يقودنا هذا الحوار إلى مصاحبة أسرار الكتابة الخبيئة في أكوان شاعر وسارد بارع ، كتابة تحكمها سعة الأحلام وكثير من القضايا الإبداعية والجمالية، سرود وقصائد طرية ومدهشة وتسكنها الأفراح الصغيرة والاشتغال على أسئلة عصية، لتخرج بعدها كتابات طرية ومنتصرة لأناقة اللغة والمعنى . هو حوار مع سارد وشاعر متحول حدسا وذاكرة وثراء وفاعلية متوهجة، إنه الشاعر المغربي سامح درويش، الماطر، الوديع، السهل الممتنع، والذي يحمل على كتفيه « موكبا أدبيا» رفقة أقلية هائلة من المهووسين بكرامة الكلمة ونورها، حول تجربته السردية والشعرية والموكب الأدبي، وعلى هامش ثلاثيته الشعرية « برشاقة أكروبيت»، «شطحات الدرويش»، «خانفس مضيئة»، كان معه هذا الإنصات لسيرة الكتابة وطقوسها ومعانيها لديه: p سامح درويش إنسانا وساردا وشاعرا: هل من مقارنة ؟ n هو نفسه بتفاوتات طفيفة، فقد ظل يعتقد أن الكتابة ليست امتيازا، وبالتالي فلقب الكاتب أو الشاعر ليس كذلك أيضا، كما أنه ظل يؤمن أن لا حدود بين أجناس الكتابة لديه، وإن كان يقر بأن الشعر هو جوهر مشروعه الإبداعي عموما مهما تعددت تجلياته من شكل لآخر.. وما تبقى من الفروق يتكفل به النقاد. p ماذا بقي في الذاكرة من «هباء خاص»؟وكيف تری غد القصة القصيرة، وهي قصيرة جدا هذه الأيام ؟ n بقيت ندوب اللغة.. بقيت رائحة كحول الحب في طيات الكلمات.. أغلب نصوص» هباء خاص» لم تكتب في حينها بخلفية قصصية واعية بنوعها، وقد نشرت آنئذ تحت خانة « أقواس» بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي خلال الثمانينيات والتسعينيات الماضية، ولئن كانت القصة القصيرة عموما قد تبوأت لها مكانا محترما على الرقعة الأدبية العربية والمغربية، فإنها ظلت تحافظ على حيويتها وعلى رشاقتها الإبداعية لتتعدد بتعدد التجارب والأسماء، وتتنوع من حيث حجمها واختياراتها الجمالية، مما يجعلها قادرة على الاستمرار في التجاوب مع الذائقة العربية .. إن القصة القصيرة توجد اليوم على تخوم الشعر ورهانها الأساسي أن تظل قصة. p بالمناسبة ؛ ألا يباغتك الشوق إلی القصة القصيرة، مكانك الأول الذي رأته عيناك لأول مرة ؟ n طبعا، يحدث ذلك، ويوجد دوما بالبال شيء من القصة وإن كنت دوما أشعر أن الشعر هو الأصل في مشروعي الإبداعي، بل إنني مؤخرا فقط، كنت قد شرعت في كتابة سلسلة من النصوص القصصية القصيرة الساخرة بشكل متاخم للشعر، فلمست في نفسي تلك الحاجة إلى القصة.. لاشك أنه حين تراودني الفورة القصصية من جديد سأواصل السلسلة لأكمل المشروع .. p «ألواح خنساسا ، من أي حديقة بابلية أتيت بهذا العنوان ؟ n لقد بدأت أمشاج «ألواح خنساسا» تتشكل مع مطلع عام 1199، في سياق مرارات متشابكة، وجودية وإنسانية، قطرية وقومية. فإن لم تكن آنئذ أطنان القنابل المتهاطلة على قلب بلاد الرافدين من طائرات مفتولة العضلات تسقط على رؤوسنا هنا في المغرب الأقصى، فإنها ولاشك، كانت تُحدث ثقوبا غائرة في مشتركنا الرمزي، فكان من الطبيعي أن تكشف لي هذه الضربات الصادمة عن حميمية منقرضة، وأن توصِل المخيال إلى ألواحه المطمورة، أي أن توصلني بكامل منفاي إلى جدي كلكامش، وإلى مآدب أدبية دسمة تنضح بمعتقات الألواح. ومن ثمة تلَبّس عملي هذا شكله الملحمي هذا. فاعتبرت ذلك لحظة وصلا جماليا ينبغي أن أحيطها بكامل الاندفاع، وخالص العشق، وفائض الحرية خاصة وأنني كنت متوقفا لسنوات عن كتابة الشعر.. إذ ما الكتابة إن لم تكن ما يبقى عندما تصبح كل