التجمع الوطني للأحرار يستعرض قضايا الصحراء المغربية ويشيد بزيارة الرئيس الفرنسي في اجتماع بالرباط    جدل في البرلمان بين منيب والتوفيق حول الدعوة ل"الجهاد" في فلسطين    بنك المغرب ينفي اكتشاف أوراق نقدية مزورة بوكالته بطنجة    قرض ب400 مليون أورو لزيادة القدرة الاستيعابية لميناء طنجة المتوسط    الأمريكيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع لاختيار الرئيس ال47    أنفوجرافيك | أرقام رسمية.. معدل البطالة يرتفع إلى 13.6% بالربع الثالث من 2024    إسبانيا تواصل عمليات البحث وإزالة الركام بعد أسبوع من فيضانات    تحقيقات جديدة تهز كرة القدم التشيلية    بن صغير يكشف أسباب اختياره للمغرب    كَهنوت وعَلْموُوت    التساقطات ‬المطرية ‬أنعشت ‬الآمال ..‬ارتفاع ‬حقينة ‬السدود ‬ومؤشرات ‬على ‬موسم ‬فلاحي ‬جيد    رئيس الحكومة يستعرض إنجازات المغرب في التجارة الخارجية    "روائع الأطلس" يستكشف تقاليد المغرب في قطر    بنعلي.. الوزارة ستواصل خلال سنة 2025 العمل على تسريع وتطوير مشاريع الطاقات المتجددة    وزارة الاستثمار تعتزم اكتراء مقر جديد وفتح الباب ل30 منصب جديد    إسرائيل تعين يوسي بن دافيد رئيساً جديداً لمكتبها في الرباط    الاحتقان يخيم من جديد على قطاع الصحة.. وأطباء القطاع العام يلتحقون بالإضراب الوطني    مستشارو فيدرالية اليسار بالرباط ينبهون إلى التدبير الكارثي للنفايات الخضراء و الهامدة بالمدينة    "متفجرات مموهة" تثير استنفارًا أمنيا في بولندا    فن اللغا والسجية.. المهرجان الوطني للفيلم/ جوائز المهرجان/ عاشت السينما المغربية (فيديو)    الأرصاد الجوية تتوقع ارتفاع الحرارة خلال الأيام القادمة في المغرب    غير بعيد على الناظور.. حادث سير مروع يخلف عشرة جرحى    حقيقة انضمام نعية إلياس إلى الجزء الثالث من "بنات للا منانة        القفطان المغربي يتألق خلال فعاليات الأسبوع العربي الأول في اليونسكو    لهذه الأسباب.. الوداد يتقدم بطلب رسمي لتغيير موعد مباراته ضد اتحاد طنجة    أولمبيك أسفي يوجه شكاية لمديرية التحكيم ضد كربوبي ويطالب بعدم تعيينها لمبارياته    دقيقة صمت خلال المباريات الأوروبية على ضحايا فيضانات فالنسيا    وزيرة التضامن الجديدة: برنامج عمل الوزارة لسنة 2025 يرتكز على تثمين المكتسبات وتسريع تنفيذ إجراءات البرنامج الحكومي    حملة لتحرير الملك العام من الاستغلال غير المرخص في أكادير    كيوسك الثلاثاء | المغرب يواصل صدارته لدول شمال إفريقيا في حقوق الملكية        آس الإسبانية تثني على أداء الدولي المغربي آدم أزنو مع بايرن ميوني    الانتخابات الأمريكية.. نحو 83 مليون شخص أدلوا بأصواتهم مبكرا    صاعقة برق تقتل لاعبا وتصيب آخرين أثناء مباراة كرة قدم في البيرو    أداء إيجابي يستهل تداولات بورصة الدار البيضاء    استنفار أمني واسع بعد العثور على 38 قذيفة في ورش بناء    ترامب يعد الأمريكيين ب"قمم جديدة"    هاريس تستهدف "الناخبين اللاتينيين"    الهجوم على الملك والملكة ورئيس الحكومة: اليمين المتطرف يهدد الديمقراطية الإسبانية في منطقة الإعصار    تصفيات "كان" 2025.. تحكيم مغربي المباراة نيجيريا ورواندا بقيادة سمير الكزاز    على بعد ثلاثة أيام من المسيرة الخضراء ‮ .. ‬عندما أعلن بوعبيد ‬استعداد ‬الاتحاد ‬لإنشاء ‬جيش ‬التحرير ‬من ‬جديد‮!‬    افتتاح النسخة الثانية من القافلة السينمائية تحت شعار ''السينما للجميع''    «حوريات» الجزائري كمال داود تقوده الى جائزة الغونكور    نوح خليفة يرصد في مؤلف جديد عراقة العلاقات بين المغرب والبحرين    دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق من ذاكرة باهي 26
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 07 - 2016

أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك..
