زاوية أسبوعية تسلّط من خلالها الدكتورة خديجة موسيار، اختصاصية الطب الباطني وأمراض الشيخوخة الضوء على مجموعة من الأمراض بتعدد أنواعها وأشكالها التليف الكيسي، هو مرض وراثي يؤثر على نوعية إفرازات الجهاز التنفسي والهضمي، والغدد العرقية، وغيرها من الأجهزة، بحيث يغير المرض طبيعة المخاط والعرق، والإفرازات الأخرى، ويؤثر بشكل رئيسي على الرئتين والبنكرياس، وقد يصيب الكبد ويزيد من فرصة الإصابة بالسكري، وهشاشة العظام و العقم عند الرجال ، كما يصبح المخاط سميكا جداً مع صعوبة في تدفقه، فيوفر بيئة ملائمة لتكاثر الجراثيم، مما يجعل المرضى أكثر عرضة للإصابة بالعدوى خاصة على صعيد الرئتين، حينها تبدأ الحلقة المفرغة التي تحضر فيها التعفنات المتكررة فتساهم هي بنفسها في تغير الإفرازات، وفي تعفنات جديدة. ويحول انسداد قنوات البنكرياس بفعل سمك المخاط دون وصول الانزيمات الضرورية لهضم الطعام خصوصا البروتينات والدهون من البنكرياس إلى الأمعاء، مما يؤثر على امتصاص المواد الغذائية مولدا مشاكل سوء التغذية وانتفاخ البطن والإمساك، كما تتغير طبيعة إفراز الغدد العرقية فيصبح العرق مالحا بسبب اختلال إفراز الأيونات المختلفة وهو أول ما يلاحظه الأبوين عادة خلال تقبيل الطفل، الأمر الذي قد يتسبب بمشاكل صحية كالجفاف. ويؤثر التليف الكيسي على طفل واحد من كل 4500 ولادة ، وعلى كلا الجنسين بالتساوي، وهو ينتج عن خلل في الجين المسؤول عن تصنيع البروتين الذي يتحكم بحركة الماء والأيونات «الصوديوم والكلور»، وطبيعة المخاط. وينتقل التليف الكيسي بطريقة متنحية، وتتطلب الإصابة بالمرض أن يحمل كلا الوالدين هذا الجين، في هذه الحالة يكون هناك خطر لانتقال المرض مع كل حمل، لطفل من كل أربعة. ورغم أن المرض وراثي، لكن بدايته تكون في أعمار مختلفة حسب الحالات، إما عند الولادة، أو في وقت لاحق خلال الطفولة أو حتى عند البلوغ في الحالات الأقل شدة والتي تعد نادرة جدا، علما أنه يمكن أن يشخص المرض قبل الولادة، ابتداء من الأسبوع 20 من الحمل بفضل الفحص بالموجات فوق الصوتية . ومن علامات المرض عند حديثي الولادة، تأخر خروج البراز الأول أو انسداد الأمعاء لكونه أكثر سمكا من المعتاد. وعند الأطفال الصغار، يحدث سعال مزمن، قد يصاحبه صفير بسبب انسداد الشعب الهوائية الصغيرة، كما قد تحدث التهابات متكررة للشعب الهوائية للرئة، فضلا عن نقص في الوزن على الرغم من شهية التي قد تكون كبيرة، ويصبح البراز ذو رائحة كريهة مع حجم كبير، وأحيانا دهنيا مع آلام في البطن. ويمكن أن تؤدي اضطرابات الجهاز الهضمي إلى سوء التغذية مع قصور متعددة، بما في ذلك نقص في الفيتامينات التي تحتاج الدهون لاستيعابها «أ»، «د»، «أو»، «ك»، ويمكن لسوء التغذية هذا أن يعرقل نمو الطفل، الذي قد يعاني من الإمساك وليس الإسهال، وذلك نتيجة لسمك إفرازات الأمعاء ، الأمر الذي من الممكن أن يتفاقم بسبب الاجتفاف خصوصا في الطقس الحار. وتختلف اللوحة السريرية عند المراهقين والبالغين من مريض لآخر، مع إصابة عضو واحد أو أكثر، كما قد تسبب التهابات الشعب الهوائية مشكلا مزمنا في الرئة مع سعال مستمر وتعفن بالبكتيريا أو بالفطريات، الذي ينتهي بضيق التنفس في أول الأمر خلال الجهد، وبعد ذلك حتى أثناء الأنشطة اليومية يمكن أن ينجم عن المرض التهاب متكرر للجيوب الأنفية، مع تكون الزوائد مما يعطي نزيفا أو إحساسا بانسداد الأنف. وتتحقق إصابة البنكرياس في 85٪ من الحالات، وخصوصا عندما يبدأ المرض في وقت مبكر من الحياة، ويمكن أن يؤدي انسداد قنواته الصغيرة إلى تدهور تدريجي في وظيفة البنكرياس تصل إلى قصوره مسببا الإسهال المزمن وآلاما في البطن، إضافة إلى أن اختلال البنكرياس يمكن أن ينجم عنه أيضا إفراز غير كاف من الأنسولين مع ظهور مرض السكري الذي يتطلب تسليم الأنسولين. وجدير بالذكر أن إصابة الأمعاء تؤدي إلى الإمساك الذي قد يصل إلى توقف كامل للبراز المرفوق بآلام في البطن، ويحدث في نسبة ما بين 15 و 20 في المئة، تلف في الكبد والقنوات الصفراوية، وتصبح الصفراء سميكة، كما تسدّ القنوات مما يقود إلى خلل في وظيفة الكبد، الأمر الذي يتطور في كثير من الأحيان إلى تليف الكبد الصفراوي الأولي، مما يتسبب في آخر المطاف وفي غياب العلاج إلى زيادة الضغط في الوريد البابي، وحدوث الدوالي في المريء. ويسبب المرض العقم عند الرجال في نسبة 98٪ من الحالات، وذلك نتيجة لانسداد القنوات على مستوى الخصيتين التي من خلالها تنتقل، كما قد يحدث عند النساء بصفة نادرة عقم ناتج عن سماكة مخاط عنق الرحم، مما يجعل من الصعب وصول الحيوانات المنوية إلى الرحم، فضلا عن آلام والتهاب في المفاصل. ويشخص التليف الكيسي من خلال اختبار العرق الذي يقيس كمية الملح، وأساسا الكلور في العرق، وهو اختبار سريع وغير مؤلم ويتميز بالإيجابية تقريبا في كل حالات التليف الكيسي، ويكون الاختبار إيجابيا عند المصابين منذ الولادة ويبقى كذلك طوال الحياة. وفي الختام يجب أن نعلم بأن التليف الكيسي هو مرض تقدمي يستلزم التكفل الجيد ويخضع مند سنوات في البلدان المتقدمة للرصد الممنهج عند الولادة، إذ أنه في غياب هذا الدعم، تتكرر حلقات العدوى والانسداد المزمن للشعب الهوائية، ويؤدي إلى تدهور هيكل الرئة وتليّفها مع توسع القصبات، كما قد يقود في الحالات المتطورة إلى عملية زرع الرئة التي تكون هي الخطوة الوحيدة لإنقاذ الحياة.