الأشياء زائدة. أخذت مني هذه الألواح زهاء أربع سنوات، إذ لم أتمكن من نقر كلماتها على الماكنتوش إلا في أواخر سنة 1994، ومنذ ذلك الحين ودور النشر والمنابر الثقافية المغربية تتهيب من مشاركتي هذه المغامرة، عدا جريدة «الاتحاد الاشتراكي» التي نشرت آنئذ الفصل الأول من الألواح بملحقها الثقافي، بل إنه قد تم احتجاز هذه الرواية بإحدى دور النشر المغربية أكثر من سنتين، على خلفية انتظار دورها في النشر، الذي لم يحصل إلا بعد عشر سنوات. إن الطابوهات كانت أقوى من الجميع، ويجدر التنويه هنا بمبادرة المترجم والروائي محمد العرجوني الذي نقلها إلى لغة موليير لتصدر سنة 2015 بباريس عن دار « إيديليفر» .. والأهم من هذا وذاك أنها قد تمت كتابتها وانتهى الأمر!. «ألواح خنساسا» رواية شخوصها آلهة، وأنصاف آلهة وبشر، رواية لا تخضع لسيطرة موضوع محدد، إنها منفلتة ما بين المقدس والمدنس، إنها صرخة ضد شيخوخة الجمال، إنها من مخلفات حرب جائرة، إنها أنين مرحلة بالتحقيب القطري، إنها هباء متناثر من مجرة المحظور، إنها اغتسال من ماكياج الحضارة، إنها استنهاض لقيم الجمال النبيلة، عن طريق الاحتفاء الخيالي بالبشاعة والقبح. إن مقاربتي الروائية هاهنا تتمثل في استغوار «فانتازمات» التحول، والاشتغال الأدبي على تحولات التشكل، إذ أنني رفعت هؤلاء الأشخاص العاديين جدا من حمأة الفقر والوجع الإنساني الفظيع إلى مصاف الآلهة العظام ! . p هذا «زمن القمل «.. هذا زمن الحرب وثقافة الموت ... فأين سامح درويش شاعرا ؟ n إنني في الميدان، في صلب المعركة، لكن بأسلحتي الجمالية الخاصة، أتحدث بقاموس الحرب لأن العالم يعْمهُ في الحرب.. ومهمة الإبداع الآن أن يساهم في نسف راءِ هذه الحرْب، و مدَ جسْر منَ القُبَلِ بيْن حائِها والبَاءِ.. لا مفر من هذه اللغة.. لا يمكن دحر الحرب سوى بأسلحة الحب، ولا يمكن أن نكتب هذا الحب إلا كما لو أننا في حرب، فمنْذ أوّل القتْل كانَ الإنْسان يبحث عن مسوّغٍ للمأساة، وكانَ الشّعْر يخْرج بجزْمَتِه في ركاب الحرْب، يمجّدُ الهزيمةَ والنّصر، حتى بدا التاريخ مثل متحف كبير للأسلحة منَ الحجَر المسنّنِ والرّمح والخنْجر والمنْجنِيق، إلى آخرِ صيْحةٍ من أسلْحة الذرّة والنّار. ليس ثمة أمام الشعراء سوى حمل قصائدهم كأدوات للقتال، عسى أن يردوا الشعر عن غيّه و يعيدوه إلى جادة الحب.. ليس ثمة من خيار سوى استعمال غاز الشعر لإبادة ما استطعنا من جحافل الكراهية والحقد، واستعمال القبل العنقودية لجعل الناس يفرون ما أمكن نحو العناق، ليس أمامنا سوى أن نجهز منصات في كل مكان لإطلاق الحمام، وننفذ ُغارَاتنا بأجْمل الكلمَات .. ليس أمامنا سوى أن نحمل قصائدنا على الأكتاف كمَا تُحْملُ قاذفاتُ الأرْبِيجِي ونصوب بما أوتينا من عشْق للحياة.. ليس أمامنا سوى أن نتقدّم زحْفاً على الأحْلام، ليس أمامنا سوى أن نفتح الشّعر على الظّلامِ، ونلقي بأشْعارنا فوّارة تمامًا كما يُلقى بالقنابل في القِتال، ليس أمامنا سوى أن نخُوض «حُبَّ شوارِع» ضدّ هذه الحرْب، ليس أمامنا سوى أن نفخِّخ الطّرقات بالورْد، وشفاهنا تلعْلعُ بالقُبل.. هل يكفي أن أقول إن الكتابة اليوم ينبغي أن تكون بالذخيرة الحية. p أنت كثير السفر .. مسافر في القصة والرواية.. مسافر في القصيدة والهايكو... حلل وناقش؟ n حلل وناقش؟ للتوّ تذكرت قصيدة هايكو لي تقول: في عزّ الخَريف /يتَسلّق اللّبْلابُ شجَر العنّاب،/حَلّلْ وناقشْ؟ .. ويبدو لي أن سؤالك هذا هو بالكونتراست نفسه، حيث تتم استدامة خضرة شجرة العناب بواسطة ما يتسلقها من نبات اللبلاب، إنه سفر يمنح الآخر ربيعه الدائم، والسفر بهذا المعني هو استكشاف أفق جديد، و»كل سفر هو يوم جديد، والسفر هو بيتي»، كما قال من قبل معلم الهايكو الأول « ماتسوو باشو». نعم، إنني أسافر وأتنقل بين أجناس أدبية عدة، لكن لسان حالي يقول : نقل فؤادك حيث شئت من الكتابة، فما الحب إلا للحبيب الأول، ذلك أن هذا السفر الإبداعي يظل بجوهر واحد هو الشعر، فأنا لا أخفي نزوعي الفوضوي في هذا الباب، لأنني لا أومن بالحدود بين الأجناس الأدبية، ولا أحتاج إلى جواز من أحد كي أمر من هذه الجغرافيا الإبداعية إلى تلك، علما أن ما تشهده الأجناس الأدبية من تطور إنما هو دينامية مستمرة تنبثق من التطور على هذا الكوكب وتواكبه، على اعتبار أن الإبداع الأدبي كان دائما سابقا عن عملية التجنيس والتوصيف والفذلكات النقدية، والشعر بطبعه الميال إلى التحرر و تحطيم القوالب وارتياد المجهول واكتشاف جغرافيات إبداعية جديدة، سيظل مفتوحا على تطوير أشكاله وسيظل بالمقابل قادرا على صيانة جوهره، فمهما تعالى اللغط لن يدوم في النهاية سوى الشعر الجميل الحامل لجوهره الإنساني الرفيع، من هنا فالشعر جوهر وليس معطى عارضا، وفي نظري فإن التجنيس الأدبي هو مسألة نقدية بحتة، إذ أن الشعر يخترق جميع أشكال الكتابة، بل إنني أعتبر أن كل إنسان في تكوينه الخام هو شاعر، يمكنه أن يمارس هذا الدفق الروحي بأشكال وصيغ مختلفة حتى إذا تلبس هذا الدفق باللغة أصبح ذلك الشعر المتعارف عليه بين البشر. p ماحكاية هذه الألوان الحالكة لأغلفة إصداراتك الأخيرة ضمن منشورات الموكب الأدبي .. أم هي الصدفة واكراهات النشر ليس إلا ؟ n هي سوداء في منتهى البياض، لكنها بالتأكيد ليست حالكة، ربما هي علاقة غائرة مع اللون الأسود الذي يحتاج منا إلى مرافعات إبداعية من أجل تبرئته من الحمولة الثقافية التي ألصقت به، فهو لون الحبر ولون بؤبؤ العين أحيانا، هو لون الحنين و الحلم العصي .. هل لا بد أن أعود بك إلى «جرادة» الفحم الحجري كي تدرك أن هذا السواد هو جوهر لبياض فصيلة من الناس، هو جزء من الهوية.. ولا أخفيك أن الصدف تجري أحيانا بما نشتهي. p ما الذي فعله بك الهايكو كي تأتي كما لو أنك تلج إلي القصيدة بالقصيدة؛ كي تسكبها علی أوراق «خنافس مضيئة»، «أوراق «برشاقة أكروبات»... ما تعليقك؟ n «خنافس مضيئة» هي أول مجموعة لي على نمط الهايكو، ولعلها تشكل بالنسبة تحولا في الوعي الشعري، وتطورا في هندسة القصيدة التي أخذت تنحو نحو التكثيف منذ ديواني « قهقهات» الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة سنة 2010 .. الهايكو بالنسبة لي يشبه إلى حد بعيد مطهرا ذاتيا للحواس من شوائب العادة .. العادة التي تخنق الشعر.. إنه إعادة اكتشاف ما نعرفه بشكل مختلف ..إنه أشبه ما يكون بالتماعة عينيْ قط في الظلام، على الهايكيست أن يوصلها للمتلقي بما يعادل دهشة وجمالية وتلقائية تلك الالتماعة كما تحدث على حين غرّة في الواقع .. إنه شحنة دهشة خاطفة تنقشع في دفقة واحدة، لتبقى مثل نقش ضوء على صفحة الروح.. إن فن الهايكو بكثافته المدهشة وآنيته ومشهديته منتشر اليوم في كل شعريات العالم بالرغم من منشئه الياباني، إذ أن الثقافة الإنسانية تتجه أكثر فأكثر نحو التلاحم والتلاقح من أجل بناء سقف إنساني مشترك. ففي غمرة الأسئلة الحضارية والثقافية الكبرى التي تعيشها الشعوب العربية اليوم، وفي