يعتقد محمد عابد الجابري أن المسار الذي أصبح يسير فيه العالم اليوم ، خصوصا بعد نهاية الحرب الباردة ، يفرض على الفكر السياسي العربي إعادة ترتيب أولوياته بما يتناسب و استحقاقات المرحلة التاريخية الدقيقة التي تمر منها البشرية اليوم . فإذا كان المفكر العربي القومي يعطي الأولوية لحلم إقامة الدولة العربية القومية المنشودة ، فإن التطورات الراهنة تفرض عليه الاهتمام أولا بإصلاح واقع الدولة القطرية القائمة فعلا ، و إذا كان نفس المفكر يعطي الأسبقية لشعار الدولة الاشتراكية فإن واقع الحال الدولي يفرض عليه الانخراط في شعار بناء الدولة الديمقراطية أولا و قبل كل شيء . ليس المقصود من هذا أن الجابري تخلى عن نزعته القومية و عن اختياراته الاشتراكية ، فالرجل بقي وفيا لمبادئه و قيمه التي أعلن عنها منذ بزوغ البدايات الأولى لأفكاره السياسية ، و لكنه فقط كيف توجهاته الفكرية و الإيديولوجية بما تقتضيه الأوضاع العالمية المعاصرة من شعارات و استحقاقات . التأصيل الفلسفي للديمقراطية: من أين؟ و إلى أين؟ و كيف؟ من هنا انخرط الجابري في شعار المرحلة المعاصرة و هو بناء الدولة المغربية الديمقراطية الحديثة ، و لكن بطريقته الخاصة ، باعتباره واحدا من رواد الفكر الفلسفي المعاصر بالمغرب ، حيث ركز مساهمته على التأصيل الفلسفي للفكر الديمقراطي. فما هي الأسس النظرية التي قام عليها هذا التأصيل ؟ و ما هي معالمه الأساسية الرئيسية؟ تلك هي الأسئلة الموجهة لرحلة سنقوم بها فيما خلفه لنا محمد عابد الجابري، رحمه الله، من نصوص ذات صلة بمسألة التحول الديمقراطي بالمغرب الأقصى. يحصر الجابري أسئلة الانتقال الديمقراطي في الواقع المغربي في ثلاثة رئيسية هي " من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ " . هذه الأسئلة تترابط فيما بينها بحيث لا يمكن الإجابة عن أحدها دون الإجابة الآخر، مما يدل على طابعها الفلسفي الإشكالي. في مقاربته للسؤال الإشكالي ""من أين؟"، من أي وضع غير ديموقراطي يكون الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب ممكنا؟" يوظف الجابري آليته الحجاجية المفضلة المقارنة ، التي هي في الحقيقة أشبه بآلية قياس الشاهد على الغائب ، التي طالما وجه لها نقدا لاذعا ، باعتبارها لم تعد صالحة و لا مجدية ، و من ثم لابد من "قطيعة إبيستمولوجية" معها. إن ما يجعل هذه المقاربة صعبة هو أن المغرب لم يعش وضعا شبيها لما عاشه، مثلا القطر المصري أو الجزائري، ففي كلا البلدين شكل نظام الحكم القائم فيهما قطيعة مع نظام الحكم السابق له، حيث حل نظام حكم عسكري بوجه حزبي وحيد محل النظام الملكي في مصر أوالحكم الاستعماري في الجزائر، و من ثم تكون مقاربة سؤال " من أين " سهلة في كلتا الحالتين: الانتقال إلى الديمقراطية يعني الانتقال من نظام عسكري إلى نظام مدني ، و من نظام الحزب الوحيد إلى نظام تعددي الأحزاب، أما في حالة المغرب فالنظام الملكي بقي قائما و النظام الحزبي التعددي ظل سائدا، و في نفس الوقت لا أحد يستطيع الادعاء بأنه نظام ديمقراطي. مما يطرح صعوبة الإجابة عن السؤال "من أين؟" و من هنا أيضا الارتباط الوثيق بين هذا السؤال و السؤالين المتبقيين "كيف؟" و"إلى أين؟". يخلص الجابري إلى أن التجربة المغربية متفردة و لا يمكن مقارنتها بتجربة أي قطر عربي آخر، فهل يمكن مقارنتها بالتجربة الإيرانية ، باعتبارها أقرب تجارب العالم الثالث لمنطقتنا العربية؟ يلاحظ الجابري أن ثمة أوجه شبه عديدة بين التجربتين من قبيل ابتعاد ، أو إبعاد، الجيش عن السياسة ، ووجود تعددية سياسية ، سواء على شكل أحزاب في المغرب أو تيارات في إيران، كما أن هناك تشابها بين بنية الدولة في إيران و قمتها ممثلة في المرشد الأعلى ، وبنيتها في المغرب و قمتها ممثلة في العرش الملكي. لكن الجابري سرعان ما يستدرك قائلا:" ومع ذلك فوراء هذا التشابه المثير للانتباه يقوم اختلاف كبير على مستوى "من أين؟" لا يجوز إغفاله." فإذا كان سؤال الانتقال إلى الديمقراطية يتم انطلاقا من "الثورة" على الملكية فإنه في المغرب انطلاقا من "الاستمرارية" استمرارية نظام الدولة الملكية. و إذا كانت القوى المعادية للانتقال الديمقراطي في إيران معروفة و واضحة و تعلن عن نفسها صراحة و علنا، فإن نظيرتها المغربية لا تعلن عن نفسها صراحة، بل تتستر وراء شعارات مختلفة و متنوعة.مما يجعل الصراع معها غير مكشوف و لا واضح كما هو الأمر في الحالة الإيرانية. من هذه المقارنة استنتج الجابري أنه لا يمكن مقارنة التجربة المغربية لا بالتجارب القطرية العربية الأخرى ، و لا بالتجربة الإيرانية التي تبدو ، في ظاهرها، الأشبه بالتجربة المغربية. و إذا كان الأمر كذلك، فمن باب أولى عدم إمكانية مقارنة التجربة المغربية بالتجارب الغربية الحديثة و المعاصرة، فالفوارق و الاختلافات واضحة و بينة،ولا تترك مجالا لأية مقارنة. هل معنى هذا أن الجابري يتخلى عن آلية المقارنة؟ كلا. لكن ماذا تبقى غير مقارنة التجربة المغربية بالتجربة المغربية نفسها!؟! ذلك ما يفعله الجابري فعلا: مقارنة الواقع المغربي بواقع مغربي آخر! يتعلق الأمر بقياس الواقع السياسي المغربي الحاضر بالواقع السياسي المغربي الماضي. لكن أي واقع من هذا الذي مضى يصلح لمقارنته بواقعنا الحالي؟ دولة المخزن: دولة مركبة إن الإجابة جاهزة ،عند الجابري ، فسؤالنا الأول : "من أين نريد الانتقال إلى الديمقراطية؟"، يجد جوابه ماضيا وحاضرا في مفهوم "الدولة المركبة" كما دلنا على ذلك ابن رشد . "فلنتعرف عن كثب على طبيعة هذه الدولة ولنطلب شهادة ابن خلدون، الذي عاش بعد ابن رشد بنحو قرنين من الزمان، ومعلوم أنه إذا اتفق المؤرخ والفيلسوف على شيء فذلك دليل على أن ذلك الشيء من الحقائق التي لا غبار عليها" . إن هذا السؤال"من أين؟" يحيلنا بالضرورة إلى سؤال أعم و هو "كيف تتعاقب نظم الحكم و الدول؟" ، و إذا ما نحن طرحناه على الفلسفة عامة فإنها ستحيلنا على أفلاطون . "أما إذا طرحناه على الفكر الفلسفي العربي في المغرب وخارج المغرب فإنه سيشير علينا بابن رشد أولا، ثم بابن خلدون ثانيا، وليس هناك ثالثا!" هكذا يجزم الجابري بشكل قاطع أن مقاربة إشكالية الانتقال الديمقراطي بالمغرب لا يمكن أن تتم إلا انطلاقا من القول التراثي، الرشدي أولا و الخلدوني ثانيا، و لا ثالث لهما. لكن لماذا ابن رشد أولا و ابن خلدون ثانيا دون غيرهما من مفكري الإسلام؟ إن الجواب عند الجابري يكمن في أن ابن رشد حلل، انطلاقا من أفلاطون، التجربة السياسية للملك العضوض ، التي غطت " تاريخ الإسلام كله، باستثناء ثلاثين سنة من الخلافة الراشدة"، كما نجد ابن خلدون قام بمحاولة أصيلة لتفسير طبيعة هذا "الملك العضوض" من داخل التجربة الحضارية العربية الإسلامية . هكذا يمهد الجابري حديثه عن المقاربة السياسية الرشدية بالحديث عن أفلاطون الذي قدم تحليلا دقيقا لأنظمة الحكم الغير الفاضلة و التي تنحصر بين طرفين، "أحدهما حكومة الأخيار (الأرستقراطية ) Aristocratie وهي الأقرب إلى المدينة الفاضلة، والآخر حكومة الطاغية وحداني التسلط Tyrannie وهي في الطرف المقابل الأبعد عن المدينة الفاضلة. وبين هذين الطرفين تتعاقب نظم الحكم عبر التيموقراطية والأولغارشية والديموقراطية." هذا ما نجده في نص "الجمهورية" أما في نصوص أخرى فإن أفلاطون يميز بين أنظمة حكم دستورية تحتكم للتشريعات والقوانين و أنظمة حكم استبدادية تحتكم للشهوات و الأهواء، ليخلص ، حسب الجابري، إلى "أن أفضل نظم الحكم (...) هي الملكية المقيدة بدستور وبهيئات نيابية تمثل الجميع. إنه نظام في الحكم مركب، يجمع بين الملكية والديموقراطية ويتجنب مساوئهما: يتجنب مساوئ الملكية المطلقة التي تتلخص في حب السلطة والانفراد بها، كما يتجنب مساوئ "الديموقراطية/الجماعية" التي تتمثل في المغالاة في حب "الحرية" (أي عدم الخضوع لأية سلطة). وبالجمع بينهما بالشكل الملائم يحصل التوازن الذي يحكمه مبدأ الحكمة المفترض في النظام الملكي ومبدأ الحرية الذي تقوم عليه الديموقراطية. ذلك هو ما انتهى إليه أفلاطون في آخر كتاب له في الموضوع: كتاب "القوانين" (ترجم إلى العربية باسم "النواميس") . ماذا نفهم من هذا القول غير أن النظام الملكي الدستوري الديمقراطي هو أفضل أنظمة الحكم الممكنة التحقق الفعلي على الأرض ، و هو بالمناسبة النظام السياسي المنشود بالمغرب ، إنه البديل الممكن للدولة القائمة بالمغرب ، الدولة المعروفة تاريخيا بالمخزن، التي تمثل نوعا من الملك العضوض ، الذي يتعين إصلاحه من الداخل، و لهذه الغاية يعتقد الجابري أن ابن رشد قادر على أن يمدنا بالأدوات اللازمة لفهم ماهيته و تحليل طبيعته ، فالنظام السياسي المغربي، حسب ابن رشد - و هو بذلك يتفق مع ابن خلدون - مثله مثل باقي سائر أنظمة الحكم في الأقطار الاسلامية ، بعد الخلافة الراشدة ، نظام مركب ، حيث يقررٌٌابن رشد بلغته واصطلاحه كفيلسوف أن السياسة في المغرب –يعني نظام الحكم- "إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب". أما ابن خلدون فيقول عنها بلغة علم العمران الذي شيده: إن "قوانينها مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية".ٌٌ إنه النظام السياسي الذي يحمل اسما واحدا منذ زمن ابن رشد و هو اسم المخزن، كنظام سياسي فردي استبدادي. فكيف يمكن إصلاح نظام كهذا و تحقيق الانتقال الديمقراطي انطلاقا منه و ليس بثورة عليه؟؟ إن دولة المخزن واحدة من أنماط دول العصور الوسطى و التي لم تعد استمراريتها ، دون إصلاحات ضرورية تغير طبيعتها الاستبدادية صالحة لعصرنا الراهن ، فهي مركبة بمعنى أنها ليست فاضلة بإطلاق و ليست استبدادية بإطلاق ، و هي بذلك قابلة لأن تتحول من وضع إلى وضع ، يمكن أن يتغلب عليها الجانب الفاضل كما يمكن أن يتغلب عليها الجانب الاستبدادي . ذلك ما حصل فعلا في تاريخنا السياسي ، حيث برز تارة وجهها الفاضل و تارة أخرى وجهها المستبد و القمعي ، بناء على طبيعة العلاقات القائمة و موازين القوى السائدة في هذه اللحظة التاريخية