عند كل محاولة لتحديد كيفية معالجة تيمة الصحراء كفضاء أوكشخصية بذاتها في السينما المغربية، يصطدم المحلل بضآلة المادة الفيلمية، تعود دواعيه لمسببات فكرية وموضوعية لم تسمح للسينمائي المغربي عموما بالاعتكاف على فضاء الصحراء كرافد روائي مركزي. فعدم الاهتمام الكافي بالمسألة عند سبك المخيلة الروائية ومحدودية الإمكانات اللوجستيكية، إضافة إلى صعوبة العمل في ديكور طبيعي... كلها عوامل أترث سلبا على استغلال البيئة الصحراوية في الإنتاجات السينمائية. لهذا قد يرتئي البعض، دون أن تنعدم مشروعية رأيهم، أن محاولة الغوص في هذه العلاقة المبتورة، لا تعدو كونها فرضية فيها من الحشو والتعسف المعرفي ما لا يعكس واقع الأمور. ومع ذلك فهذه الندرة لا تمنع من رسم خط بداية، كتمهيد لمعالجة هذا الارتباط، اعتمادا على بعض المرجعيات السينمائية المنتقاة، عربية وعالمية، لعلها تسعفنا في الكشف عن طبيعة وملابسات توظيف المجال الصحراوي في السينما. ولنبدأ بتحديد مفاهيمي لكلمة «صحراء»،كما سوف نوظفه في هذا التحليل المقتضب، حتى نتجنب التفاسير التي تتقاذفها الألسن دون أن تتحقق بها بالضرورة وحدة المعنى. يمكن إجمالا اعتماد مدلولين رئيسيين: - الأول «جغرافي-إقليمي» يشمل المسافة الممتدة على طول جنوب الدول العربية والتي تتميز بالقفر والجفاف. وتقابله في المعجم الفرنسي كلمة « sahara ». وتبعا لذلك تنتفي، نوعا ما، هذه الصفة عن المناطق الجافة في قارات اخرى كالولايات المتحدةالأمريكية واستراليا... والتي تنعت عادة بالبيداء «steppe». - اما المدلول الثاني فهو»مجازي-رمزي» يحيل على الفراغ في تجلياته المادية والسيكولوجية طبقا للمصطلح الفرنسي » « désert. وقد وجد العديد من كبار المبدعين السينمائيين في هذا المد ما يغذى طاقاتهم الفنية ويضفي على إعمالهم نسمة إبداع حقيقية. لذا لم يعتبر بعض المنتجين تشخيص الأدوار قي الفضاء الصحراوي الطبيعي ضرورة حتمية. انطلاقا من هذا التمييز المفاهيمي يمكننا اقتراح مجموعة من التأملات والأفكار حول الموضوع حتى ولئن أعوزتنا لنذرتها في معظم الأحيان، الأدوات العملية، لتفنيد أو نفي هذا الرأي أو ذاك. لقد أجمع مؤرخو السينما العربية على أن فيلم «قبلة في الصحراء» للأخوين إبراهيم وبدر لاما، كان أول من دشن نمطا جديدا في الرواية السينمائية باعتماد أسلوب المزاوجة بين البعد الأسطوري والقصة الغرامية والذي سوف تسير على منواله العديد من الإنتاجات منذ تلك المرحلة. ومن المفارقات أن يتعرض هذا الشريط لحملة صحفية عنيفة غداة عرضه على الشاشات المصرية، بلغت حد اتهام صاحبيه بالطعن في سمعة مصر. ورغم بدائيته في الشكل وسذاجة مضمونه، فقد أصبح المرجع المؤسس للسينما البطولية التي تستنسخ النموذج الهوليودي للفارس الملحمي، كما جسده في بداية العشرينييات من القرن الماضي «رودولف فالنتينو» Rudolph Valentinoالذي وجد في ترامي أطراف الصحراء، المجال الأرحب لإثبات نبله وإقدامه وروح التضحية لديه. والواقع ان