يتميز النزاع الجزائري المغربي عن الحروب البديلة الأخرى، أي عن الحرب العراقية الإيرانية (راجع عدد يوم الأربعاء الماضي من جريدة «الإتحاد الإشتراكي») والحرب الأهلية اليمنية والحرب الأهلية اللبنانية بجوانب خاصة به ويتصل معها في جملة من الخصائص المشتركة.
يأتي على رأس العناصر التي تعطي لهذا النزاع ملامحه الفريدة كونه حربا حقيقية غير معلنة رسميا بين الطرفين اللذين يخوضان غمارها فعليا منذ عشر سنوات. وسوف نركز في هذه الحلقة من أحاديثنا عن الحروب العربية البديلة على الأبعاد الإقليمية والخصوصيات الظرفية والعواقب الآنية والمحتملة للحرب، وأيضا على استعراض أوجه التشابه بين ما يجري في المشرق وما يحصل في المغرب، لعلنا نُوَفَّق إلى إعطاء صورة واقعية قدر الإمكان عن ظاهرة الحرب الطاغية في عالمنا العربي اليوم.
على العكس من الحرب العراقية الإيرانية الدائرة في الطرف الشرقي الأقصى من القارة العربية والناشبة في أعقاب خلاف معروف حول الحدود وحول الإختيارات السياسية الجوهرية للبلدين ضمن سياق صراع تاريخي يمتد من أيام الأكاسرة الفرس والمَناذِرَة العرب حتى العصر الراهن بين دولة عربية وأخرى غير عربية. ثارت الحرب في الشمال الإفريقي بين دولتين عربيتين إسلاميتين تنتميان إلى محيط جغرافي لغوي وعرقي واحد. وإذا كانت الحرب العراقية الإيرانية تضع في المواجهة دولة عربية هي العراق ودولة ذات طابع فارسي هي إيران، فإن الحرب الجزائرية المغربية تخص شعبا واحدا وتجري داخل أسرة واحدة.
جغرافيا وتاريخيا تدور الحرب العراقية الإيرانية في الهضبة الأسيوية الإيرانية وعلى تخوم البيئة الفيضية لوادي الرافدين، ويخوضها الفرس والأقوام المنضوون تحت قيادتهم باسم الإسلام، ويقاتل فيها العراقيون تحت لواء الدفاع عن العروبة. أما في الطرف الآخر، فإن الحرب تجري بين المغاربة والجزائريين المنتمين إلى البيئة الجغرافية الأطلسية الصحراوية إياها وإلى الثقافة والتاريخ العربي الإسلامي وإلى التقاليد والمجتمعات الأمازيغية. في المشرق العربي البعيد حرب بين أحفاد كسرى أنوشروان وأحفاد النعمان بن المنذر، وفي المغرب العربي حرب بين أحفاد طارق بن زياد وعبد المومن ابن علي. في الحرب العراقية الإيرانية، تتداخل العوامل القومية (العرب والفرس) مع العوامل المذهبية (السنة والشيعة) والاعتبارات الاستراتيجية الإقليمية (النفط والخليج) لتؤلف مزيجا من المواد القابلة للاشتعال. في الشمال الإفريقي، يسود الإسلام السني على قاعدة التعايش العربي الأمازيغي الذي تحطمت على صخرته كل المشاريع التقسيمية والإلحاقية (الظهير البربري في المغرب وسياسة الضم والفرنسة في الجزائر) وتقوم بيئة مثالية لتحقيق حد أدنى من التكتل والوحدة.
