لقد صارت موضوعة الجسد تستقطب اليوم اهتماما بالغا في الفكر الفلسفي والعلمي، ليس لأنها كانت موضوعة خارج التقليد الفلسفي والديني، وإنما بالنظر إليها من زوايا علمية متعددة، كالسوسيولوجيا، والأنثربولوجيا، والتحليل النفسي، والسيميولوجيا والأدب... ونحن هنا، لا نود الانخراط في تاريخ الجسد، ولكننا نرغب في الإشارة إلى أهم القضايا التي أثيرت حوله. ونعني ثلاث محطات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيرا الفكر العلمي. والوقوف عند هذه المحطات يشكل بالنسبة لنا خريطة طريق لملامسة واختراق الإشكالية البحثية التي اقترحنا النظر إليها. وهي محطات تشكل استئناسا أوليا لموضوعنا. لا عجب إذن أن يكون الدم علامة طقسية ويكون انسيابه قربانا للمقدس، ليس فقط في تدفقه، وانسيابه على الأرض، وإنما في امتلاكه عبر النكاح، أي عبر فعل جنسي يفضي إلى النسب الدموي. فالرجل العاقر ( الأبتر) يعتبر في التقليد العربي مبتور السلالة، أو هو مبتور القضيب، صحيح أن المعجزة الإلهية تخترق العقم، وهو ما تسرده القصص القرآنية، حول زوج النبي زكرياء، وكذلك في شأن زوج إبراهيم، وورد بسورة هود على لسان زوج إبراهيم ‹‹وقالت يا ويلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخ، إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد›› الآية 73. يظهر القدسي إذن فاعلا في الجسد، إنه الركيزة التي يعيش بمقتضاها، فعملية النكاح لا تتم إلا باسمه، ولأجل ذلك فإن النكاح ‹‹شكل خاص للعلاقة بالقدسي من خلال الشهوة، فقرابة الرضاع قرابة متعة واتخاذها لمجرى الدم نفسه يجعل السائل اللبني يلعب دور السائل المنوي›› . سيدخل الجنس إذن منطقة المحرم، وسينكشف بين المقبول والمحظور. ولأنه متعة ولذة فإن مراقبته ضرورة سياسية، هكذا ستعلن السور القرآنية المدنية منها على الخصوص عن تقعيد وتقنين للجسد عبر التحريم، في الزواج والطعام، والشراب واللباس، وغيرها... وكأن تحريم بعض الطقوس السائدة في ذلك العصر أي ما قبل الإسلام يروم تشكيل مجتمع جديد. مجتمع لا يقطع مع ثقافات أخرى ( وثنية، يهودية، مسيحية) وإنما يقوم بتبيئتها حتى تكون ملائمة ومقبولة في النظام الإسلامي. 3 – سياسة الجسد/الجنس: في تأويل لطيف للمفسر "القرطبي" يقول فيه: ‹‹إن أول ما خلقه الله في الإنسان هو عضوه التناسلي (...) هذه هي أمانتي أستودعكم إياها (...) أمانتي هذه عندك، لا تستخدمها إلا حسب الحق›› . إنه يشير إلى كلمتين رئيستين وهما العضو التناسلي ( الفرج والأمانة ) بالإضافة إلى كلمة ثالتة تضبطهما وهي " الحق "، فإذا نظرنا إلى كلمة الفرج باعتباره فتحة وفراغا موجودا بين الركبتين فهو لا معيَن ولا محدد بالجنس والنوع. إنه أمانة لا يمكن تفعيلها وتشغيلها إلا بما أمر به الحق، هنا يكون الجنس منضبطا لما يتلوه المقدس. لكن لماذا اعتبر هذا المفسر الإسلامي (ق7 م) الفرج أول عضو ثم تكوينه في الإنسان ؟ أليس هو موقعا للاوعي السماوي واللاوعي الشيطاني معا؟ بإمكاننا العودة إلى ما قاله نبي الإسلام حول النكاح قيمة للمفاخرة به يوم القيامة. إنه البعد المركزي المؤسس لثقافتنا العربية الإسلامية، ليس هذا فحسب، وإنما جعله متلازما مع الحدود التي رسمها المقدس الديني كذلك. يمكننا اعتبار العضو التناسلي بهذا المعنى أمانة أو دَيْنا على المسلم، وبين الدِّين والدَّيْن تقارب دلالي يمكننا من ربط هذا بذاك، ربط الفرج بالدين، ما دام الأول دينا/أمانة لا تستقيم إلا مع الحق وبه. لكن كيف يستطيع المسلم أداء هذا الدين كأمانة وهبها الله إليه؟ يمكن إعادة الدين إلى واهبه بطريقة شرعية، يكون فيها الجنس مرتبطا باسم الله. التسمية الإلهية هي التي تعطي للفعل الجنسي صدقيته، أما إذا ذهب إلى غير مكانه المباح فإن غضبا إلهيا سيصيبه في الدنيا والآخرة. بهذه الطريقة يتم إخضاع الجسد/الجنس للوصايا الإلهية حيث يكون الجنس في التقليد الإسلامي نكاحا، مبنيا بطريقة شرعية، بينما يدخل الزنى ضمن المعاصي الكبرى، معصية تزعزع النظام السياسي في المجتمع والدولة. صحيح أن الزنى مفهوم مرفوض في النظام الإسلامي، إنه اللانظام أو بالأحرى، هو النكاح الفاسد الذي يزعزع النظام. والنظام هنا هو ما أسسه الله وقام بتدبير بنيانه نبي الإسلام. فالزنى بهذا المعنى انحراف جنسي وجبت معاقبته عبر طرد شروره من المجتمع. لا يرفض النص القرآني هذا النكاح الفاسد فحسب، وإنما يرفض جميع الأشكال الجنسية غير الطبيعية أيضا، كالسحاق واللواط والاستمناء وإتيان البهائم... فهذه الأشكال تشير إلى التمرد على الخالق، مثلما تندفع نحو الفوضى، لهذا ذم الله هذه الانحرافات الجنسية وخاصة المثلية منها. والقرآن يكشف بوضوح عن المثلية التي سماها "اللواط" وهي كلمة تعود إلى النبي لوط وشعبه، مثلما يوجه نظرة المسلم إلى العقاب الذي أصاب قوم لوط لرغبتهم في الذكور. إنها ممارسة تمردية على الطبيعة وعلى الله معا، وهو ما سينتج عنه عقاب مدمر سيسوى بمقتضاه هؤلاء القوم مع الأرض. ولعل التصوير الذي تقدمه الكتب المقدسة لهذا العقاب الإلهي دال على فداحته وكارثتيه، إلا أن المثلية الأنثوية غير مذكورة في القرآن، وإن كان بعض المفسرين يرجعها إلى الفاحشة، انطلاقا من (سورة النساء الآية 15): ‹‹واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا››.