وتعاكس المدينة الفاضلة مدن أربع : المدينة الجاهلة : لجهلها بالعلم والفضيلة ، ولذلك فهي تطلب المجد في غير موضعه، وتطلب السعادة في الماديّات . المدينة الفاسقة : وهذه 0 تعرف ما تعمله المدينة الفاضلة ، لكنها تسعى إلى أفعال المدينة الجاهلة . المدينة المُتبدلة : أي الفاضلة إذ تتبدل مع الأيام . المدينة الضالة : رئيسها يدّعي النبوة الكاذبة ، وعيّنَ لها سعادة لا تمت بصلة للسعادة الحقيقيّة . ويتباين مصائرها لتؤول إلى الشقاء أو العدم ، لقد ترسّم الفارابي خطا أفلاطون في تصوّره لمدينته ، لكنه كان مُدركاً لاستحالة توفر الصفات المذكورة في شخص واحد ، واشتغل على المدن المُضادة ، ناهيك عن شجبه لمذهب القوة والأنساب العائلية أو القبليّة أو الخضوع للحاكم الغالب ، أو الاشتراك في العقائد الإيمانيّة ، أو المُشاركة في الخطر الداهم ، كما رفض مفهوم العدل القائم على القوة أو على المنفعة أو على الخوف أو على الغرور ، ورفض سياسة الملوك المُتسلطين على مُقدرات المدينة لهواهم الشخصيّ ، فالسعادة في مدينته تقوم على ثلاثة أسس : النوع والكميّة والكيفيّة ، النوع ويكون في التفاضل بين صناعتي الحياكة والنسيج ، أو صناعتي العطر والكناسة ، أو صناعتي الرقص والفقه ، أمّا الكميّة فهي شبيهة بالنوع ، فيما تقوم الكيفيّة على التفاضل المتكىء على الجودة ! وعلى نحو ما ينفي الفارابي الامتيازات الطبقيّة الخاصة بالتركيز على قدرة كل فرد ، على أساس من استعداده الطبيعيّ والملكة الإدارية معاً ، وبذلك تكون السعادة عنده بداية دنيويّة في العالم الواقعيّ ! وبالمُقارنة مع جمهوريّة أفلاطون سنلحظ الفوارق التالية : فمُجتمع الفارابيّ يشمل الأرض كلّها ، كأكمل أنواع الاجتماع البشريّ سعادة ، في حين اقتصر مُجتمع أفلاطون الضيق على أثينا واسبارطة ، وقد تستدعي المُقارنة مُقاربة المُجتمعات التي عاشها الفيلسوفان ، ذلك أنّ أفلاطون عاش ظروف العلاقات العبوديّة ، ناهيك عن تفرّق المدن اليونانيّة إلى مجتمعات صغيرة غير مُتكاملة ، ينحصر العمل الفكري فيها بالرجال الأسياد لا العبيد ، ربّما لأنّ مفهوم الديموقراطيّة في عهده كان مفهوماً أرستقراطيّاً ، ذلك أنّ حكم الشعب عند اليونان يقتصر على الطبقة المُسيطرة ، ثمّ أنّه يقسم المُجتمع على أساس الاستهلاك لا الإنتاج ، وحين كان يستنكر التيموقراطية أو حكم الطغمة أو الديموقراطية والاستبداديّة ، كان يعكس انهيار الدولة في أثينا ، في حين أنّ الظروف التي عاشها الفارابيّ تختلف ، إذ كانت الدولة العربيّة الإسلاميّة ذات طابع إقطاعيّ ، كمُجتمع اتسعت أراضيه إلى مساحات عظيمة من قارتي آسيا وأفريقيا وبعضٍ من أوربا ، مُجتمع تعدّدت أقاليمه وقوميّاته وثقافاته ، مع ما رافق ذلك من تطوّر في العلوم والزراعة وازدهار سوق التبادل التجاريّ ، ولعبت اللغة العربيّة كلغة الدولة والإسلام في تعميق الروابط والتواصل ، ما فتح أمام الفارابيّ أفقاً فكريّاً شمولياً ، فأتى على تصوّر مُجتمع الأمم كلّها في دولة واحدة ! وعندما عجز الإنسان عن بناء مدينة أرضيّة بأخلاق سماويّة ، تحدث عن إمكانيّة بناء مدينتيْن ، أرضيّة وسماويّة ، وهذا يُذكّرنا بمقولة القديس أوغسطين - فيلسوف المسيحيّة الأوّل - عن الإنسان ، إذ ينقسم إلى روح وجسد ، الروح ملكوتها السماء ، بينما مملكة الجسد عرشها على الأرض ، فهل هي صوى لتعاليم بولس وآراء أوريجين ، الذي رأى أنّ مدينة العالم مهدّت الطريق لمدينة الله ! الأولى أسّسها قابيل ، والثانية أسّسها هابيل ،، ولا يُمكننا فصل تداخلهما هنا في الدنيا ، هذا يُذكرنا بشيشرون على نحو ما ، فالشعب كثرة يوحدّها ارتضاء القانون ذاته والتشارك في المصالح ذاتها ، من غير أن يربط الدولة بالله للوهلة الأولى ، هذا إذا لم نتذكّر الغموض في الفكر الأوغسطينيّ ، ذلك أنّه حسب مضمون الحق يستطيع أن ينفي وجود دولة صحيحة على الأرض، في حين أنّه أراد أن ينفي عظمة الامبراطوريّة الرومانية ، ليبرهن أنّها لم تتفق أبداً مع التعريف الشيشرونيّ ، ومن ثمّ لم توجد قط من حيث الحق ! وهو يستطيع أن يقبل عملياً أنّ كلّ مُجتمع مُنتظم حسب القانون الوضعي هو دولة سياسيّة ، في حين أن بولس الرسول يرى أنّ ممالك الأرض كلّها خارج قوانين العناية ، وتمنح العناية الإلهية كلّ بلد وكلّ حقبة النظامَ الذي يُلائمها ، ما يزيل اللبس عن تناقض العبارة مع سابقتها ! لكن البشرية ابتداءً من القرن الرابع عشر للميلاد ستُطلّق إرثها الأسطوريّ إلى الفكر السياسيّ ، في مُقاربة للواقعيّ، وكان للعلاّمة ابن خلدون دور ريادي في تلك المُقاربة ، جعلته رائد علم الاجتماع العربيّ في القرون الوسطى ، لدرجة أنّ ناتانيل سميث قال عنه بأنّه وصل بعلم الاجتماع إلى حدود لم يصل إليها أوغست كانط نفسه في القرن التاسع عشر، فلقد كشف عن مبادىء الدول ومراتبها والتعرّف على تزاحمها أو تعاقبها ، ومن ثمّ تملكه سؤال هو : ما القوة التي تستند إليها الأسر الحاكمة في استيلائها على السلطة !؟ وذلك كما جاء على لسان محمد عابد الجابريّ ، وللتعرف على فكره ، لا بدّ من دراسة المُجتمّع الذي عاش فيه من خلال مقدّمته الشهيرة ! وبالبحث سنكتشف بأنّ المُجتمع الذي أحاط بابن خلدون ، كان مُجتمعاً قبلياً يقوم الحكم فيه على قبيلة بعينها ، ولذلك ستنهض الدولة على هذا الأساس ، الذي سيطلق عليه مُصطلح العصبية ، أي الجماعة التي تتكوّن من أقاربه الذين يلازمون الرجل ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون جميع الأقارب من عصبته ، وهي غير مُرتبطة بمكان أو زمان مُعيّنيْن! ويرتبط مفهومه للدولة بنظريّته في العصبيّة كما يرى الجابريّ ، ليختلف مفهوم الدولة عنده باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى العصبيّة الحاكمة ، والعلاقات السائدة بينهم ، ثمّ علاقتهم بالعصبيّات الخاضعة لهم ، هذا إذا وقفنا بالامتداد المكانيّ ، ما يتناول أتساع الدولة ، أمّا إذا تناولناها في الزمان ، للوقوف بمحطاتها المُختلفة ، فسنأتي عليها ابتداءً باستلامها للسلطة ، وانتهاءً بنهاية حكمها ! أفقياً - إذن - وجدها على نوعين دولة خاصة كالبويهيّة ، وعامة كالعباسيّة ، فالعامة لا تخضع بأي حال لغيرها ، حتى لو كانت سلطتها اسمية على بعض الأقاليم ، بهذا تكون الدولة الخاصة « ملكاً ناقصاً « ، في حين تكون الدولة العامة « ملكاً تاماً « ! أمّا عمودياً - أي أمتداد العصبيّة في الزمان - فيقسمها إلى دولة شخصيّة : ويحكمها شخص واحد كدولة معاوية ، ودولة الكلية : أي مجموع الدول الشخصيّة ، التي ينتمي أصحابها إلى عصبيّة واحدة ! ويقصد بالدولة الكليّة العامة - بحسب الجابريّ - في حديثه عن أطوار الدولة ، أي تلك التي يتوالى حكامها ، ويمتون بصلة النسب أو الولاء لبعضهم ، هكذا تكون الدولة في المكان دولة عامة ، وتكون الدولة في الزمان دولة كلية ، وباعتماد الجابري تقسيم ابن خلدون يدرس هذا التطوّر من خلال : - شخص يملك ! 