مع ذلك، قامت حرب غير معلنة بسبب غلطة قاتلة ارتكبها العقيد هواري بومدين حول مسألة الصحراء المغربية. لقد تصور الرئيس الجزائري أن استرجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية يهدد أمن الثورة الجزائرية ويخل بتوازن القوى في شمال غرب إفريقيا. وتلك نظرة إلى الأشياء تخلو تماما من الواقعية وتنطلق من تصور خيالي محض لا تسنده أية حجة مقنعة. إن المغرب حتى بعد استعادته لمناطق الصحراء، يكاد لا يتجاوز جغرافيا نصف مساحة القطر الجزائري، وهو لا يملك لا النفط ولا الغاز ولا البنيات التحتية المتطورة التي خلفها الفرنسيون لجيرانه. ولم تكن توجد في المغرب أية قاعدة لمعارضة جزائرية قوية على صلة بتيار متذمر في الداخل، من شأنها أن تخلق أية صعوبة للحكومة الجزائرية. ولو أن الأنانية القطرية الضيقة لم تتدخل في صياغة ردود الفعل الخاطئة، لتمكن بومدين من رؤية الأمور على حقيقتها وفي حجمها الطبيعي ولا كتشف أن عودة الأراضي الصحراوية المحتلة إلى وطنها الأصلي، كانت ستشكل عامل وئام وانسجام على صعيد المغرب العربي كله. وكان هذا الخطأ الفادح في التقدير هو الأصل في انطلاق النزاع والسبب في استمراره.
ولأننا نتناول هذا النزاع في سياق استعراضنا للحروب البديلة، فالذي يهمنا منه هو ما يميزه وما يجمعه مع تجليات الظاهرة الحربية العربية الواحدة والمتعددة في آن.
أولا : أنها تقوم بين قوتين متوازنتين نسبيا في الحساب الإجمالي الأخير. عدد سكان البلدين متقارب جدا إن لم يكن متساويا تماما (23 مليون في المغرب و22 مليون في الجزائر طبقا للإحصائيات الرسمية)، والدخل الوطني الخام مختل قليلا لصالح الجزائر بسبب ثروتها من النفط والغاز، في حين أن إيران تتجاوز العراق ثلاث أضعاف من حيث رقم السكان والثروة وتتجاوزه مرتين بالمساحة الجغرافية. معنى هذا أن الحرب المغربية الجزائرية تدور ضمن حالة توازن ثنائي من الصعب إدخال تغيير عليه، بينما تجري الحرب العراقية الإيرانية في حالة مختلفة تماما، أي على أساس خلل أصلي لصالح أحد الطرفين.
ثانيا : النزاع العراقي الإيراني هو حرب مواجهة شاملة بين دولتين غنيتين نسبيا بالقياس إلى المغرب والجزائر، تتيح لهما مواردهما النفطية والعائدات المالية المترتبة عنها اقتناء أسلحة متطورة والدخول في معارك تدميرية متبادلة. إضافة إلى ذلك، فإن وقوف الدول الخليجية بجانب العراق وتمكن إيران عبر تحالفات وصفقات وتنازلات من الحصول على الأسلحة والذخائر بواسطة أطراف عربية (سوريا وليبيا) ودولية (إسرائيل وأمريكا والأرجنتين وكوريا الشمالية وباكستان)، يمنح الطرفين هامشا واسعا من التحرك، ويفسر إلى حد ما إطالة أمد هذه الحرب. ولكون الحرب تدور بهذه الشمولية عند مدخل منطقة الخليج العربي، فهي تعبئ الطاقات العراقية والإيرانية والخليجية، وتملك قدرة ذاتية على التجدد. إنها في تعبير أدق تتوفر على عناصر الاستقلال الذاتي والتغذية المستديمة لطاحوناتها، وهما أمران يفسران جزئيا، عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لها ليس فقط لغياب مصلحة أو انعدام رغبة الأطراف النافذة في العثور على مخرج منها، وإنما لأن المتحاربين يمتلكان القرار، ولأن هذه الحرب الطويلة تؤدي إلى شل العملاقين الإقليميين في ساحة الشرق الأوسط.