خضم التوثب الذي يشهده الشعر دائما، فإن المستقبل هو بلا شك لتحرر الشعر من كل القيود وتطلعه للشحنة الشعرية الخالصة التي تلتقط إيقاعاتها وأدواتها الجمالية من نبض الحياة في تفاصيلها، ومن هواجس الإنسان وتوتراته. وإن كنا نلاحظ - اليوم- أن الهايكو قد أضحى يستقطب عددا هائلا من الأصوات الشعرية، خاصة منها الأجيال الشابة التي عاشت إحباطات ما سمّي بالربيع العربي، فإن الأمر يبدو لي مؤشر سلامة شعرية وفنية، في أفق تجاوز تمجيد الذات بشكل كابح للإبداع وارتياد أفاق جديدة للتعامل مع مأزق الشعرية العربية، علما أن تاريخ الشعر هو تاريخ مآزق بامتياز، فقط ينبغي أن يظهر في مشهدنا النقدي جيل جديد من النقاد لتتبع وتقويم ومواكبة ما يتم إنتاجه في هذا الصدد. p كيف يقيم سامح درويش القارئ؛ ما كتبه سامح درويش الشاعر في «كتاب شطحات الدرويش»؟ n الكتابة – ياعزيزي - دوما متوثبة، متنطعة، والمبدع بطبعه يكون تواقا إلى ارتياد المجهول، واستكشاف الجغرافيات المظلمة، وهو حين يبدع، فإنه يبدع ليتجاوز ذاته باستمرار، ولا يركن إلى الثبات واكتمال النموذج أو التجربة، لذلك فأنا كلما كتبت شيئا، أجعله ينفصل عني لأكتب شيئا جديدا غيره، وبالرغم من أن الإبداع هو فلذة من ذات المبدع ، فإني – شخصيا – لم أشعر بالطمأنينة أبدا إزاء ما كتبت .. ما يهمني أكثر هو ما لم أكتبه بعد، و» شطحات الدرويش» لا تشذ عن هذه الحقيقة، لأنني أعتبر أن منجم الشطحات لا زال مفتوحا، هذا بالرغم من أن التقييم في البدء والختام هو من مهمة النقاد والمتلقين عموما. p بأي موكب أدبي يحلم سامح درويش وأصدقاؤه هذا الموسم الثقافي ؟ n في سياق البحث عن صيغ لربط الثقافة بالتنمية، وجعل الرصيد اللامادي رافدا للرأسمال المادي والتنموي، وبهدف المساهمة في الدينامية الثقافية التي تتفاعل داخلها عدد من أشكال الاحتفاء الثقافي التي تؤسس لها منابر جديدة ومتنوعة للفعل الثقافي والفني بجهة الشرق والوطن عموما، في اتجاه المساهمة في إرساء تقاليد ثقافية جديدة ومحافل إشعاعية تتيح التواصل والتفاعل بين المبدعات والمبدعين، يتوق مشروع «الموكب الأدبي» إلى المساهمة في تثمين المنتوج الإبداعي والاحتفال بالإبداع الأدبي والفني، واقتراح صيغ أخرى للارتقاء بالتربية الجمالية .. إن « الموكب الأدبي» في نسخته الرابعة التي من المزمع تنظيمها خلال الفترة الممتدة ما بين 13 و16 يوليوز 2016، سيحتفي بشعر « الهايكو» من خلال لقاء وازن بين عدد من الأسماء المكرسة في المجال من دول مختلفة من العالم والوطن العربي ومن بلدنا المغرب، حيث سيحتضن « الموكب الأدبي» ندوة الهايكو الثانية بالمغرب، بعد المبادرة الناجحة التي أقدم عليها الصديق الشاعر والناقد عبد القادر الجموسي، حيث يجري التنسيق معه على قدم وساق لاستضافة هذه الندوة بوجدة .. كما سيتم بالمناسبة نشر عشرة كتب في مجال الهايكو، مما سيشكل أكبر دفعة من المنشورات في مجال الهايكو على الصعيد العربي – نترك التفاصيل إلى حينها -، هذا علاوة على عدد من الأنشطة والمعارض الفنية التي ستصاحب هذه الدورة من « الموكب الأدبي» الذي أضحى موعدا ثقافيا تتملكه مختلف الفعاليات الفنية والثقافية بجهة شرق المغرب بشكل جماعي، ولعل أن يكون التطلع اليوم إلى البحث عن صيغ لاستدامة هذه التظاهرة من خلال مأسستها وضمان الإمكانات الكفيلة بتطويرها والارتقاء بفقراتها، ولن يتأتى ذلك طبعا إلا بتوسيع نطاق الشركاء المقتنعين بجدوى الفعل الثقافي .