أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. رابعا : أحد الفروق الهامة بين الحرب العراقية الإيرانية والنزاع المغربي الجزائري هو أن الأولى تستقطب جهود وطاقات الشعبين العراقي والإيراني وتهم الرأي العام في بلاد الخليج، والثاني يشكل صراعا مفتوحا بين الحكومة الجزائرية من جهة والدولة والشعب المغربي من جهة ثانية. وفي كلمات أخرى، فإن وحدة التراب الوطني في المغرب هي موضوع إجماع وطني بين الحكومة والمعارضة وهي مسألة تمس السيادة الوطنية، ولا يملك أي طرف تحت أية ذريعة إمكانية التفريط فيها أو المساومة حولها، بينما مقولة تقرير المصير والاستقلال الصحراوي ليست سوى سياسة رسمية ورثتها القيادة الجزائرية الحالية عن عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. وهذا الفرق في موقع المشكلة من الاهتمامات الرسمية والشعبية، هو أصل سوء التفاهم المزمن بيننا وبين جيراننا. تستطيع الحكومة الجزائرية أن تجد صيغة لحفظ ماء الوجه، تمكنها من معالجة الخطأ الذي ارتكبه هواري بومدين، حين جند الدولة الجزائرية كلها وسخر إمكانياتها في سبيل إنشاء كيان صحراوي مستقل بجنوب المغرب. ولا يمكن للدولة المغربية أن تتنازل عن أي شبر من أراضيها، لأن معنى هذا التنازل أنها تعصف بأسس وجودها التاريخي ، وهو سلوك انتحاري لا تقدم عليه الدول. إن الدول لا تنتحر. في الجزائر، تشكل المسألة الصحراوية مشكلة داخلية، بمعنى أنها تثير حساسيات وخلافات بين التيارات المختلفة المتعايشة داخل الحزب والدولة والجيش حول الطريقة الواجب اتباعها للخروج من المأزق. وفي المغرب، تتجسد القضية في موقف وطني عام يثور الجدل داخله فقط حول التفاصيل، أي حول الاعتبارات العملية التي من شأنها أن تحفظ للبلاد وحدتها الترابية. والخطأ الذي ارتكبه الرئيس السابق هواري بومدين، هو أنه تصور إمكانية حدوث تصدع في الجبهة الداخلية المغربية حول المسألة الوطنية. والخطأ الثاني هو المراهنة على احتمال ضعف هذه الجبهة إلى درجة ترغم المسؤولين الرسميين على التنازل للأطروحة الانفصالية. ولو أن الرجل قرأ تاريخ المغرب الحديث، لأدرك أنه يزج بنفسه وببلاده في طريق مسدود. وإذا كانت الجزائر الرسمية تعيش بحكم وضعها الجغرافي عقدة التطويق وتنظر إلى الأمور من هذه الزاوية، فإن المغرب يعيش منذ سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر عقدة التمزيق، ولا يمكن لمسؤوليه أن يتلاعبوا بمصير أية قطعة من أرضه إلا إذا قرروا عن وعي أو غير وعي المقامرة بمصيرهم. مأزق النزاع المغربي الجزائري يمكن تلخيصه في هذه الثنائية الهندسية الصارمة الأخرى : انتصار المغرب الساحق عسكريا ونجاحه في إعمار أقاليمه الصحراوية وإقرار الأمن فيها وتخطي رأيه العام ومؤسساته الرسمية وقواه السياسية المؤثرة نقطة اللاعودة في موضوع وحدته الترابية، مقابل تسجيل الجزائر، بفعل نفوذها المعنوي الموروث عن صيت نضالها البطولي في العالم الثالث وبفضل إمكاناتها المادية انتصارا هائلا على الصعيد الدبلوماسي، يتجلى في شلال الاعترافات المتوالية بما يسمى بالجمهورية الصحراوية. وإذا كان نجاح المغرب العسكري يكرس صحة المبدأ القائل «ما ضاع حق وراءه طالب»، فإن تمكن الجزائر من إقناع جزء هام من الرأي العام في العالم الثالث وفي