ثالثا : لا يملك المغرب والجزائر الإمكانيات نفسها، ولا تحركهما الدوافع إياها وقيام حرب شاملة بينهما على الطريقة العراقية الإيرانية لا بد أن يؤدي إلى استقطاب دولي في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، قد لا يجر أي تدخل مكثف ومباشر لقوى خارجية، ولكنه سوف يجر بالتأكيد إلى توسيع بؤرة التوتر إلى الجيران.
وإذا كان العراقيون بحكم ما يملكونه من مصداقية في علاقاتهم مع الاتحاد السوفياتي وفرنسا، وبحكم تضامن أهل الخليج معهم. وإذا كان الإيرانيون بفضل مساعدة السوريين والليبيين وتواطؤ الإسرائيليين. إذا كان هؤلاء وأولئك يستطيعون أن يضمنوا لأنفسهم ما يحتاجونه من أسلحة ومعدات وتجهيزات، فإن المغاربة والجزائريون سوف يجدون أنفسهم (لا قدر الله)، في حالة قيام حرب شاملة بينهم، مضطرين للتوجه إلى حلفائهم، وقد يرغمون هؤلاء الحلفاء أو يقحمونهم في ورطة دولية لا يريدونها الآن. ونستطيع أن نسجل هنا وجود مفارقة في أوجه التشابه والتمايز بين حرب الخليج وحرب المغرب العربي، تتمثل في أن الأولى رغم أنها تدور حول المخزون النفطي الأهم في العالم على حدود فلسطين غربا والاتحاد السوفياتي شرقا، فهي بحكم القدرات الذاتية والإقليمية المحركة لها، تبدو في ظروف التوازن الراهن أقل قدرة على الاتساع والانتشار من نظيرتها الغربية.
وليس سرا أن المغرب يتسلح أساسا من أمريكا وفرنسا، وأن الجزائر تتزود من الاتحاد السوفياتي، ولا هو سر كذلك أن الأمريكيين نصحوا المغرب في أكثر من مرة بالاعتدال، وأنهم أظهروا تحت تأثير حساباتهم ومصالحهم المتنامية لدى الجيران تفهما لموقف الجزائر من نزاعها مع المغرب، على أن السوفياتيين اتخذوا موقفا متحفظا من الطرف الآخر. صحيح أن الدول الإفريقية والأسيوية والأمريكية الدائرة في حقل جاذبيتهم الإيديولوجي اعترفت جميعها بما يسمى بالجمهورية الصحراوية، لكنهم لم يُقْدِموا بعد على تلك الخطوة ولم تقدم عليها الدول الشيوعية الأرثوذوكسية، باستثناء يوغوسلافيا الخوارجية، ويشاع أن السوفياتيين نصحوا السيد محمد شريف مساعدية، الأمين الدائم للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، في منتصف شهر دسمبر الماضي بضرورة التفاهم مع المغرب.
هذا الاعتدال الأمريكي السوفياتي المتوازي مع النزاع الراهن في شمال إفريقيا الغربية العربية هو الترجمة العملية لمفارقة يمكن صياغتها في العبارة التالية : جيوب الجزائريين الاشتراكيين في أمريكا، وجيوب المغاربة الليبراليين في الاتحاد السوفياتي.
