«نفحة يتحدث «كتاب للواء جبريل الرجوب المناضل الفلسطيني الذي قضى 17 سنة في السجون الإسرائيلية ،كتاب يؤرخ ويوثق لمعركة الأمعاء الخاوية التي خاضها المناضلون الفلسطينيون في هذه السجون الخالية من أي معاملة إنسانية ، ويؤرخ هذا العمل الذي خرج إلى حيز الوجود بعد 35سنة مرت عن هذه المعركة إلى هذه المرحلة من حياة فلسطين والفلسطينيين. اللواء جبريل الرجوب وفي حوار سابق أجرته معه جريدة «الاتحاد الاشتراكي» على هامش تكريمه من طرف جمعية المحمدية للصحافة والاعلام، وافق على نشر هذا الكتاب على صفحات جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وهو كتاب نشرته دار المناهج للنشر والتوزيع السنة الماضية. عن هذا الكتاب يقول اللواء جبريل الرجوب لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» إن السجون في إسرائيل، تمت صياغتها بهدف إيقاع الأذى النفسي والجسماني بالأسير الفلسطيني من خلال شروط حياة مادية صعبة وقاسية، ومعاملة عنصرية وحشية، العنف الجسماني والإذلال النفسي. فالسجون ظهرت كبدائل موضوعية لأعواد المشانق لتجريد المناضل الفلسطيني من إنسانيته. يوميا، وقد دفع هذا الأسرى إلى استئناف الإضراب من جديد، بأسلوب تصاعدي يبدأ بالامتناع عن الخروج للزيارة، ومن ثم الامتناع عن الحلاقة، ورفض الخروج لساحة الفورة، حتى يصل في النهاية إلى الامتناع عن تناول الطعام لفترة غير محددة، تنتهي بلتبية مطالب الأسرى. وقد استمرت سلسلة الامتناعات الأخيرة، باستثناء الامتناع عن الطعام، مدة 50 يوما، انتهت بنقل الأسرى المضربين إلى السجون الأخرى، خصوصا سجن بئر السبع الذي نقل إليه حوالي %80 منهم. وما أن انتصف شهر مارس 1973، حتى كان سجن بيت ليد قد أخلي تماما من المضربين الذين وجدوا في سجن بئر السبع ظروفا من المعاملة والإذلال لا تختلف عن تلك التي كانت سائدة في بيت ليد إلا بكونها أكثر سوءا. ففي سجن بئر السبع، كانت إدارة سجون الاحتلال ترغم الأسرى بقوة العصا على العمل في مرافق عمل إنتاجية. وفي بئر السبع، أيضا كان الضرب والحجز في الزنزانة ومنع الزيارات والحرمان من الحمام بالماء الساخن هو ما ينتظر الأسرى الذين يمتنعون عن العمل. في ظل ظروف كهذه، كان الأمر الطبيعي هو رفع مطلب حرية العمل إلى جانب المطالب الحياتية الأخرى، كالطعام والفورة والملابس وتوفير الماء الساخن عند الاستحمام. وفي 7 تموز 1973، أعلن خمسمئة أسير في سجن بئر السبع رفضهم الخروج لزيارة ذويهم، أو الخروج للفورة في الساحة. ورفض المضربون حلاقة الذقن والرأس، امتنعوا عن إرسال ملابسهم للغسيل. وفي أعقاب تلك الخطوة النضالية، بدأت محاولات إدارة القمع كسر الإضراب الاحتجاجي بالقوة، وأصبحت عمليات الضرب ممارسة شبه يومية. ويمكننا القول بثقة إنه ما من أسير شارك في الإضراب نجا من الضرب. وإضافة إلى الضرب، لجأت الإدارة إلى التالي: 1- إجراء تنقلات مستمرة بين الأقسام لخلق حالة من البلبلة بين صفوف الأسرى. 2- حلاقة ذقون ورؤوس الأسري بالقوة التي وصلت إلى حدود تشويه وجوه الأسرى بجراح الشفرات. 3- إيقاف سماع الأسرى لنشرات الأخبار وإيقاف تزويدهم بالصحف، وذلك لعزلهم المطلق عن العالم الخارجي، ووقف توزيع السجائر. 4- والأنكى من كل ذلك هو وقف تزويد الأسرى بالصابون، بما يعنيه ذلك من آثار سيئة على شروط النظافة، حيث يفرض ذلك قضاء الحاجة دون غسل اليدين بالصابون وتناول الطعام في الأواني دون غسلها أيضا. استمر إضراب بئر السبع مدة تسعة شهور، وكانت ممارسة العنف الجسماني ومحاولة الكسر النفساني هما لغة المخاطبة من جانب سلطات السجون. وقد تجاهلت السلطات كليا دوافع الإضراب الإنسانية، ولكنها واجهت بالمقابل عنادا وتصميما منقطع النظير من جانب الأسرى، مما اضطر سلطات الاحتلال، بعد أن استنزفت كل وسائلها، إلى التسليم ببعض المطالب والقبول بإدخال بعض التحسينات على شروط حياة الأسرى المادية، كما قبلت رغما عنها مطلب حرية العمل، عمليا. إن ما سبق ذكره من نضالات ومقاولات الأسرى ليس سوى