إفريقيا بأطروحتها المناهضة للوحدة الجغرافية والتاريخية المغربية، يؤكد هو الآخر أن الباطل المدجج بالأكاذيب والأموال والقوة العسكرية، يمكن أن يطمس الحقيقة لفترة طويلة عن أعين الناس. وهذا التقابل أو التوازي بين الانتصارين، أي بين انتصار الحق المغربي المستند إلى وقائع الجغرافيا والتاريخ العتيدة والمرتكز إلى الإرادة الشعبية والرسمية المعمدة بدماء الضحايا، وانتصار المنهج العملي الميكيافيللي، هو الذي يعطي لهذه الحرب طابعها البديل ويدرجها ضمن النزاعات التضليلية الملتهبة في المشرق والمغرب، لإبعاد الحريق عن المكان الوحيد الذي ينبغي أن يشتعل فيه إذا كان لا بد له من الاشتعال. إنها حقا وحكما وفعلا حرب أخرى بديلة، لأنها شغلت الجزائر عن المساهمة في تحرير فلسطين، وصرفت المغرب عن الهدف ذاته وأيضا عن معاركه الداخلية ضد التخلف. وحين أقول إنها شغلت الجزائر، فليس هذا التعبير ثمرة لشطحة قلم أو خبطة مزاج، وإنما هو تعبير عن حقيقة مؤلمة. إن الجزائر في شمال إفريقيا كانت مهيأة أكثر من غيرها، بحكم الوزن الأخلاقي الذي اكتسبته من كفاحها المرير لاختراق الساحة الدولية وتجنيدها من أجل القضية الفلسطينية، وهي قد فعلت ذلك حقا وما تزال تفعله، لكن تعبئة جهودها الدبلوماسية خلال السنوات العشر الماضية ضد المغرب وضد المغرب وحده من أجل إقامة جمهورية وهمية فوق الرمال، تجسد تبذيرا مجانيا للطاقة. وأعرف أن هناك من سيردون على هذا الكلام بالحديث عن سياسة المغرب الرسمية وهي سياسة تستحق بالتأكيد الكثير من النقد، إلا أنه ليس من العدل أن نحاسب المغرب بالقدر ذاته من الصرامة، لأنه منذ عشر سنوات وهو في حالة دفاع طبيعية عن النفس إزاء عدوان صادر عن جيرانه.. لسان حال المغرب يصرخ : «وظلم ذوي القُرْبَى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند». وما فعلته الجزائر، وبالتحديد رئيسها السابق هواري بومدين، هو ظلم صراح في حق بلد شقيق. ونحن ضد الحرب مبدئيا وبالمطلق، لكننا لا نقبل أبدا أن يتخذ هذا الموقف ذريعة لتفتيت كياننا الوطني. أما الحديث عن الصراع المزعوم بين الرجعية والتقدمية، بين الاشتراكية والرأسمالية وبين الثورة والإصلاحية، فهو من التحفيات التاريخية المسلية التي نعرف جيدا نتائجها العملية. إن الأخوة في الدين وفي التاريخ وفي العرق لا تبرر لأي كان أن يسطو على الآخر بحجة أن تمزيقه والمرور فوق جسده هو أقصر طريق للوصول إلى العدو المشترك. والرد الطبيعي الغريزي الذي يقوم به الإنسان وحتى الحيوان عندما يأتي الآخر، حتى ولو كان شقيقا وأخا كريما وجارا، ليعيث في أرضه أو في بيته الفساد هو أن يقاومه ويطرده. والذي حصل بين المغرب والجزائر، هو أن هذه الأخيرة حاولت وما تزال تحاول اقتطاع جزء أصيل من ترابه الوطني وتنصيب دولة-مسخ فوقه، بدعوى أن تلك المنطقة، وهي مغربية من قبل أيام يوسف بن تاشفين، كانت مستعمرة إسبانية منذ بداية هذا القرن، ولا بد أن تستقل وتنفصل تمشيا مع قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار. ولا نريد أن نخوض طويلا في الطابع الجدلي للنزاع، وإنما نود التركيز على خصوصيته باعتباره إحدى الحروب البديلة. قلنا إن هذه الحرب هي غلطة مدمرة ارتكبها العقيد هواري بومدين. ويمكن لنا أن نتحدث بإسهاب عن