الجزائر تصدر أغلب كميات النفط والغاز اللذين يشكلان أكثر من 90 في المائة من عملاتها الصعبة إلى الولايات الأمريكية والدول الغربية الأخرى، مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا، فيما يصدر المغرب أهم كميات الفوسفاط، وهو المادة الاستراتيجية الوحيدة المتوفرة لديه إلى الاتحاد السوفياتي. تنتج عن هذه المفارقة ثنائية متوازية هندسية صارمة غريبة : العلاقة الأساسية للمغرب الليبرالي مع أمريكا الرأسمالية هي السلاح وليست المنافع الاقتصادية المتبادلة، والعلاقة الجوهرية للجزائر الاشتراكية مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي هي السلاح وليست المبادلات التجارية المربحة. المغرب -الحليف للولايات المتحدة الأمريكية سياسيا وإيديولوجيا- ليس لديه ما يبادله معها بل هو منافسها الأول فوق رقعة سوق الفوسفاط العالمية. والجزائر -الشقيقة إيديولوجيا للاتحاد السوفياتي من باب الأخوة في العقيدة الاشتراكية- ليس لديها ما تبيعه له، لأنها منافسته الأولى عالميا في حفل تسويق الغاز الطبيعي. المغرب وأمريكا حليفان سياسيا ومتنافسان اقتصاديا (بسبب الفوسفاط)، والجزائر وروسيا حليفان سياسيا ومتنافسان اقتصاديا (بسبب الصراع حول أسواق الغاز في أوروبا). وفي المحصلة، نجد أن المغرب تابع اقتصاديا لموسكو، والجزائر مرتبطة اقتصاديا بالولايات المتحدة. يبيعون الغاز والنفط لأمريكا ليشتروا به سلاحا من موسكو وواشنطن وفرنسا. والمغاربة يبيعون الفوسفاط للاتحاد السوفياتي ليقتنوا به سلاحا من أمريكا وفرنسا ومن دول غربية أخرى. ويقال إن مسافرا قدم من بلاد الشام على مجلس الإمام علي ابن أبي طالب وهو بالكوفة، فسأله صهر الرسول : «ما هي أخبار أهل الشام؟» وقد أجاب المسافر القادم من دمشق بجملة أصبح يضرب بها المثل لتصوير الحالات المبهمة : «قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية». ويمكن لنا أن نصوغ الموقف الأمريكي السوفياتي من النزاع المغربي الجزائري على غرار جواب المسافر الشامي فنقول في أسلوب عصري : «دولارات الأمريكيين للجزائر ليشتروا بها أسلحة سوفياتية موجهة أساسا ضد المغرب، وروبلات الروس للمغاربة ليحصلوا بها على أسلحة أمريكية وفرنسية يواجهون بها إخوانهم وجيرانهم». أوليست الأعمال هي الأعمال والمصالح هي المصالح، وأحوال السلم أنسب لها من أوضاع الحرب، ولذلك يفضل الخصمان اللدودان أن لا يخرج النزاع المغربي الجزائري عن حدوده الحالية المقبولة.