عرض موجز للنشاطات النضالية الاعتقالية في هذه المرحلة، وبهذا تم التمهيد والتهيئة الطبيعية لرحلة نضالية تالية اتسمت بأساسيات وأهداف أكثر عمقا ونضوجا من سابقاتها، لاسيما أن حركة الأسرى قد اجتازت شوطا طويلا، كان من أهم نتائجه تقليص العنف الجسماني، والتمرد على الكثير من الظواهر الإذلالية، كقول كلمة "سيدي" قبل مخاطبة السجان، أو القبول بالتواجد في مرافق العمل الإنتاجية كرها. كما طرأ تحسن طفيف في شروط الحياة المادية للأسرى، ولكن في حدود بقاء الجوهري من هذه الشروط، كالسكن والازدحام والطعام والنوم والرعاية الطبية.. إلخ. إن عرض هذه الإضرابات، بما هي نماذج لتلك المرحلة، يجب أن لا يعني بأي حال أن نضال الأسرى قد اقتصر عليها. فالحقيقة أن تلك المرحلة كانت حافلة بنضالات سلمية مطلبية الأهداف والطابع، ولكنها لم تكن تصل إلى حدود الإضراب عن الطعام. وفي تلك السنوات الممتدة بين ربيع 1974 وخريف 1976، خطت حركة الأسرى خطوات واسعة هامة في كافة المجالات التي تخرج عن نطاق بحثنا، ومنها مجال واحد يهمنا إبرازه هنا، وهو تعمق الإدراك في أوساط الأسرى لأهمية التصدي، ليس لمظاهر منفرة في شروط حياتهم ومعاملتهم، وإنما لمجمل هذه الشروط وللسياسة التي تحددها. من هنا، يصبح مفهوما سبب صيرورة النضالات التالية جذرية حقا، تستهدف نسف شروط الاعتقال المادية بالكامل، بحيث تتساوى على الأقل مع تلك الشروط المادية التي يعيش السجناء اليهود في ظلها، وبحيث تتحقق عمليا تلك الفقرات في قانون السجون الإسرائيلي التي تنص على عدم جواز التمييز في شروط الحياة والمعاملة المطبق على السجناء. وعلى خلفية هذا الإدراك، ولتحقيق هذه الأهداف، جاءت المرحلة الثالثة من نضالات الأسرى، والتي لانزال نعيشها حتى هذه الأيام. 3- مرحلة الفعل هي مرحلة النضالات من أجل نسف شروط الاعتقال والمعاملة القائمة في سجون الأسرى الفلسطينيين، وذلك عن طريق مساواتها بتلك السائدة في السجون المخصصة للجنائيين اليهود. إن اختيارالأسرى لهدف المساواة عنوانا عاما لمطالبهم قد عكس ذاته، بالضرورة، على الوسائل المختارة لتحقق هذا الهدف. من هنا، كان طبيعيا أن يصير الإضراب المفتوح عن الطعام هو الوسيلة الرئيسية للنضال. فمن بين وسائل النضال المطلبي كافة، يبرز الإضراب المفتوح عن الطعام بوصفه أكثرها حدة ومضاء، بقدر ما هو أكثرها خطورة، ولذا فإن اللجوء إليه لا يتم إلا عندما يصل التصميم على تحقيق الهدف أقصى درجاته. إن الإضراب المفتوح عن الطعام، قبل أن يكون وسيلة ضغط على الخصم، هو وسيلة ضغط على الغرائز التي يتكون منها الإنسان بما هو كائن بيولوجي. وغريزة حب البقاء هي أقوى غرائز الإنسان إطلاقا. وعندما يشرع الأسير في إضراب مفتوح عن الطعام، فإنه يشرع في عمل يتناقض تماما مع أقوى غرائزه كإنسان ولكنه يكون قد شرع في الوقت ذاته في عمل يحقق به إنسانيته. فهذه الإنسانية ترفض أن يختزل الإنسان إلى مجرد كائن بيولوجي، كما ترفض العيش في ظروف مادية ومعنوية متردية كالتي تفرضها سلطات سجون الاحتلال على الأسرى الفلسطينيين، والتي يشكل استمرار خضوع الإنسان لها قبولا بالأهداف التي تستهدفها سلطات سجون الاحتلال إزاءهم. إن الإضرابات المفتوحة عن الطعام، والتي تعتبر العنوان النضالي لهذه المرحلة امتازت بطولها وقسوتها. فإضراب أسرى عسقلان، الذي بدأ في 1976/12/31 استمر لمدة 45 يوما. وقد انتهى هذا الإضراب بخديعة دنيئة من جانب أعلى المستويات في سلطات الاحتلال. فهذه السلطات وعدت بأن تنظر بإيجابية وجدية في مطالب الأسرى المضربين. وبعد أيام قليلة من توقف الإضراب، حضر الجنرال حاييم ليفي، مدير مصلحة السجون، وأعلم الأسرى بالمطالب التي حظيت بموافقته، والتي لم تمس الجوهري في شروط الاعتقال والمعاملة، مما دفع إلى استئناف الإضراب في 1977/2/24 لمدة عشرين يوما أخرى. إن المعاناة التي يتضمنها امتناع الإنسان عن الطعام مدة 45 يوما هي من الأمور التي يصعب على الإنسان أن يكتب عنها، بالرغم من إحساسه بأن ذلك ممكن.