محمد بنيس، الشاعر، الناقد ، المفكك للمعطيات، الباحث عن مكامن العطب، المسكون بقلق السؤال أفقا ومنهجا... سمات صنعت شخصية ذات طبيعة سجالية ما خوله قيادة تجربة متفردة في الادب المغربي والعربي.. تجربة غنية وصعبة زاوجت بين ظلال الشعر وجرأة النقد والاقتراح، متكئة على فضيلة الحوار. حوار شغله كثيرا وأسس له في مشروعه الثقافي، وهو التقريب بين الثقافة العربية والعالمية كمدخل للحداثة غير المرتهنة لخطاب المصالح والمؤسسات الرسمية، قبل أن ينتهي الى وصفها ب» المعطوبة» في كتابه «الحداثة المعطوبة» لكن دون أن يفقد إيمانه بتحققها يوما ما .التقيناه على هامش تكريمه بموسم أصيلة الثامن والثلاثين، فكان لنا معه هذا الحوار.. p من أين يستمد محمد بنيس هذا الانفتاح في شعره على الحياة والتاريخ في ظل عالم يعلوه غبار الحروب وأنين الانسان؟ n علمتني الثقافة والشعر أن الانسان لا يمكن أن يعيش الا منفتحا على العالم، وحياة الفرد هي حياة مجتمع وحياة حضارة أيضا وبمعنى أننا كمغاربة انتبهنا في عصرنا الحديث الى ضرورة التخلي عن الانغلاق الذي كان يضغط علينا من أجل لقاء أوسع مع الثقافة والمعرفة العالمية. وأظن أن هذا الدرس أعطاني حصانة كبرى لكي أظل في لحظات الازمات التي عشتها كفرد أو كمجتمع، أتشبث بالحياة وأدافع عنها في كتاباتي كما في سلوكي واختياراتي الإنسانية والثقافية. ولا شك أن هذا الدرس ساعدني أكثر على المقاومة والاستمرار الإيجابي في العمل والكتابة. p هي دعوة إذن الى المقاومة الثقافية ضمن المشروع الثقافي الذي تدافع عنه، وهل مازالت هناك جدوى من المقاومة؟ n كل كتاباتي هي دعوة الى المقاومة في وقت الانغلاق والتعصب، وعلينا أن نستمر من خلال الكتابة متمترسين في هذه الجبهة. فمجتمعنا مجتمع تقليدي ومكانة الثقافة داخله مكانة هامشية ، خاصة الثقافة الحديثة، والأفكار التي تدعو الى الحرية والابداع لذلك لا يمكن أن نتوقف عن المقاومة، وأن تنكتب ونمارس عملا يتحدد في المقاومة ذاتها. p خضت تجربة مشتركة مع الفنان العراقي ضياء العزاوي زاوجت بين الشعر والتشكيل، ما أضافت هذه التجربة للشاعر محمد بنيس؟ n تجربتي مع الفنان ضياء العزاوي في الجمع بين العمل الشعري والفني جاءت انطلاقا من رغبتنا المشتركة في إنجاز عمل يخاطب أكثر من جمهور لأن هناك تجارب كبيرة تمت في أوربا من حيث التعامل بين الشعراء والرسامين، وقد نتجت عن هذا المزج أعمال كبرى ولذلك أردنا أن نخوض هذه التجربة في العالم العربي فكانت بالنسبة لي غنية جدا، قدمت لي إمكانيات كتابة نص شعري يفتح حوارا مع اللوحة الفنية. بعد ذلك دشنت تجارب أخرى مع فنانين من اليابان، أمريكا، أوربا وهي تجارب أصبحت تمثل بالنسبة لي جانبا من نشاطي الشعري وحواري المتواصل مع الموسيقيين والراقصين ومجموعة من الممارسة الفنية. p حديثك عن الفنانين اليابانيين يقودنا الى الحديث عن قصيدة الهايكو عند بنيس بما أنك عضو شرفي داخل الجمعية العالمية لفن الهايكو n كانت بدايتي مع قصيدة الهايكو خلال لقاء جمعني بسلوفينيا مع الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي في 2001 ومن ثم كانت انطلاقة كتابتي للهايكو. لقد كان لقصائدي الأولى صدى في اليابان جعل رسامين يهتمون بهذه التجربة. في البداية لم أكن أحب كتابة الهايكو لأنني أحترم هذا الفن الشعري، رغم أكنت متعلقا وشغوفا به منذ شبابي ، لكن صديقي الشاعر الياباني بانيا هو من حرضني على كتابته وهو يترجم كل ما أكتبه في الهايكو الى اليابانية رغم أني شخصيا غير معني بنشره عربيا. فمباشرة بعد توصله بقصائدي يقوم بترجمتها ونشرها، وبفضل هذا النشر أصبحت لي علاقات حيوية مع شعراء الهايكو في كل العالم ،وأعتبر هذه الممارسة على هامش القصيدة. p في ديوانك الأخير "هذا الأزرق" احتفاء كالعادة بالألوان هل اختيار جديد في تذوق الأشياء البسيطة شعريا، وهذا الشئ هنا هو الأزرق كلون، كحاسة، وفلسفة حياة؟ n اهتمامي بالألوان كان منذ الطفولة ، وفي ديواني "ما قبل الكلام" هناك قصيدة عن الألوان. أما ديواني الأخير "هذا الأزرق"، فيندرج ضمن الأشياء التي أشتغل عليها.. الأشياء الملموسة والبسيطة .فكل الكائنات من حولنا هي جزء من حياتنا، وهذا النوع من الكتابة يحتاج الى صبر وحس مرهف بالأشياء البسيطة التي تبدو للمشاهد العادي غير ذات قيمة في الحياة العامة لكنها بالنسبة لي تكتسي أهمية كبرى. وأعتقد أن ما على الشعر القيام به هو ترك المجالات المستهلكة والتوجه الى ما لا يتم الانتباه إليه. فالشاعر مهمته الكتابة والقراءة تقع على عاتق القارئ. بطبيعة الحال الابداع الشعري أو الفني هو ما يرج الثوابت، وهو الذي يخلق نوعا من اللاتوافق مع العام والسائد، وغالبا ما يكون غير مفهوم في زمنه أو متهما أو محاربا. فالقصيدة ليست هي الخبر يجب قراءته في اللحظة وفهمه وينتهي الامر. القصيدة مفتوحة على الزمان وهذا من أخلاقيات التواضع التي تعلمنا إياها القصيدة، فنحن لا ندعي السيطرة على المعنى في كل شيء. القصيدة تعلمنا كيف نقترب منها.. كيف نحب ما تشير علينا به..كيف نفتح معها حوارا هادئا عبر فترات من الزمن. ولهذا فدور النقاد هو تجديد هذه القراءة مع الزمن، فكلما تقادم العمل الادبي، وجدنا له أبعادا جديدة لم تكن تظهر منذ البداية. العمل الأدبي موجه لزمن بعيد.