رابعا : أحد الفروق الهامة بين الحرب العراقية الإيرانية والنزاع المغربي الجزائري هو أن الأولى تستقطب جهود وطاقات الشعبين العراقي والإيراني وتهم الرأي العام في بلاد الخليج، والثاني يشكل صراعا مفتوحا بين الحكومة الجزائرية من جهة والدولة والشعب المغربي من جهة ثانية. وفي كلمات أخرى، فإن وحدة التراب الوطني في المغرب هي موضوع إجماع وطني بين الحكومة والمعارضة وهي مسألة تمس السيادة الوطنية، ولا يملك أي طرف تحت أية ذريعة إمكانية التفريط فيها أو المساومة حولها، بينما مقولة تقرير المصير والاستقلال الصحراوي ليست سوى سياسة رسمية ورثتها القيادة الجزائرية الحالية عن عهد الرئيس الراحل هواري بومدين. وهذا الفرق في موقع المشكلة من الاهتمامات الرسمية والشعبية، هو أصل سوء التفاهم المزمن بيننا وبين جيراننا. تستطيع الحكومة الجزائرية أن تجد صيغة لحفظ ماء الوجه، تمكنها من معالجة الخطأ الذي ارتكبه هواري بومدين، حين جند الدولة الجزائرية كلها وسخر إمكانياتها في سبيل إنشاء كيان صحراوي مستقل بجنوب المغرب. ولا يمكن للدولة المغربية أن تتنازل عن أي شبر من أراضيها، لأن معنى هذا التنازل أنها تعصف بأسس وجودها التاريخي ، وهو سلوك انتحاري لا تقدم عليه الدول. إن الدول لا تنتحر. في الجزائر، تشكل المسألة الصحراوية مشكلة داخلية، بمعنى أنها تثير حساسيات وخلافات بين التيارات المختلفة المتعايشة داخل الحزب والدولة والجيش حول الطريقة الواجب اتباعها للخروج من المأزق. وفي المغرب، تتجسد القضية في موقف وطني عام يثور الجدل داخله فقط حول التفاصيل، أي حول الاعتبارات العملية التي من شأنها أن تحفظ للبلاد وحدتها الترابية. والخطأ الذي ارتكبه الرئيس السابق هواري بومدين، هو أنه تصور إمكانية حدوث تصدع في الجبهة الداخلية المغربية حول المسألة الوطنية. والخطأ الثاني هو المراهنة على احتمال ضعف هذه الجبهة إلى درجة ترغم المسؤولين الرسميين على التنازل للأطروحة الانفصالية. ولو أن الرجل قرأ تاريخ المغرب الحديث، لأدرك أنه يزج بنفسه وببلاده في طريق مسدود. وإذا كانت الجزائر الرسمية تعيش بحكم وضعها الجغرافي عقدة التطويق وتنظر إلى الأمور من هذه الزاوية، فإن المغرب يعيش منذ سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر عقدة التمزيق، ولا يمكن لمسؤوليه أن يتلاعبوا بمصير أية قطعة من أرضه إلا إذا قرروا عن وعي أو غير وعي المقامرة بمصيرهم.
مأزق النزاع المغربي الجزائري يمكن تلخيصه في هذه الثنائية الهندسية الصارمة الأخرى : انتصار المغرب الساحق عسكريا ونجاحه في إعمار أقاليمه الصحراوية وإقرار الأمن فيها وتخطي رأيه العام ومؤسساته الرسمية وقواه السياسية المؤثرة نقطة اللاعودة في موضوع وحدته الترابية، مقابل تسجيل الجزائر، بفعل نفوذها المعنوي الموروث عن صيت نضالها البطولي في العالم الثالث وبفضل إمكاناتها المادية انتصارا هائلا على الصعيد الدبلوماسي، يتجلى في شلال الاعترافات المتوالية بما يسمى بالجمهورية الصحراوية. وإذا كان نجاح المغرب العسكري يكرس صحة المبدأ القائل «ما ضاع حق وراءه طالب»، فإن تمكن الجزائر من إقناع جزء هام من الرأي العام في العالم الثالث وفي إفريقيا بأطروحتها المناهضة للوحدة الجغرافية والتاريخية المغربية، يؤكد هو الآخر أن الباطل المدجج بالأكاذيب والأموال والقوة العسكرية، يمكن أن يطمس الحقيقة لفترة طويلة عن أعين الناس. وهذا التقابل أو التوازي بين الانتصارين، أي بين انتصار الحق المغربي المستند إلى وقائع الجغرافيا والتاريخ العتيدة والمرتكز إلى الإرادة الشعبية والرسمية المعمدة بدماء الضحايا، وانتصار المنهج العملي الميكيافيللي، هو الذي يعطي لهذه الحرب طابعها البديل ويدرجها ضمن النزاعات التضليلية الملتهبة في المشرق والمغرب، لإبعاد الحريق عن المكان الوحيد الذي ينبغي أن يشتعل فيه إذا كان لا بد له من الاشتعال.