ماساهم في نجاح «قبلة في الصحراء» هو تقديمه لجمهور الشاشات العربية -الذي كان آنذاك في بداية وعيه بأن الاستعمار ليس قدرا محتوما- كنسخة محلية لبطل الفيلمين الأمريكيين (الشيخ-1921 وابن الشيخ-1926) خصوصا وأن المواطن المصري كان في حاجة ماسة لمشاهدة ما يحقق له نصرا، ولو وهميا، على شاشة السينما. هي إذن صورة تعويضية عن واقع منفلت ولحظة عزاء افتراضية يسترجع فيها المخيال الشعبي ملامح عنترة بن شداد العبسي وسيف ذي اليزن اليمني وصلاح الدين الأيوبي... وقد كانت تحتد وطأة هذا الاستلاب للوعي الجمعي، بالقدر الذي كانت تتكثف معه، تحت إلحاح بعض المنتجين دون شك، هرولة عدد من المخرجين من أمثال نيازي مصطفى (عنتر بن شداد) وحسام الدين مصطفى (الرصاصة لا تزال في جيبي،...) وحتى صلاح أبوسيف (مغامرات عنتر وعبلة) بل ويوسف شاهين (الناصر صلاح الدين) لاقتباس نفس الموضوع. طبعا لا سبيل للقول بأن تطابق السينما المصرية والغربية من حيث توظيفهما للصحراء كديكور، يعني تطابقهما على مستوى زوايا النظر والبراعة الاسلوبية. فالإمكانيات الإنتاجية والطاقات الإبداعية التي تحظى بها الآلة الأمريكية، علاوة على المهنية الفائقة للقائمين عليها، كانت تسدل على الفضاء الصحراوي جمالية وجاذبية تغني أحيانا عن مضامين الحكي. وقد أعطانا المخرج البريطاني «دافيد لين» David Leanقي تحفته «لورانس العرب»Laurence d'Arabie مثالا صارخا عن الحرفية في تأطير المجال وتوظيف الألوان بحيث نسج الفيلم على شاكلة لوحة ملحمية تتناغم فيها صفرة الرمال الذهبية مع الامتداد اللامتناهي للفضاء، مما يولد لدى المشاهد إحساسا مزدوجا بقسوة البيئة ولذة الانجذاب إليها. وبصرف النظر عن أي قراءة إيديولوجية قد تحصرنا في خانة الموقع الرافض لنظرة المخرج «الباترنالية»، التي تمتح من معين الوازع العصبي الذي تتحرك بموجبه قبائل بدو الجزيرة العربية ضد الغازي الخارجي، تحت قيادة زعيم أجنبي يمتلك بمفرده الوعي السياسي لحرب الاستقلال، فإن الواقعية التي ميزت الإخراج السينمائي، جعلت «دافيد لين» يرقى بأسلوبه الفني حدودا تندمج فيها الحركة بالسكون، والامتداد بالانكماش... مسدلا بالتالي على عمله صورا شاعرية، زادها دقة أداء الممثلين المحكم والاختيار الدقيق لزوايا التصوير. و،كثيرا ما اعتمد سينمائيا هذا الارتباط المتين، بين جذب الصحراء وطهرانية قاطنيها، للتعبير عن تعارض المجتمع الصحراوي ذي الطابع -العفوي-البدائي- مع تعقيدات المجتمع المتمدن الذي فقد بساطته وصفاءه بفعل «التحضر الآلي» القادم من الشمال. ففي فيلم «ابن السبيل» لمحمد عبد الرحمان التازي، تحضر الصحراء كمنطلق لهجرة استكشافية صوب الشمال، تتبعثر طوالها عند كل محطة (كل مدينة من مدن المغرب) صورة من الصور الوهمية التي تختزنها ذاكرة المهاجر عمر، سائق الشاحنة المكلف بنقل حمولة ثمر النخيل من إنزكان إلى طنجة. فيتحول السفر من رحلة لتحقيق الذات إلى تيه وضياع تتحطم بهما كل الصور المشكلة في مخيلة عمر عن واقع