة (1968-1971) من تاريخ العلاقات المضطربة بين المجتمع المدني ودولة الجيش الجزائري إنه تساكن يرمز إلى نهاية عصر بكامله، وبداية مرحلة يجلس فيها الجلاد والضحية، معا، على مائدة السلطة. وقد لفت صادق بوسنة، الذي يقول رفاقه أنه «بقي مليح»، لفت الأنظار عندما أدلى بتصريحات صحفية قال فيها أن بلاده لا تريد ثمنا سياسيا للغاز، وإنما تريد معاملة تجارية اعتيادية، وإذا أرادت فرنسا أن تساعدها فعليها أن تشتري كميات إضافية. وجه آخر، من جيل مختلف يعود إلى المسؤولية، هو السيد أحمد غزالي، الابن الروحي للسيد عبد السلام بلعيد، عراب الإقتصاد الجزائري الحديث في عهد الرئيس هواري بومدين. والسيد أحمد غزالي، مهندس مجاز من مدرسة الجسور والطرقات، وهو من مدينة مغنية، موطن الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة، الواقعة على مسافة ثمانية عشر كيلومترا من مدينة وجدة المغربية. وقد بدأ هذا الرجل ممارسة مسؤولياته الإدارية في القمة، حين تولى (عام 1967) رئاسة شركة سوناطراك، ثم انتقل منها بعد عشر سنوات (1977) إلى وزارة الطاقة والصناعة البتروكيماوية، بعد أن ساهم في عملية التأميم واستعادة السيطرة على الثروات النفطية والغازية من الشركات الفرنسية. وقد أبعد أحمد غزالي من وزارة الطاقة والصناعة البتروكيماوية في شهر مارس 1979، أي بعد بضعة أسابيع من انتخاب الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي أسند إليه وزارة الري والثروة المائية. وفي الرابع عشر من أكتوبر من نفس العام صدر بيان مفاجئ بإقالة أحمد غزالي من منصبه. الحجة التي قدمت آنذاك لتبرير هذه المبادرة هي أن وزير الري أخل بمبادئ التضامن الحكومي إذ طلب من المكتب السياسي والحكومة فتح نقاش حول السياسة النفطية ووجه نقدا عنيفا لخلفه في الوزارة نابي بلقاسم. ثم أرسل نصا طويلا إلى أعضاء اللجنة المركزية البالغ عددهم مئتي شخص، يشرح فيه موقفه. وقد اعتبر الشاذلي بن جديد هذا التصرف غير مقبول وغير لائق لأنه تم من وراء ظهره. وهو رئيس الحكومة والأمين العام للحزب. أما الحقيقة، فهي أكثر بساطة. لقد كان الرئيس الشاذلي بن جديد، والفريق العسكري والسياسي القريب منه، منهمكا في تلك اللحظة بالضبط، في عملية تطهير جهاز الدولة والجيش والحزب، من عناصر العهد البومديني. وقد أبعد أحمد غزالي من وزارة الري مثل ما سبق له أن أقصى البارونين البومدينيين الكبيرين عبد السلام بلعيد من وزارة الصناعة، وعبد العزيز بوتفليقة من وزارة الخارجية، في شهر مارس 1979، وبعد فترة «خسوف» قصيرة نسبيا، عين أحمد غزالي سفيرا لدى السوق الأوروبية المشتركة في بروكسيل، أساسا لأن زوجته، وهي من أسرة آل مصطفاي السطيفية، كانت تحتاج إلى متابعة العلاج، ولم يستطع أن يقوم بأي نشاط منتج لوجود معارضة قوية ضده. تتمثل في موقف خلفه نابي بلقاسم. والمنطق كان يفرض أن يعود أحمد غزالي إلى وزارة الطاقة والصناعات الكيماوية، باعتباره مختصا في المحروقات. ولكنه اختير لوزارة المالية، حتى لا تظهر عودته وكأنها ثأر من خصمه أو تزكية لمواقفه السابقة واعتراف بصحتها، أو تفسر على أنها رجوع إلى العصر البومديني. وإذا كانت كلمات «الخبرة» و«التقنية» و«الفعالية» يمكن أن تنطبق على عدد من الوزراء الجدد، فإنها بالتأكيد تلائم السيد أحمد غزالي أكثر من غيره. إنه فعلا الرجل المناسب، لكن ليس من المؤكد أنه وضع في المكان المناسب.