إنها حقا وحكما وفعلا حرب أخرى بديلة، لأنها شغلت الجزائر عن المساهمة في تحرير فلسطين، وصرفت المغرب عن الهدف ذاته وأيضا عن معاركه الداخلية ضد التخلف. وحين أقول إنها شغلت الجزائر، فليس هذا التعبير ثمرة لشطحة قلم أو خبطة مزاج، وإنما هو تعبير عن حقيقة مؤلمة. إن الجزائر في شمال إفريقيا كانت مهيأة أكثر من غيرها، بحكم الوزن الأخلاقي الذي اكتسبته من كفاحها المرير لاختراق الساحة الدولية وتجنيدها من أجل القضية الفلسطينية، وهي قد فعلت ذلك حقا وما تزال تفعله، لكن تعبئة جهودها الدبلوماسية خلال السنوات العشر الماضية ضد المغرب وضد المغرب وحده من أجل إقامة جمهورية وهمية فوق الرمال، تجسد تبذيرا مجانيا للطاقة. وأعرف أن هناك من سيردون على هذا الكلام بالحديث عن سياسة المغرب الرسمية وهي سياسة تستحق بالتأكيد الكثير من النقد، إلا أنه ليس من العدل أن نحاسب المغرب بالقدر ذاته من الصرامة، لأنه منذ عشر سنوات وهو في حالة دفاع طبيعية عن النفس إزاء عدوان صادر عن جيرانه.. لسان حال المغرب يصرخ : «وظلم ذوي القُرْبَى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند». وما فعلته الجزائر، وبالتحديد رئيسها السابق هواري بومدين، هو ظلم صراح في حق بلد شقيق. ونحن ضد الحرب مبدئيا وبالمطلق، لكننا لا نقبل أبدا أن يتخذ هذا الموقف ذريعة لتفتيت كياننا الوطني. أما الحديث عن الصراع المزعوم بين الرجعية والتقدمية، بين الاشتراكية والرأسمالية وبين الثورة والإصلاحية، فهو من التحفيات التاريخية المسلية التي نعرف جيدا نتائجها العملية. إن الأخوة في الدين وفي التاريخ وفي العرق لا تبرر لأي كان أن يسطو على الآخر بحجة أن تمزيقه والمرور فوق جسده هو أقصر طريق للوصول إلى العدو المشترك. والرد الطبيعي الغريزي الذي يقوم به الإنسان وحتى الحيوان عندما يأتي الآخر، حتى ولو كان شقيقا وأخا كريما وجارا، ليعيث في أرضه أو في بيته الفساد هو أن يقاومه ويطرده. والذي حصل بين المغرب والجزائر، هو أن هذه الأخيرة حاولت وما تزال تحاول اقتطاع جزء أصيل من ترابه الوطني وتنصيب دولة-مسخ فوقه، بدعوى أن تلك المنطقة، وهي مغربية من قبل أيام يوسف بن تاشفين، كانت مستعمرة إسبانية منذ بداية هذا القرن، ولا بد أن تستقل وتنفصل تمشيا مع قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار. ولا نريد أن نخوض طويلا في الطابع الجدلي للنزاع، وإنما نود التركيز على خصوصيته باعتباره إحدى الحروب البديلة.
