أود في البدء أن ألمّح إلى أن هذه الورقة المتواضعة (*)، أردتها زهيدة في التركيب و التلوين، كي تكون كلمتي موصوفة بالإشارة فحسب، الإشارة إلى ما حققه الكاتب المغربي إدمون عمران المليح في مجال الثقافة البصرية، و خاصة منها تلك التي تنبثق من الفكر في الفن، ذلك أن نصوصه التي أنتجها حول اللوحة، أو حول العمل الفني عموما، تعتبر نصوصا فعالة في حقل النقد الفني، و مرجعا لا يخلو من مصداقية بالنسبة للمهتم و الناقد و الباحث على حد سواء. إذا كان المرحوم الفنان أحمد الشرقاوي يمثل الريادة بامتياز في التصوير المغربي المعاصر بناء على بحثه الرصين الذي جمع بين البعدين التراثي و الحداثي، فإن الدراسة القيمة التي أنجزها عمران المليح حول أعمال هذا الفنان، إلى جانب الدراسة التي أنجزها الأستاذ عبد الكبير الخطيبي، يتخذان نفس المنزلة ونفس الأهمية على مستوى استنباط عمق الأشياء، والبحث في جزئيات الأعمال، وعلى مستوى الإحاطة بمختلف الميكانيزمات التصويرية و التصوُّرية التي تؤثث العملية الإبداعية عند الشرقاوي (1) . تكمن أهمية دراسة عمران المليح، التي تنحدر إلى أواسط العقد السابع، في كونها مؤسسة في البناء، و شاملة من حيث طبيعتها المرجعية و المعرفية و التأملية. من ثم فهي تكتسي طابعا مزدوجا يقوم على حفر أركيولوجي يوفق بين الفنان باعتباره ذاتا خاضعة إلى تركيبة سيكولوجية و سوسيولوجية و ثقافية معينة، مع الأخذ في الحسبان الزمان و المكان من جهة، و العمل الفني باعتباره نتاجا جماليا مجددا من جهة أخرى. لذلك، و لأنه ملبوس بالرواية/بالسرد، يختار الانطلاق من فعل التخييل، تخييل الشرقاوي و هو طفل في وسط الأجواء « الشرقاوية »، ليجعلنا ( كقراء ) أوفياء لصحبته، و من دون أن يلغي وعيه بقصور البعد السَّير ذاتي، يصل بنا إلى شباب الفنان حين كان يمتهن حرفة الخطاط، كي يتبدل الخطاب، و يتخذ مجرى التحليل و التأويل بدءا من حديثه عن الخط العربي بوصفه وجها أصيلا للحضارة العربية الإسلامية، إذ لا يني يكشف عن بعده الطقوسي/الصوفي الذي يمثل التجسيد لكلمة الله. فمن خلال قيمة الخط الكامنة بين الديني و الرمزي، يوضح وضع الشرقاوي في كونه ظل يبحث عن شخصيته كرسام و عن شخصيته كمغربي، و كيف كان الخط نقطة حاسمة بالنسبة لعلم الجمال المتعلق بثقافتنا الوطنية و لفن التصوير المغربي و لأحمد الشرقاوي. في حين تحدث عن مرحلة استغلال الزخرفة عند المصور، و أكد على وظيفتها الرمزية و تداخلها بصناعة الأيقونات، و على بعدها الجمالي في الفن الإسلامي، حيث تبني لنفسها لغة تشكيلية و جمالية، بخلاف الأيقونة في الفن المسيحي، حيث تقوم على التشخيص، موضحا انتقال الشرقاوي من الخط إلى الرمز ( أو من الخط إلى العلامة )، و ذلك ضمن علاقة الرمز بالمبادئ التجريدية التي تعتبر قمّة درجات التعبير الجمالي، و في علاقته بعنصري الحركة و التطور، و أيضا الرمز في علاقته بالموروث ( الوشم، تفناغ، الرموز المتعلقة بمختلف الصناعات التقليدية.. ). و لإظهار الجانب الصوفي في عمل الشرقاوي، يعود بنا عمران المليح إلى رؤى الحلاج، المتصوف الكبير، ليكشف لنا كيف تموقع الشرقاوي أمام مبدإ اللامعقول في الكتابة المقدسة و رغبته في تطويعها لتجيب عن إرادة دنيوية، مؤكدا من خلال ذلك كله، أنه لم يكن رجل فكر و لا صاحب نظريات فنية، بل ظل يمثل نوع المبدع الذي تشفع له معرفته بقيمة اللون و ما يثير من لذة، و كذا حساسيته بمعنى الرمز و ما يمتلك من عمق، لذلك أمست المعينات و الدوائر و الخطوط و النقط عناصر متحركة و متحدثة عن كيان اجتماعي بعينه، و متكلمة بلسانه. من ثم كان يستقبل الرمز في مختلف تجلياته وفي شتى مظاهره المحسوسة « كتجربة عاشها في داخله، و عاشها في صميمها باعتبارها أثرا