أو تلك من تاريخ الدولة المخزنية . بناء على ماسبق فإن القطيعة مع نموذج الدولة المخزنية المنتمي للقرون الوسطى و تأسيس نموذج دولتي حداثي ديمقراطي يعني القطيعة مع طبيعة العلاقات التي تشدها إلى الوراء ، إلى التسلط و القهر و الاستبداد ، و إعادة ترتيب موازين القوى بما يضمن توازن العلاقات و السلطات و توزيع الترواث . هاهنا يقف الجابري مطولا مع ما سجله ابن ارشد من ملاحظات حول طبيعة الدولة المخزنية فهي التي ينقسم الناس فيها إلى صنفين: "صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة، كما كان الحال عليه عند أهل فارس وكما عليه الحال في كثير من مدننا" . "وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم، ويمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط، كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه." : "وإذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة منهم، وكانوا يتسلطون عليهم، كان ذلك أشد الأمور قسوة على العامة(...) والأموال المكتنزة أصلا في هذه المدينة هي اليوم في حقيقة أمرها أموال بيوتات، أعني أنها من أجل بيوتات السادة، ولذلك فالجزء الإمامي منها (رئاسة الدولة =الخليفة) هو اليوم جزء التسلط بإطلاق" .() إن مفهوم السادة هنا مقابل لمفهوم العامة ، و هو يختلف عن الزوج المفاهيمي الأوربي السيد و العبد ، فالسادة هنا هم رجال المخزن و سدنته أما العامة فالمقصود بها سائر الرعايا الخاضعين لسلطة المخزن. يتمتع رجال المخزن بالجاه و المال مما يجعلهم سادة على الأرض ، يفرضون سلطتهم و جبروتهم على العامة ، الأغلبية الساحقة من الرعية التي تعيش على الكفاف و العفاف بلاجاه و لامال ، ذلك هو النموذج الدولتي الذي كان سائدا في العصور الوسطى و ما يزال مستمرا إلى الآن . و إذا كان السلطة و المال في المجتمع المخزني يسيران جنبا إلى جنب فإن الجاه هو مصدر كل ثروة في دولة المخزن و يتم الحصول عليه بالخضوع و التملق لذوي السلطان ، الأمر الذي يحدث خللا في توزيع المناصب و الترواث ، وحرمان البلاد من الاستفادة من ذوي الاستحقاقات و الكفاءات. فهل يمكن فعلا إصلاح دولة كهذه من داخلها؟ الدولة المغربية بين تشاؤم ابن خلدون و تفاؤل ابن رشد إذا كان ابن خلدون يرى أن هرم الدولة المخزنية طبيعي ، و بالتالي فموتها قدر حتمي لا مفر منه ، رغم كل وسائل الإنعاش الذي قد تطيل في عمرها ، دون أن تبقيها إلى أبد الآبدين، مما يدفع إلى التفكير في بناء نموذج دولتي جديد يقطع بشكل كلي مع النظام المخزني.إذا كان ، هذا هو رأي هو رأي ابن خلدون ، الذي استقاه من ملاحظاته لوقائع الدول و مصائر الأقطار في سائر بلاد الإسلام، و القائل "وأن الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص"، و"أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع"() ، فإن ابن رشد لا يوافق هذا الرأي ، "إنه يرى أن الإصلاح ممكن والمدينة الفاضلة ممكنة، ولكن بشروط!" ، يحصرها الجابري في ما يلي: " 1- إن بقاء دولة المخزن على ما هي عليه من الاستبداد أو دخولها في مرحلة الهرم ليس أمرا حتميا، فالإصلاح ممكن لأن الشؤون الإنسانية " إرادية كليا". وبعبارة معاصرة: الإصلاح مسألة إرادة، وبالتالي فهو لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي. 2- لابد لكي ينجح الإصلاح من اختيارات محددة لا تتناقض مع "الناموس العام" الذي اختارته الأمة، وفي نفس الوقت لا تكون "مخالفة للشرائع الإنسانية". ولابد من "أن تكون الفلسفة قد بلغت غايتها"؛ وبلغة عصرنا لابد من دستور غير مخالف ل "الشريعة الإنسانية"، والشرائع الإنسانية اليوم تتلخص في كلمة واحدة هي "الديموقراطية"، ولا بد من "فلسفة" أي من فكر مستنير يحل محل العقلية المخزنية والسلوك المخزني. 