حالم. وهكذا تنبني حكاية «ابن السبيل» على السفر-الهجرة، كبنية سردية لا تخلو من إيحاءات على تاريخ مجتمع تحتل فيه التصورات الطوباوية القسط الأوفر مند البدايات الأولى. وتأتي أهمية الكتابة الدرامية من فكرة التباعد الحاصل في العلائق الإنسانية، والذي تنتفي بفعله كل خصال الخير والشر والحب والبغضاء والعدل والظلم... وتنعدم فيه كل المبادئ الأخلاقية لفائدة المصالح الذاتية. فعمر الغر ينتهي به المطاف في مركب عائم وسط تلاطم أمواج البحر، بعد أن فقد كل شيء ولم يعد له من وسيلة سوى التجديف بمفرده لعله يجد سبيل النجاة. وقد كانت فكرة الانعتاق «الفردي» من جحيم واقع سياسي واجتماعي مرير،عن طريق الهجرة السرية خارج حدود الوطن، هي أساس البناء السردي في فيلم «المخدوعون» للمخرج المصري توفيق صالح (1972) والذي لا يزال يتصدر إلى اليوم، وعن جدارة، أحد أهم الإنتاجات في لائحة الأفلام العربية والعالمية. فهذا الفيلم المستقى من رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، يعرض محنة ثلاثة فلسطينيين (أبو قيس وأسعد ومروان)، يمثلون مختلف الأجيال، حكم عليهم التشرد الناجم عن النكبة بالهجرة إلى الكويت، عبر فيافي الصحراء القاحلة، بحثا عن المال والاستقرار. وقد أفلح المخرج سينمائيا في إبراز العلاقة المتوازية بين واقع فضاء الصحراء «العاري» والحقيقة «العارية» لشباب اعادته لفحات الشمس الحارقة إلى نفي ذاته من قيم التضحية والوفاء، ودفعتنا كمشاهدين للتساؤل عن مغزى النضال ما دام المال والثروة اللذان ترمز إليهما الكويت، حيث تفجر الذهب الأسود، يتقدمان لديه كل المباديء والأخلاق. شباب يبدو كما لو فقد هويته وصدق إيمانه بقضيته بعدما تكشف له البون الشاسع بين ما يصطدم به على ارض الواقع وقواعد التنشئة التي تلقاها طول حياته... وهي حقيقة سوف تنسيه روح العمل الجماعي وتذكي فيه عوضا عن ذلك عقدة «الأنا العلوي»، فيدوس كل قواعد التعفف والالتزام، على غرار ابن عمومتهم (الخيزران) سائق الشاحنة الجشع، الذي أعمته لهفة البحث عن الجنة الموعودة نبل «المواطنة» فيتوج سفرهم -ولو عن غير قصد- بالنهاية المأساوية التي أودت بهم جثتا في كوم من الأزبال ...! وما من شك في أن الصورة القدحية التي يقدمها توفيق صالح عن العربي الثري، المكبوت جنسيا، والفلسطيني المخصي جسديا، بأسلوب ينأى عن ميلودراما المغامرة وثرثرة الخطابات البطولية، -رغم «واقعيتها» وطوباوية الموقف السياسي الحامل لها - حتى ولئن جاءت أقل اندفاعا مما هي عليه عند كنفاني- هي التي أدت إلى منع الفيلم في جل البلاد العربية لما يزيد عن أربعة عقود. من موقع مختلف يرحل بنا المخرج لحسن زينون في أول شريط مطول له «عود الورد» beauté éparpillée) la) عبر صحراء الجنوب المغربي، من خلال حكاية جارية مملوكة جعلت من الأغنية سلاحا للتخلص من طغيان مجتمع رجولي مكبل بالجفاف العاطفي، وتنخرها تقاليد بيئة زرعت في الناس ضراوتها وقساوتها. والواقع أن الاشتغال على الثرات الغنائي