لتجربة وجودية، و دليلا عليها » (2). هذا من جهة، و من جهة أخرى، لابد من الإشارة -في هذا السياق -إلى أن الفضل في « اكتشاف» الفنان خليل غريب، أو لأقل، بروزه داخل النسيج التشكيلي المغربي المعاصر، يعود بشكل أساس إلى الأستاذ عمران المليح من خلال كتابه القيم الذي خصَّه لأعمال هذا الفنان و الموسوم ب: Loeil et la main العين و اليد ) (3 ). لذات القصد، و قبل أن يتوغل عمران المليح في الحديث عن أعمال خليل غريب، يستهل مؤلفه بنص عام حول التصوير المغربي المعاصر لينبه بأن الأمر لا يتعلق بمدرسة، ولا بمجموعة مصورين ( peintres ) يعملون على تحديد ميولاتهم المشتركة، بل التصوير ( La peinture) نفسه، هو الخط المشترك و المتميز في الحين ذاته، باعتبار ذلك النتيجة المثمرة من وراء تنوع التجارب و المسار الخاص بكل مصور، مشيرا إلى أن التصوير المغربي، في الوقت الراهن، ينبغي تقييمه من خلال النتاجات نفسها و ليس استنادا إلى ما يقع في باريس و نيويورك. من هذا الباب، يُمَوْقِع خليل غريب ضمن قائمة الأسماء الفاعلة في التصوير المغربي ( على المنوال التالي: الشرقاوي، الغرباوي، مليحي، بلكاهية، ميلودي، ربيع، قاسمي، بلامين، يمو، غريب ). من خلال التحليل و التأويل المتبصرين، يقحمنا عمران المليح في عوالم خليل الملغزة بغير قليل من الغرابة و الغموض، موضحا انزياحها عن أي معنى ذي طابع ثقافي، ملحا على تقريبنا من لا محدودية التأمل عند المصور، و لا محدودية تعريف عمله في أحايين كثيرة، فلا بالقماشة و لا باللوحة يمكن تحديده، حيث يجسد ذلك باعتباره المبدع الحالم، المرتبط بنفسه و الحامل لسر تاريخه عبر عمله. يصفه المليح بشجرة التين لكونه يعكس ألوان أصوله، و من ثم ينبعث النَّبر الفاهيمي و النبر الصوفي في « كائناته » التي يصنعها من مواد خاصة و نوعية ( الجير، الطباشير، النيلة، أصفر البيض، السمق، مواد نباتية... ). يضيف عمران المليح أن خليل لا يتصور الدوام، إذ في تصويره الذي ينبني على حس داخلي، يجد خليل طريقته الجمالية في الإعلان عن الصمت، الانتظار، الاختفاء، و يختزل المليح كل هذه الالتباسات بالحسم في كون تصويره لا يخضع إلى أي قرار مجازي أو رمزي. أكتفي بهذه الإطلالة السريعة، في هذا المقام الاحتفالي، كي أخلص إلى أن كاتبنا المحتفى به، في قدرته على الإبحار في أجواء الجمال المرئي، لا يمتلك إلا أن يرصد العمل الفني الأصيل و الطريف الذي يقوم على الحس الصوفي، الحس الروحاني الذي ينبعث من الباطن، و يخترق العمل الذي يستنير من العتيق لينسج الحديث. و لعل نصوصه النقدية الفنية تكشف لنا عن صفاء الروح الذي يَنهل من الجذور و التراث، و يَنسجم في ذات الحين مع كل ألوان الحداثة: إنه الانسجام القائم على الاطلاع و التشبع بالرؤى و المتون المعاصرة (الأدب عامة، تاريخ الفن، فلسفة الفن، النقد الفني... ). هذا بالإضافة إلى لغته الفرنسية التي يجد لها أكثر من تركيب و توليف ليجعلها طيعة، خدومة لثقافته و أصوله و أصالته. بالطبع، إن هذه الكلمة المقتضبة، لن تستطيع أن تستوفي حق الكاتب /الشاعر إدمون عمران المليح (الشاعر في سرده و نثره )، لما أسداه من مجهود فعال للثقافة البصرية من جهة، وللأدب والإبداع الإنسانيين من جهة أخرى حسبي أن أجعل منها - في هذا المقام - السند الذي أقدم بوساطته تحية حب و تقدير. هوامش: * يتعلق الأمر بالكلمة التي ألقيتها في اليوم التكريمي الخاص بالكاتب المغربي إدمون عمران المليح، نظمه مركز تواصل الثقافات، 13 مارس 2001، الرباط 1 - تصوير أحمد الشرقاوي، نصوص: إدمون عمران المليح ذ عبد الكبير الخطيبي ذ طوني مرايني، éd. Shoof، 1976 2 - إدمون عمران المليح، ibid، ص: 33/168 3 - , ed la pensée sauvage, 1993 et la main Loeil