العناصر التكوينية لهذا الخطأ، وخاصة الحلم الذي راود الرئيس الجزائري بزعامة العالم العربي والعالم الثالث، واقتران نشوء ذلك الحلم بارتفاع أسعار النفط، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى «عقدة التطويق» التي انطلق منها هواري بومدين لتفجير الأزمة مع المغرب، وهي عقدة يبدو أنها تلعب دورها في رسم السياسة الجزائرية وتحريكها. «عقدة التطويق الجزائرية وعقدة التمزيق المغربية» يمكن أن يشكلا عنوانين خصبين أو زاويتين واسعتين ننظر من خلالهما إلى هذه الحرب المصطنعة التي لا مبرر لها. وعقدة التطويق البومدينية في سنة 1976، كان لها رمز مهيمن هو العقيد معمر القذافي، بمشاريعه وأحلامه وطموحاته ومبادراته الوحدوية الشاملة. هذه العقدة كانت أصل الخطأ، بالطبع هناك أسباب ظرفية عديدة مثل وفاة فرنكو المفاجئة واستقلال المستعمرات البرتغالية في إفريقيا وسقوط النظام الفاشي في لشبونة وبداية تحول المختار ولد دادة نحو المغرب، تحت تأثير نصائح وتوجيهات السياسة الفرنسية ومضاعفة العائدات النفطية، وأخيرا المسيرة الخضراء التي نسفت كل المشاريع السرية والعلنية حول مستقبل الصحراء، وهي كلها عناوين لفصول مثيرة لا شك أن دراستها المستفيضة والمتأنية قد تلقي أضواء كاشفة على بعض الجوانب المعتمة حتى الآن، من تكوين هذه الحرب وتاريخها، إلا أن الذي يهمنا ضمن السياق الذي نعالج فيه النزاع المغربي الجزائري، هو بعده العربي الذي يمنحه مشروعية الانتماء الأصيل إلى منظومة الحروب العربية البديلة. وللحقيقة والتاريخ، فقد كان معمر القذافي أول من قدم المال والسلاح إلى الشباب الصحراويين الذين أسسوا جبهة البوليساريو، في حين أن جزائر الرئيس هواري بومدين لم تهتم بتلك الجماعة بعد أن استرجع المغرب صحراءه. ويمكن أن تسود صفحات طويلة عن تاريخ الصراع الليبي الجزائري داخل البوليساريو، والأزمات الحادة التي انفجرت بين البلدين حول هذه النقطة، لكن ذلك أمر يخرج عن نطاق هذا الحديث. المهم أن معمر القذافي أراد أن يجعل من جماعة البوليساريو أداة لسياسته الوحدوية الشاملة في منطقة المغرب العربي وأن بومدين رأى في ذلك محاولة لتطويقه من الغرب. وخلال فترة التعاون الرسمي العلني بين ليبيا والجزائر حول الصحراء، قامت صراعات حادة غطتها المشاريع الوحدوية الموسمية التي كان الرئيس بومدين ينساق لها لتهدئة خاطر حليفه اللذود ومنافسه الإقليمي معمر القذافي. وهذا معطى جوهري وثابت من المعطيات المميزة للنزاع المغربي الجزائري، يضفي عليه ضمن سلسلة الحروب العربية البديلة سمات خاصة تجعله مرشحا للوثوب كل مرة تحت فعل تقلبات الصراعات الإقليمية والدولية في الشمال الإفريقي. رغم أنني لا أومن إطلاقا بالنظرية البوليسية لتفسير الأحداث، أي بذلك المفهوم السحري اللاعقلاني الذي يرى في التاريخ العربي مسرح عرائس تسكنه مجموعة من الدمى والبيادق المرصودة أو المحركة من الخارج، فإنني أقف حَيْرَانَ أمام هذا التوازي الهندسي الدقيق بين حرب الخليج وحرب المغرب العربي اللتين تشلان الطاقات العربية وتبددانها في معارك عقيمة تماما، مثل ما تهدر الحربان الأخريان، أي الحرب الأهلية اللبنانية والحرب الأهلية اليمنية القدرات العربية في معارك سخيفة ومكلفة. ولكنه قانون الحروب العربية البديلة.