2 - عصبيّة تحكم ! 3 - عصبيّة غالبة وأخرى مغلوبة ! المستوى الأول : الدولة في تعاقب ملوكها تمرّ بأطوار خمسة : طور الظفر بالبغية ، والتغلب على المُدافع والمُمانع ، والاستيلاء على الحكم ، بعد انتزاعه من دولة سالفة ! طور الاستبداد على قومه ، والانفراد دونهم بالحكم ! طور الفراغ والدعة ، لتحصيل ثمرات الملك كتحصيل المال وتخليد الآثار وبُعْد الصيت مباهياً الدول المُسالمة ، وليرهب بهم الدول المُحاربة ! طور القناعة والمُسالمَة ، ويكون صاحب الدولة قانعاً بما بنى الأولون ! طور الإسراف والتبذير : وفيه يتلف صاحب الدولة ما جمعه السلف في سبيل الشهوات، أي أنها تدخل طور الهرم فالمرض فالزوال ! هذه الأطوار الخمسة التي تجتازها الدولة ، مُرتبطة بالأطوار ذاتها التي يمّر بها الحسب ، فكما أنّ الملك هو غاية طبيعيّة للعصبية ، هو أيضاً غاية لكلّ مجد ونهاية لكلّ حسب ، وكما تفسد العصبيّة ، يفسد الحسب ، ربّما لأنّ من سيرثه يستفيد منه من غير أن يعمل على تعزيزه واتساعه ، لذلك كانت نهاية الحسب التلف والاضمحلال ، ولا تتعدّى مدته في العقب الواحد أربعة آباء ، أي مئة وعشرين عاماً ! المُستوى الثاني : الدولة إذ تتطور في شخص راجع إلى الحسب ، لكنّها إذ تتطور باعتبارها جماعة راجعة للحالة العصبيّة ، أي إلى تدرج العصبيّة من الالتحام والتعاضد إلى الانحلال ! وعمر الأفراد عند ابن خلدون مئة وعشرون عاماً ، بينما تتراوح أعمار الدول في حدود ثلاثة أجيال ، والجيل وسط العمر أي أربعين عاماً ، ليُمثل الجيل الأول جيل الثورة ، حتى إذا جاء الثاني تحول حالهم بالترف ، لتنكسر عصبيتهم بحدود ، في حين أنّ الجيل الثالث ينسى عهد البداوة ويبلغ الترف عنده غايته ، فيصيرون عيالاً على الدولة ، إذاك يظهر الاستظهار بسواهم ! وإذا كان ظاهر كلام ابن خلدون يدل على أنّ عوامل هذا التطوّر هي عوامل سيكولوجيّة واجتماعيّة محض ، فإنّ وراء هذه المظاهر النفسيّة الاجتماعية عوامل موضوعية ، أي عوامل اقتصاديّة في حقيقتها وعمقها ! * المُستوى الثالث : وهو الأعمّ الذي يضمّ كليّة الدولة باعتبارها شخصاً يملك وعصبيّة تحكم ، وعصبيّات مغلوبة على أمرها ، ولها المراحل ذاتها : - طور التأسيس والبناء : ويتميّز باستمرار العصبيّة ، علاقات الدولة برعيّتها من جني علاقات أفرادها بعضهم مع البعض، وهنا يكون التقرّب من أهل عصبيّة الأقربين أمراً مطلوباً ، وهذا هو الحال مع العصبيّات المغلوبة ، للمُغالاة في الضرائب ، ما ينشر جوّاً من الاطمئنان والازدهار ! - طور العظمة والمجد : وخصائصه ثلاث ، الرخاء ورقة الحضارة ، والاستبداد الفرديّ ما يُجبر الحاكم على الاشتغال على الموالي والمُصطنعين ، هنا يتدخل العنصر الاقتصاديّ أكثر ، ما يُبرّر للمصالح الخاصة التي تناقض المصلحة المُشتركة ! - طور الهرم والاضمحلال : يقول ابن خلدون بأنّ الملك يُبنى على الشوكة والعصبيّة ، الأوّل : المُعبّر عنه بالجند ، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجنود ، ويأتي الخلل إذا تهاوى أحد الأساسين ، واستولت عصبيّة كانت منضويّة تحت عصبيّة الدولة ، أمّا الجابريّ فيرى أنّ الخلل والفساد يتطرقان إلى الدولة في مرحلة مُعيّنة من تطوّرها نتيجة العوامل الموضوعيّة ! قدّم ابن خلدون الكثير للفكر السياسيّ والاجتماعيّ ، على الرغم من أنّه كتب عن رقعة جغرافيّة تحددت بالمغرب العربيّ ، وتتركز قيمة ما قدمه - بحسب الباحث العروسي - في نقطتين :