قلنا إن هذه الحرب هي غلطة مدمرة ارتكبها العقيد هواري بومدين. ويمكن لنا أن نتحدث بإسهاب عن العناصر التكوينية لهذا الخطأ، وخاصة الحلم الذي راود الرئيس الجزائري بزعامة العالم العربي والعالم الثالث، واقتران نشوء ذلك الحلم بارتفاع أسعار النفط، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى «عقدة التطويق» التي انطلق منها هواري بومدين لتفجير الأزمة مع المغرب، وهي عقدة يبدو أنها تلعب دورها في رسم السياسة الجزائرية وتحريكها. «عقدة التطويق الجزائرية وعقدة التمزيق المغربية» يمكن أن يشكلا عنوانين خصبين أو زاويتين واسعتين ننظر من خلالهما إلى هذه الحرب المصطنعة التي لا مبرر لها. وعقدة التطويق البومدينية في سنة 1976، كان لها رمز مهيمن هو العقيد معمر القذافي، بمشاريعه وأحلامه وطموحاته ومبادراته الوحدوية الشاملة. هذه العقدة كانت أصل الخطأ، بالطبع هناك أسباب ظرفية عديدة مثل وفاة فرنكو المفاجئة واستقلال المستعمرات البرتغالية في إفريقيا وسقوط النظام الفاشي في لشبونة وبداية تحول المختار ولد دادة نحو المغرب، تحت تأثير نصائح وتوجيهات السياسة الفرنسية ومضاعفة العائدات النفطية، وأخيرا المسيرة الخضراء التي نسفت كل المشاريع السرية والعلنية حول مستقبل الصحراء، وهي كلها عناوين لفصول مثيرة لا شك أن دراستها المستفيضة والمتأنية قد تلقي أضواء كاشفة على بعض الجوانب المعتمة حتى الآن، من تكوين هذه الحرب وتاريخها، إلا أن الذي يهمنا ضمن السياق الذي نعالج فيه النزاع المغربي الجزائري، هو بعده العربي الذي يمنحه مشروعية الانتماء الأصيل إلى منظومة الحروب العربية البديلة. وللحقيقة والتاريخ، فقد كان معمر القذافي أول من قدم المال والسلاح إلى الشباب الصحراويين الذين أسسوا جبهة البوليساريو، في حين أن جزائر الرئيس هواري بومدين لم تهتم بتلك الجماعة بعد أن استرجع المغرب صحراءه. ويمكن أن تسود صفحات طويلة عن تاريخ الصراع الليبي الجزائري داخل البوليساريو، والأزمات الحادة التي انفجرت بين البلدين حول هذه النقطة، لكن ذلك أمر يخرج عن نطاق هذا الحديث. المهم أن معمر القذافي أراد أن يجعل من جماعة البوليساريو أداة لسياسته الوحدوية الشاملة في منطقة المغرب العربي وأن بومدين رأى في ذلك محاولة لتطويقه من الغرب. وخلال فترة التعاون الرسمي العلني بين ليبيا والجزائر حول الصحراء، قامت صراعات حادة غطتها المشاريع الوحدوية الموسمية التي كان الرئيس بومدين ينساق لها لتهدئة خاطر حليفه اللذود ومنافسه الإقليمي معمر القذافي. وهذا معطى جوهري وثابت من المعطيات المميزة للنزاع المغربي الجزائري، يضفي عليه ضمن سلسلة الحروب العربية البديلة سمات خاصة تجعله مرشحا للوثوب كل مرة تحت فعل تقلبات الصراعات الإقليمية والدولية في الشمال الإفريقي.
رغم أنني لا أومن إطلاقا بالنظرية البوليسية لتفسير الأحداث، أي بذلك المفهوم السحري اللاعقلاني الذي يرى في التاريخ العربي مسرح عرائس تسكنه مجموعة من الدمى والبيادق المرصودة أو المحركة من الخارج، فإنني أقف حَيْرَانَ أمام هذا التوازي الهندسي الدقيق بين حرب الخليج وحرب المغرب العربي اللتين تشلان الطاقات العربية وتبددانها في معارك عقيمة تماما، مثل ما تهدر الحربان الأخريان، أي الحرب الأهلية اللبنانية والحرب الأهلية اليمنية القدرات العربية في معارك سخيفة ومكلفة.
ولكنه قانون الحروب العربية البديلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.