3- إن الآراء الحسنة والتصريحات المنعشة وحدها لا تكفي في الإصلاح، بل لابد أن تقرن بالأعمال الصالحة. 1- لا بد من تعاقب "حكومات أخيار" يرعون الإصلاح ويواصلونه إلى أن يصير الأمر على "أفضل تدبير"." واضحة هي الكيفية التي يوظف بها محمد عابد الجابري المقولات الرشدية للقول بإمكانية إصلاح الدولة المخزنية القائمة ببلاد المغرب الأقصى من داخلها إن توفرت الإرادة اللازمة و اتخذت القرارات الحاسمة في اتجاه الدفع بعجلة الإصلاح السياسي إلى مداها الأقصى. و بهذا يكون الجابري قد حاول الإجابة عن سؤالين من أسئلة الانتقال الديمقراطي بالمغرب ( من أين ؟ و إلى أين ) ، انطلاقا من استحضار ابن رشد نصا و روحا ، لكنه في مقاربته للسؤال الثالث و الأخير (كيف نحقق الانتقال الديمقراطي ؟ ) لن يستحضر إلا ما أسماه بالروح الرشدية المتفائلة بإمكانية الإصلاح بل بإمكانية قيام المدينة الفاضلة على هذه الأرض. لقد قدم أبو الوليد ابن رشد تحليلا دقيقا لمفهوم المدينة المركبة ، خلال تلخيصه لكتاب السياسة الأفلاطوني ، موظفا أمثلة من الواقع التاريخي العربي الإسلامي ، منتقدا الأوضاع السياسية في زمنه و مجتمعه الأندلسي – المغربي خلال العصر الوسيط، مبينا كيفية تجاوزها و إصلاحها .و قد لجأ الجابري إلى نفس المفهوم مستلهما هذه الروح التحليلية النقدية الرشدية ، في مقاربة الأوضاع السياسية بالمغرب المعاصر ، مغرب نهاية القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين. يجزم الجابري ، و بشكل قطعي، أنه لا توجد مدينة في مختلف مراحل التاريخ البشري غير مركبة ، و من بينها ، طبعا ، مجتمعنا المغربي ، فهو ، في الماضي كما في الحاضر ، مجتمع مركب ، بالمعنى الأفلاطوني، كما شرحه و وضحه ابن رشد ، مستحضرا التجربة الحضارية العربية الإسلامية و موظفا أمثلة تاريخية منها. يتركب المجتمع المغربي من عناصر متعددة و متنوعة ، تقليدية و معاصرة، فهو مركب من قبائل و زوايا ، و من عرب و أمازيع و صحراويين و أفارقة، و من أحزاب و نقابات .. ، و من أعيان و شرفاء و عامة...إلخ. "وكل عنصر من عناصر "التركيب" [ هذه ] يحمل معه نوعا خاصا من السلطة، منها ما يدخل في مجال "الفضيلة" أو في مجال الدين، ومنها ما يدخل في مجال القهر والقسر". لقد فكر ابن رشد في مفهوم "التركيب" انطلاقا نموذج رياضي هندسي هو فكرة "الوسط" ، أي الموقف العدل الوسط بين طرفين متناقضين ، فإذا كانت حكومة الطغيان هي الطرف المناقض لحكومة الطغيان فإن الحكومة المركبة تمثل الموقف الوسط بين "الأخيار" و "الطغيان". من هنا يدعو الجابري إلى " تركيب جديد : الكتلة التاريخية." و المقصود بذلك إعادة تركيب الدولة المغربية من جديد ، لتصبح دولة ديمقراطية حديثة. لكن السؤال كيف؟ يظل مطروحا ، و مازلنا ننتظر الإجابة الجابرية عليه. من أجل هذه الإجابة المنتظرة يرجع الجابري لمفهوم "المخزن" ،الاسم الذي عرفت به الدولة المغربية منذ زمن ابن رشد،ليتساءل حول الذي تبقى من "المخزن القديم" : هل يعانى هذا "المخزن" من "الهرم" ،الذي جعل منه ابن خلدون مصيرا حتميا ومن ثم استحالة أي إنقاذ له من القدر المحتوم الذي ينتظره، أم أنه مازال دولة "مركبة" من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب، كما يقول ابن رشد، و بالتالي تتوفر فيه كل الإمكانيات الذاتية لإصلاحه و إسعافه؟ يرفض الجابري المنطق الحتمي الخلدوني و ما ينذر به من يأس و تشاؤم في إمكانية إصلاح "دارالمخزن" من داخلها و يتبنى الروح الإصلاحية الرشدية و ما تبشر به من أمل و تفاؤل . يقول الجابري: ""- لقد تعرضت دولة المخزن للهرم المحتوم في أوائل هذا القرن مع فرض الحماية الفرنسية على المغرب. - ثم حصل تجديدها ب" إضافة عمر إلى عمرها"، حسب عبارة ابن خلدون، مع محمد الخامس الذي انفصل عن عملاء الاستعمار من المخزن القديم وتحالف مع الحركة الوطنية. - فتحقق الاستقلال وتجددت الدولة وساد في تركيبها عنصر "الفضيلة" بتعبير ابن رشد، لأن محمد الخامس "صاحب الدولة –كان- أسوة قومه (الوطنيين) ... لا ينفرد دونهم بشيء" حسب عبارة ابن خلدون. - ثم عرفت هذه الدولة، خلال الأربعين سنة التي تولى فيها أمرها الحسن الثاني، نوعا من "التركيب"، شبيه بذلك الذي تحدث عنه ابن رشد، فعرفت فترات يطبعها "التغلب والاستبداد"، وأخرى أقرب إلى "الكرامة" أو "الحرية"، لينتهي بها الأمر إلى الشروع في تغليب "الفضيلة" على العناصر الأخرى، بإقرار ما عرف ب "التناوب التوافقي" الذي جاء أشبه بذلك الذي بدأ على عهد والده محمد الخامس مجدد الدولة. - أما الاغتناء بالدولة وبواسطتها حسب قانون "التملق مفيد للجاه" و"الجاه مفيد للمال"، فقد كان وما زال ظاهرة متفشية. وهي التي تقف وراء التفاوت الفاحش بين أقلية من الأغنياء وأكثرية كاثرة من الفقراء. - واليوم، مع محمد السادس، ينتظر أن يتم الانتقال إلى التناوب الديموقراطي الحق، وبذلك يتم تجاوز دولة "المخزن" والانتقال إلى الدولة الديموقراطية."" لكن السؤال المطروح دائما هو كيف يتم هذا الانتقال الديمقراطي؟ في معرض إجابته ، عن سؤالنا المعلق "كيف؟" ، يوظف الجابري مفهوم مفهوم "الكثلة التاريخية". هذا المفهوم /المفتاح يعني على المستوى السياسي_العملي انخراط كل القوى الفاعلة في المغرب ، اجتماعية و ثقافية و سياسية ، نقابية و حزبية ، "مخزنية" أو "مدنية" في تعاقد تاريخي يضع أسس دولة الحداثة و الديمقراطية ، هذه الدولة التي ، و إن تجاوزت أفق النص الرشدي ، لأن الديمقراطية لم تكن من المفكر فيه ، فإنها بكل تأكيد،بالنسبة للدكتور الجابري، لا تتجاوز أفق الروح الرشدية ، مادامت تعتبر رافدا من أهم روافد الحداثة و العقلانية ،المهيمنة على مختلف جوانب الحياة المعاصرة ، و المؤسسة لكل تجربة ديمقراطية معاصرة. حاصل القول إذن مما تقدم ، أن ابن رشد ، يصلح في نظر الجابري ، أن يكون مفتاحا ، نفتح به أبواب ، أوضاعنا السياسية، المحكمة الانغلاق ، التي استعصى على الفكر العربي الحديث و المعاصر حل ألغازها، سواء في مغربنا الأقصى ، أو في عالمنا العربي، كما هو مفتاح للفهم الصحيح للدين و العلم و الفلسفة. تلك هي الفكرة التي أعلن عنها الجابري ، منذ أول قراءة له لابن رشد ، و ظل وفيا لها إلى آخر حياته.