يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. أرى الأيام لاتُدني.. قال محمد بن أمية: كنت جالسا بين يدي ابراهيم بن المهدي فدخل إليه أبو العتاهية، وقد تنسك ولبس الصوف، وترك قول الشعر إلا في الزهد، فرفعه ابراهيم وسُرَّ به وأقبل عليه بوجهه، فقال أبو العتاهية: أيها الأمير، بلغني خبر في ناحيتك من مواليك يُعرف بابن أمية، يقول الشعر وأنشدت له شعرا فأعجبني، فما فعل؟ فضحك ابراهيم ثم قال: لعله أقرب الحاضرين مجلسا منك. فالتفت إلي فقال: أنت هو؟ فديتك! فتشوَّرتُ وخجلت وقلت له: أنا محمد بن أمية جعلت فداك! وأما الشعر فإنما أنا شاب أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة كما يعبث الشاب، فقال لي: فديتك! ذاك والله زمان الشعر وإبانه وما قيل فيه فهو غرره وعيونه، وما زال ينشطني ويؤنسني حتى رأى أني قد أنست به. ثم قال لابراهيم بن المهدي: إن رأى الأمير - أكرمه الله - أن يأمره بإنشادي ما حضر من الشعر، فقال لي ابراهيم بحياتي يا محمد أنشده فأنشدته: رب وعد منك لا أنساه لي وأوجب الشكر وإن لم تفعل أقطع الدهر بظن حسن وأجلي غمره ما تنجلي كلما أملت يوما صالحا عرض المكروه لي في أملي وأرى الأيام لا تدني الذي أرتجي منك وتدني أجلي فبكى أبو العتاهية حتى جرت دموعه على لحيته، وجعل يردد البيت الأخير منها وينتحب، وقام فخرج وهو يردده ويبكي حتى خرج إلى الباب!