يحمل في ثناياه خطر الانسياق وراء رقة النغمة وجمالية الكلمة على حساب التعبير السينمائي الذي قد يفقد الفلم وحدة عضوية الموضوع والأسلوب، ولا سيما بالنسبة لمخرج مختص في فن الكوريغرافيا. وقد يستحيل أن يصل مثل هذا الفلم غايته، أعني تلك التي اسست مشروعه، إدا لم تتوفر فيه شرطان : نجومية أو «أيقونة» صاحب الدور الأول الذي سيحمل على عاتقه ثقل الحكاية، وكلفة إنتاجية عالية تغني عن إكراه الوسائل المادية. وهما الشرطان المفقودان بالضرورة في عمل زينون. ومع ذلك فقد حصلت بطلتا الفيلم على جائزتين مستحقتين في المهرجان الوطني للفيلم المنعقد بمدينة طنجة سنة 2007. نفس المجاز سبق تناوله بشكل عميق وحميميي من طرف «برناردو بيرتولوتشي» Bernardo Bertolucci في فيلمه المستوحى من رواية ل»بول بولز- Paul Bowlez» « شاي في الصحراء» (Un thé au sahara) . هنا أيضا تطرح أزمة العلاقات الانسانية من خلال التركيز على افتقاد التواصل بين ثلاثة أصدقاء : «بورت موريزبي « Port Morisbyوخليلته «كيت Kit « وصديقهما «تورنر»Turner الذي تراوده الرغبة في امتلاك هده الأخيرة. يقرر الثلاثة الانتقال إلى الجنوب بحثا عن عالم يتجدد فيه صفاء علاقتهم، فتكون الصحراء هي الفضاء الذي يحيي فيهم أو بالأحرى يزرع فيهم الوعي بزيف صداقتهم وقيمهم التي ظلوا يعتقدون في أصالتها وصفائها . وهذا المجاز ما كان ليعطي الفيلم تلك الشحنة الإبداعية لولا قدرة المخرج البليغة، كما هي عادته في جل أفلامه، على تنظيم المجال وتوظيف الألوان (الجزء الأول من الفيلم تسيطر عليه القتامة التي تنقشع تدريجيا حسب تسلسل الأحداث) ورسم إطار المناظر الطبيعية التي يزخر بها الجنوب الصحراوي. ليس معنى ما نقول أن حضور الصحراء في أفلام بعض كبار المخرجين كان مجرد انصياع لجاذبيتها من أجل تأثيث الديكور، بل لأنهم تناولوها أحيانا كثيرة كهم فكري وفلسفي، لعل المبدع الألماني «فيم فندرز» Wim Wenders كان أكثرهم هوسا به. ويتمثل هدا الهم في صعوبة بل واستحالة أي تواصل بين أفراد مجتمع يئن تحت وطأة حضارة عصرية، حولت الأفراد إلى مجرد أرقام وعلامات ضاعت فيها أبسط معاني الحياة والدفء الإنساني. وهكذا يعاود «فندرز» بعد فيلم «على مر الزمن» (Au fil du temps) تناول تيمة التيه والاغتراب في فيلم «باريس-تكساس». غير أن الصحراء هنا تتموقع كشخصية محورية تنتظم في إطارها علائق الشخوص الذاتية ومصيرهم، فهي التي تعطي معنى لتحرك البطل ترافيس Travis، الفاقد للذاكرة والتائه عبر فيافي تكساس بحتا عن زوجته « آن»Anne . وفي صلب هدا التجوال اللامتناهي تتهاطل أسئلة «هانتر»Hunter الإبن، كأداة تستدعي ذاكرة الأب في عملية استكشافية للذات، تستعيد من خلالها عالمها الواقعي. فهدا السعي الدِؤوب للبحث عن كينونة الإنسان وموقعه في عالم أصبح «غريبا» فيه، هو ما أصبغ على الفيلم شاعرية فياضة في التعبير، حتى ولئن بدا الفضاء الصحراوي كما أطرته قصدا كاميرا «فندرز»، مبعثا للمزيد من حدة الإحساس باغترابه.